}

يوسف سامي اليوسف: الإبداع في مجالات متعدّدة

عمر شبانة 22 يوليه 2024
استعادات يوسف سامي اليوسف: الإبداع في مجالات متعدّدة
يوسف سامي اليوسف (1938 ــ 2013)

(1)
يوسف اليوسف (1938 ــ 2013)
تعرّفت عليه في نهاية التسعينيات من القرن العشرين. لا أذكر أين؟ لكنه كان ما يزال يُعرف باسمه يوسف اليوسف.
أذكر أن اسمه المتعارف عليه، وكما عرفه جيلنا من الكتّاب والشعراء، في كتبه النقدية الشهيرة، كان يوسف اليوسف. ثمّ فجأةً وعلى حين غرّة قفز "ناقد" أراد حمل الاسم نفسه. غضب الناقد المعروف، لكنّه لم يرغب في الدفاع عن اسمه، فأضاف اسم (سامي) ليغدو اسمه يوسف سامي اليوسف. فكيف يتخلّى ناقد معروف عن اسمه الشهير لـ"ناقد" لم يكن يسمع به أحد؟ لعله التسامي والتخلّي، وفي اختيار اسم سامي شيء من هذا التسامي، فقد كان "أبو الوليد" زاهدًا في الدنيا كلّها، ينصبّ همّه وتنصبّ جهوده على الإبداع في مجالات متعددة، أبرزها النقد، مبهورًا بالتصوّف والروحانيّات حتى في مصطلحه النقديّ.
أحد عشر عامًا مرّت على رحيله الفاجع، بعد رحلة مع النقد الذي لا يشبهه أي نقد، بدءًا من قراءاته المختلفة والمتميّزة في الشعر الجاهلي ("مقالات في الشعر الجاهلي" عام 1975)، والغزَل العذري، ثم كتابه الأهمّ "ما الشعر العظيم؟!"، وكتاب "فلسطين في التاريخ القديم"، وصولًا إلى مذكّراته في كتاب من أربعة أجزاء أسماه "تلك الأيام" (دار كنعان ــ دمشق)، ومرورًا بالطبع في قراءته لإبداعات الشهيد غسّان كنفاني، في الرواية والقصّة، في كتابه الشهير "رعشة المأساة"، ورؤيته المتفرّدة للتراجيديا في أدب كنفاني. هي رحلة أمضاها الراحل في البحث والنقد والترجمة أيضًا، فضلًا عن رؤاه الفلسفية التي تتكئ على أعظم الفلاسفة، من أفلاطون وأرسطو وابن رشد وابن سينا، حتى نيتشة وسارتر، وعلى كبار المتصوّفين، من ابن عربي والحلاج، وسواهما.

(2)
ما الشعر العظيم؟


كنت أزوره في بيته، في حارة لوبية، في مخيم اليرموك الشهير. وكانت لنا لقاءات في مقهى ومطعم "لاتيرنا" (القنديل) الدمشقيّ الشهير، وفي نادي الصحافيّين، وفي نادي ونقابة الفنّانين في طلوع شارع المهاجرين، قريبًا من القصر الجمهوريّ. القصر الذي لنا معه حكايات دراميّة. ومنه كنا نسير إلى مطعم "بوز الجدي"، حيث الكوارع والفوارغ، في آخر الليل، بعد أن نكون امتلأنا بالشراب. وقد نعود مشيًا إلى مخيم اليرموك، مالئين الشوارع صخبًا وجنونًا.
توقفتُ وما زلت، كما توقّف أبناء جيلي، مطوّلًا وعميقًا أمام عنوان كتابه "ما الشعر العظيم؟"، وليس "ما الشعر"؟ وما الفرق بينهما؟ حيث يفترق في عنوانه وكتابه عن التعريفات الشائعة والسائدة للشعر، كما حددها النقاد العرب القدماء. منذ الإهداء، يمكن للقارئ الاهتداء إلى الروحانيّة فيه، فهو يهديه إلى الشاعر السوري المعروف عبد القادر الحصني "الطافح بالروح"، ثم يضيف إليه "حمَلة رموز النقاء في هذا الزمن الأعجف المعكور، بل إلى كلّ من يتحسّس أمراض هذا العصر المجذوم". فهي عبارات تنتمي إلى عالم روحانيّ غريب. ويدعونا للتأمّل في عوالمنا غريبة الأطوار.





