}

ذكرى مئة عام على ولادة بوغومولوف: عن "أدب الخنادق"

سمير رمان سمير رمان 10 يوليه 2024
استعادات ذكرى مئة عام على ولادة بوغومولوف: عن "أدب الخنادق"
صورة فلاديمير بوغومولوف على طابع تذكاري

في الأدب، هنالك ما يسمّى "أدب الخنادق"، يخص فئة من الأدباء جعلوا من تجربتهم في جبهات القتال مرجعيتهم في التأليف. من هؤلاء كتابٌ من روسيا، مثل: بيكوف، باكلانوف، بوندارييف. وغالبًا، ما كان هؤلاء يخدمون في سلاح المدفعية، الأمر الذي يفسّر النسبة الكبيرة التي نجت منهم في الحرب، مقارنةً بالأدباء الذين خدموا في سلاح المشاة. وعلى الرغم من وجود عدد من القواسم المشتركة بين أدباء ذلك الجيل، فإنّه لم يكن في الإمكان تصنيف فلاديمير بوغومولوف (1924 ــ 2003)م أديبًا من "أدباء الخنادق".
ولد بوغومولوف في الثالث من شهر يوليو/ تموز في قرية، وكانت كنيته الحقيقية فويتنسكي. والده كان محاميًا في سان بطرسبرغ، وأصبح منظرًا قانونيًا. اعتقل فويتنسكي الأب عام 1938، وأصيب قبل موعد محاكمته بسكتة دماغية شديدة، وتوفي عام 1943 في مصحٍ للأمراض العقلية هو أقرب إلى السجن منه إلى المستشفى.
بعد أن ترك بوغومولوف الابن المدرسة، انطلق في رحلاتٍ عديدة، وغيّر كثيرًا من الوظائف، واجتاز امتحانات المرحلة الإعدادية كطالبٍ خارجي في مدينة سيفاستوبل. مع بداية الحرب، التحق فويتنسكي بتشكيلٍ شبه عسكري هو لواء الدفاع الجوي المحليّ، ومن هناك التحق بالجيش. تواجد في جبهة كالينغراد، حيث أصيب بجروحٍ بليغة كانت السبب في تسريحه من الجيش، ولكن ذلك لم يمنع من استدعائه عام 1943 للخدمة مرةً أُخرى. على الرغم من تاريخ أبيه، كان فلاديمير فويتينسكي، وقت استدعائه، مرشحًا لعضوية الحزب البلشفي. وأخيرًا، التحق للعمل في دائرة مكافحة التجسس. ووصل ضمن صفوف الجيوش السوفياتية إلى برلين، ولكنّ جبهة القتال ضدّ اليابان استعرت في مناطق تشيخوتكا، وشبه جزيرة ساخالين، فنقل إلى منشوريا. بعد الحرب، نقل مرةً أُخرى إلى منطقة كاربات غرب أوكرانيا، وهناك دخل السجن لمدة عام في سجن الوحدة العسكرية بسبب جدله مع رؤسائه، ليجد نفسه من جديد ضمن القوات السوفياتية في ألمانيا. وفي عام 1949، صدر أمر تسريحه لأسبابٍ صحية.
سيرته الذاتية مربكة للغاية، ليس فقط في شقها العسكري، وليس لأنّ فويتينسكي تحول في مرحلةٍ ما إلى بوغومولوف (لقب عائلة أمّه). بعد اجتياز امتحانات الثانوية كطالبٍ خارجي أيضًا، يترك القسم اللغوي في جامعة موسكو الحكومية، هذه مشكلة منفصلة في سيرة الكاتب الذاتية: ففيها تحلّ الأحداث محلّ الكتب. جوهر الموضوع ليس في سيرة الكاتب بوغومولوف المليئة بالمغامرات، ولكن في نثره المكتوب بشكلٍ جيد. لدينا هنا موضوعان اثنان: الأول هو العلاقة بين الواقع والعالم الفني، والثاني كيف تكتب القصّة البوليسية العسكرية واختلافها عن القصةّ المعتادة.




لم يترك بوغومولوف كثيرًا من المؤلفات، التي يمكن ضمّها في مجلّد واحد: رواية "إيفان" عام 1957، و"روسيا"، وعدد من القصص القصيرة (1963)، وكذلك رواية "في 14 من أغسطس 1944" التي نشرت عام 1973، والرواية التي نشرت بعد وفاته "حياتي.. أم أنّك راودتني في الحلم".
قصة "إيفان" تبدو كأنّها قصة مناقضة لحكاية عيد الفصح التي سبق وكتبها (كاتاييف) عن فان سوانتسيف. يبدو بطلا القصتين وكأنّهما ثنائي من بطلين يقفان على طرفي نقيض، كما هو حال: الحرب والسلام، والأسطورة والواقع. على الرغم من تشابه أسمائهما، يبدو البطلان الشابّان مختلفين تمامًا، اختلاف الشخص الحيّ عن ملفّه الشخصي بالمرفق بصفاتٍ رسمية نسبها لنفسه. ولكنّ المجلّد الورقي، غالبًا ما يكون أكثر متانةً من جسد الإنسان الحيّ الناعم والمرن. ولذلك، فإنّ الصبي في قصة بوغومولوف يسقط قتيلًا برصاص الجنود الألمان، بينما يتسلّق الصبي سوفوروف القادم من العدم، في قصّة كاناييف، درجات سلّم الوظيفة في المعهد المتوسط. يعترف كاتاييف بنفسه أنّ قصّة "إيفان" أفضل بكثير من قصته. أمّا قصة "لحظة الحقيقة" فقد أصبحت واحدًا من أفضل الكتب عن الحرب، وبالتأكيد أفضل قصةٍ عن أجهزة الاستخبارات السوفياتية.
يشبه هذا الكتاب قالب حلوى متعدد الطبقات. إنه قصّة بوليسية، وفيه كثير من الحكايات، وعدد من الحكايات الصغيرة اللطيفة عن أبطاله، مئات التفاصيل، وكثير من الوثائق المشهورة: الرموز المشفّرة والتقارير، التي كانت السبب، كما تقول الشائعات، في استجواب بوغومولوف من قبل رجالٍ حكوميين جادّين أرادوا معرفة كيف حصل على هذه الوثائق والتقارير. ببرودٍ وبساطة، أجاب الكاتب أنّه اخترع كلّ تلك الأوامر والشهادات من البداية إلى النهاية.
كتبت أشهر روايات بوغومولوف بطريقة مثيرة للاهتمام للغاية، فهي تتكلّم بأصواتٍ مختلفة، ويتسارع الوقت فيها، ويتباطأ، ولكنه في النهاية يطير كالحجر. ربع صفحات الرواية الأربعمئة تحكي قصّةً تجري أحداثها في الغابة، وتستمر نصف ساعةٍ من الوقت.
في تلك الرواية، هنالك روح العصر، وصرير سلاسل عجلاته. هنالك رائحة حلوة تنبعث من الجثث الكريهة، ورائحة مرّة يطلقها البارود. وهناك حركة مليارات الأوراق الحكومية، وحركة ملايين من البشر. هنالك كلّ ما مكّن بوغومولوف من كتابة حكايته.
لا تدور الرواية حول مكافحة التجسس، بل عن الدولة السوفياتية، وعن الأشخاص النموذجيين في ذلك الوقت "لحظة الحقيقة". هي في الأساس مزيجٌ من رواية الثورة الصناعية والإثارة النفسية. يكتب بوغومولوف عن مجموعة استطلاع معادية، كما يكتب آرثر هالي عن مطارٍ، أو عن فندق. وفي الوقت نفسه، فإنّ بنية الحبكة وتقنياتها أكثر تعقيدًا بكثير مما هو موجود في جميع الروايات التي كتبت إبّان حقبة الثورة الصناعية في ذلك الوقت. يبدو للقارئ أنّ ما يحدث قد تمّ تصويره بكاميرات عدة، فتتسارع حركة أبطاله باستمرار، وتصف الفصول الأخيرة بضع ساعاتٍ، أو كما يقال بضع دقائق من حياة الأبطال.
هنالك تفاصيل وعواطف تخلق صورة مجسّمة للظواهر. على سبيل المثال، موضوع المواجهة الداخلية بين الآلة والأشخاص الذين لديهم فهمٌ مختلف للخدمات التي تقدّمها هذه الآلة. يصرخ ضابط ميداني مقاتل، انتهى به الأمر في مكتب القائد بسبب إصابته، والذي سيقتل في غضون ساعة: لقد خضت المعارك مع الجيش طيلة أربع سنوات. لقد أتخمت من كثرة التفاصيل والتعليمات التي تخبرني بها حول اليقظة. أنا لا أتغذى وحسب، بل أفرطت في التغذية من تلك التعليمات! ومع ذلك، لم أر جاسوسًا واحدًا في المنام!... التقيت بفارّين مثيرين للشفقة، والتقيت بخونةٍ. لقد أطلقت النار على اثنين منهم.. رأيت أتباع فلاسوف ورجال شرطة مدنية، أمّا الجواسيس فلم أرهم أبدًا! أمّا أمثالكم من الصيادين فقد رأيت منهم قطعانًا: من عملاء المخابرات، رجال وزارة الداخلية، وبين رجال مكافحة التجسس، في مكاتب المدعيين العامين، في المحاكم.. وبين رجال الشرطة".
هنالك، أيضًا، رواية أُخرى مشهورة لبوغومولوف حظيت بشعبية كبيرة، ونشرت مئة مرّة، كما ترجمت إلى قرابة أربعين لغة.
الرواية التي خرجت من عباءتها قصص "لحظة الحقيقة"، و"تأرجح النواس"، و"قصف متبادل حسب الطريقة المقدونية".
في عام 2001، قلّد بوغومولوف جائزة أندريه سينيافسكي، كما منح في سنواته الأخيرة عددًا من الجوائز رفض استلامها بشكل مستمر. والسبب وراء رفض بوغومولوف الجوائز كما كان يردد: الابتعاد عن الجماهيرية التي تحولت إلى تحيّز.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.