ومنذ مدخل الكتاب، ينتبه القارئ لمنطلقات الناقد، حيث حكم القيمة النقديّ ينبجس من ينبوعين "أوّلهما نُبل الذائقة الوجدانيّة الخالصة، وأما ثانيهما فسعة اطّلاع الناقد وجملة ثقافته النازعة إلى الموسوعية والشموليّة". وهو الذي يكرر القول في مزاجيّة النقد، وذائقة الناقد، ينكر تمامًا المناداة "بنقد مزاجيّ يتسكّع في النصوص هملًا دونما ضوابط أو روابط". ولعلّ في استشهاده ببيت لأبي العلاء المعرّي ما يوضح ما يريده بالمزاج، وما يتعلق بالشك واليقين:
أمّا اليقين، فلا يقين، وإنّما
أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدسا...
إنه يتحدث بلغة الصوفية، الظاهر السطحيّ والماهية الجوهرية. وهو يذهب أكثر من ذلك إلى تعريف الناقد "الذوّاقة" الأندر، الذي يستبصر "النصّ العظيم"، ويفرق بينه وبين "النصّ الحقير"، بناء على القيم الشمولية والجزئية التي ينطوي عليها. ولعلّ من أهم مصطلحاته ذات الطابع الروحانيّ، ولكن المرتبط بالأرضيّ، وبعيدًا عن الماديّ "الذائقة الأطرى والحساسية الأنقى"، و"الارتعاشات الماسيّة للأشياء"، وهي مصطلحات نابعة من روحه النقيّة، ولا يمكن أن تجدها لدى ناقد آخر سواه. وهذا كله مرتبط بنظرة جمالية تعي ماهيّة الجمال، يقول في فقرة من كتابه هذا "إن الجمال أعلى من الشبق بكثير، ولكن دون أن يعني هذا تسفيهًا للشبق.. وأفضل ردٍّ أراه لدى بودلير في قوله "الجمال مبدأ تخطٍّ"، وهذا هو العلوّ الصوفيّ بالضبط".
ولكي يوضح أساس الشعر العظيم، والفن العظيم عمومًا، يأخذ مثالًا من الصوفية التي ترى في تزاوج امرأة برجل مجرد تواصل مع المطلق، مع ألطف آنائه وأسمى تجلياته. ويرى الفارق بين من يمارس هذا التزاوج حسب هذا المبدأ، وبين من يمارسه انطلاقًا من مبدأ الشبق وحسب... و"ذلكم بالضبط هو الفارق بين شاعرين، أحدهما عظيم والآخر عادي. فإن لم تكن على صلة وثيقة بينبوع الكون المستتب في مركزه تمامًا، بالنبع الذي تدفق منه الممكنات والمستحيلات برمّتها، فإيّاك أن تمارس الفنّ الذي هو بالضرورة عُسر ومشقّة، فقط لأنه محبّة مطلقة". فالشاعر العظيم عنده لا يمكن استيعابه "إلّا إذا كنت مزوّدًا بشعاعة روحيّة قبْلية مشتركة بينك وبينه... وهذه الشعاعة هي بلا ريب شرارة ذوقيّة جوّانية".
هكذا يكتب عن الشعر العظيم والشعراء العظماء وجماليّات الشعر، فماذا عن كنفاني والسرد والمأساة؟

(3)
في أدب كنفاني


من بين كتاباته النقدية، يستوقفني كتابه "رعشة المأساة"، قراءات نقدية في أدب غسان كنفاني عمومًا، ورواياته بصورة خاصة. نقد يجمع الأبعاد السيكولوجية والأيديولوجية والفلسفية، وصولًا إلى نتيجة لم يسبق لناقد الوصول إليها، وهي رؤيته لكنفاني بصفته صاحب مشروع التراجيديا الفلسطينيّة التي لم تكتمل بسبب اغتياله ــ استشهاده. ولعلّ قراءة اليوسف هذه في المأساة ــ التراجيديا الفلسطينية، هي القراءة الوحيدة التي انتبهت إلى هذا الجانب في أدب كنفاني. وهو إلى ذلك يرى إلى مشروع كنفاني هذا، بصفته مشروعًا في الأدب العالمي لم يكتمل، فهو يضعه في مصافّ الشعراء والروائيين العالميين، شكسبير، وفوكنر، وغيرهما.
وعلى اعتبار أن النقد يشتغل بتحليل النصوص أوّلًا، وليس بشرحها، فهو يذهب عميقًا في تحليل روايات غسان، بما يسمح برؤية الفارق بين روايته الأولى "رجال في الشمس"، وبين رواية "ما تبقى لكم"، على المستويين الفني والموضوعيّ، هذا التحليل الذي يشمل النفسانيّ والوطني والاجتماعي والفكريّ السياسيّ. وهنا عيّنة من الأسئلة التي يطرحها الناقد على أعمال كنفاني، والنقودات التي تعرّضت لهذه الأعمال: "أكتفي هنا بعرض أهم هذه الأسئلة: لماذا لم تعلن أي من تلك النقود أن "أم سعد" ليست رواية، وأن "عائد إلى حيفا" لا تعدو كونها قصة قصيرة؟ لماذا لم تكتشف هذه الدراسات أن غسان قد وضع حجر الأساس في صرح الأدب التراجيدي في ثقافتنا الناهضة، وذلك حين كتب "رجال في الشمس"؟ لماذا لم تتعامل النقود الموجهة إلى تراث غسان مع البناء الفني لأعماله الأدبية؟ لماذا لم تبحث في التقنية المدهشة التي استعملها غسان في "ما تبقى لكم"، ولا سيما من حيث العلاقة بين تناسج هذه الرواية، وبين مضمونها؟ والأهم في ذلك كله ما هي النواة المركزية في البناء النفساني لأبطال غسان (عقدة الذنب)؟ ما الذي أثبته غسان حين كتب "رجال في الشمس"، أعني ما هو الاكتشاف الفني الكبير الذي فتح الأنظار عليه؟ وبودي أن أجيب الآن عن هذا السؤال الأخير. لقد أثبت غسان ــ تطبيقيًا ــ أن الموضوع الفلسطيني لا يمكن النهوض به إلى أعلى ذروة ممكنة، ولا يمكن دفعه الى أقصى مدى يستطيع (الموضوع) أن يبلغه، إلا من خلال التراجيديا. وهكذا كانت "رجال في الشمس" أعظم عمل روائي كتب على الإطلاق في موضوعة فلسطين".




وباختصار شديد، يمكن النظر إلى رؤية يوسف اليوسف إلى غسان كنفاني ليس بكونه "يؤرخ نفسانيًّا لتطور هذا الروح في متاهة تردّيه، فقط، بل تأتي أهميته كذلك من أنه أول كاتب عربي استطاع أن ينقل الكارثة الفلسطينية إلى حيز الرواية التي يتحقق لها تكامل الشروط الفنية، وفي أنه كان أول من قدم فهمًا تطبيقيًا عميقًا للتراجيديا". هنا تجتمع لدى الناقد عناصر الروح بعناصر الواقع المأساوي التي تجسدت في اشتغالات كنفاني وانشغالاته الأدبية. وعلى سبيل المثال، فقد "جاءت الأحداث الدرامية في "رجال تحت الشمس" نتاجًا لفعل قوى تتمتع بميزة الحسم التاريخي، فالقوى العائقة لحركة وتنقل الفلسطينيين هي المسؤولة ــ أخيرًا لا أولًا ــ عن كارثة "الخزان"، والهزيمة التي مُني بها الفلسطينيون عام الكارثة، قد خلقت فيهم نوعًا من اللافاعلية يتحمل المسؤولية الكبرى عن الكارثة "الخزان"".
ولعلّ الأهم في هذا الكتاب هو استنتاج الناقد أن غسان كنفاني "قد كان يتطور تدريجيًّا صوب برهة تنتج النص التراجيدي، ولكن موته المبكر، وكذلك عدم تفرّغه للكتابة الأدبية، قد منعته من البلوغ إلى ذلك الطور اللازم لإعطاء النثر الفلسطيني سمة العالمية، أو الانتشار في الأقاليم والعصور. وأيًا ما كان جوهر الأمر، فإن مؤلفات غسان مكتظة بالعناصر التراجيدية الأصيلة القادرة على ملامسة الكونية".

(4)
يوميّات الفلسطينيّ


وأخيرًا، ومن بين كتاباته الأخيرة، نتوقف عند سيرته التي أطلق عليها اسم "تلك الأيام"، وجاءت في أجزاء، أربعة مجلّدات، تجعل من حياته أربع مراحل ومحطات، ففي الجزء الأول يتناول المرحلة الممتدة من ولادته 1938 حتى سنة النكبة 1948، والثاني من 1948 حتى 1975، والثالث من 1975 حتى 2007، ويتناول الرابع الفترة الأخيرة من حياته. ويتوقف فيها عند ملامح ومحطات من سيرته الأولى. السيرة التي حرص فيها على استظهار "جوهر" المشروع الصهيوني وطبيعته الاستعمارية، من خلال سيرة قرية فلسطينية صغيرة هي قريته "صورة القرية التي ولدت فيها، والتي رأيت بيوتها تتهاوى بيتًا إثر الآخر، لتتحول إلى حطام، بعدما عاركَتْهم طوال بضعة أشهر. ولكي تصان تلك الصورة لا بد من عرض كثير من التفاصيل ذات الصلة بالموقع والأرض المحيطة والبناء والعادات الاجتماعية...".

***

أتذكّره يبوح في حوار معه: "لم يؤسسني أفلاطون ولا أرسطو، ولا كانط ولا هيغل، ولا الدكتور جونسن، ولا ت. س. إليوت الناقد، ولا الآمدي ولا الجُرجانيّان، وإنما أسستني النكبة، أو الكارثة التي حلت بفلسطين سنة 1948".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.