}

نصف قرن على فيلم "كفر قاسم": في تاريخ المذابح

راسم المدهون 28 يوليه 2024
استعادات نصف قرن على فيلم "كفر قاسم": في تاريخ المذابح
الفيلم تمَّ تصويره في ريف محافظة طرطوس السورية

عام 1974 شاهدت فيلم "كفر قاسم" في سياق حضوري دورة "مهرجان قرطاج السينمائي" في تونس، وأذكر أنَّ الفيلم الذي تمَّ تحقيقه في نفس السنة نال جائزة "التانيت الذهبي" للمهرجان (مناصفةً مع الفيلم الموريتاني "عمّال عبيد"، لمخرجه محمد هندو عبيد)، مثلما نال جائزة "لجنة التحكيم الخاصة" في المهرجان.
تلك السنة بالذات كانت ذروة الصعود السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية على الصعيد العالمي، وهي ذات الفترة التي ألقى خلالها ياسر عرفات كلمته الشهيرة من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك وما شكَّله ذلك الحدث من بدايات التأييد المتعاظم لفلسطين وقضيتها.
ميزة فيلم "كفر قاسم" لمخرجه اللبناني الراحل برهان علوية ابن قرية "أميون" (وقلعتها قلعة شقيف الشهيرة) تبدأ من اختيار زمن المذبحة الدامية التي نفَّذها الجيش الإسرائيلي في قرية كفر قاسم في منطقة المثلث عشية العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة عام 1956، والتي أُريد لها أن تقمع فلسطينيي الجليل والمثلث والنقب وترغمهم على الصمت والخضوع.
هو اختيار فكري – سياسي ذهب بالضرورة نحو عالمين نقيضين: عالم كفر قاسم القرية – مسرح حدث المذبحة، وعالم الاحتلال وكان يحضر في صورة مباشرة من خلال الحكم العسكري وإجراءاته (الاستثنائية). والفيلم تناول الحياة اليومية في القرية الفلسطينية الضحية من خلال حياة أهلها كعمال زراعيين في أرضهم التي استولى عليها الاحتلال وحوَّلها لمستعمرات يسكنها المهاجرون اليهود القادمون من بلدان العالم. هو بهذا المعنى قدَّم قراءة فنية – اجتماعية في خارطة مجتمع القرية الصغير الذي شكَّل نموذجًا للمجتمعات الريفية الفلسطينية التي عاش أهلها تحت الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر وعانوا ويلات القسوة والإجراءات القمعية المباشرة دون أية حقوق سياسية أو اجتماعية حقيقية.
"كفر قاسم" القرية والمسرح الدرامي مجتمع فلسطيني مصغَّر يقدِّم صورة لفلسطينيي عام 1948 بكل ما آلت إليه أحوالهم السياسية والقانونية والمعيشية اليومية... فيلم برهان علوية يقدِّم صورًا من هموم وتطلُّعات أهل القرية وعلاقاتهم وما يعيشونه ويتفاعلون معه من أحداث سياسية أبرزها حرب العدوان الثلاثي على مصر وغزة عام 1956 بعد تأميم قناة السويس وتصاعد التوتر ومناخ الحرب. هنا بالذات يقدِّم الفيلم قراءته لخارطة سياسية هجينة في مجتمع "كفر قاسم" حيث تتوزَّع ولاءات الناس وحماستهم بين تأييد عاطفي يغلب عليه الحماس للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بعد خطوة تأميم القناة، وبين نشاطات الحزب الشيوعي من خلال عدد من أعضائه الأفراد، فيما لا ينسى دور القلة المتواطئة مع سلطات الاحتلال.




الفيلم تمَّ تصويره في ريف محافظة طرطوس السورية حيث لعبت قرية من قرى المحافظة دور "كفر قاسم" ولعب الأدوار التمثيلية فيه ممثلون سوريون قدَّموا أداءً مقنعًا نجح في رسم مشهد الحياة في شمال فلسطين في تلك المرحلة التاريخية الصعبة. الفيلم قام على حبكة روائية أعدَّ لها السيناريو والحوار المخرج علوية عن رواية كتبها الكاتب والشاعر السوري الراحل عاصم الجندي. ويلاحظ مشاهد الفيلم أنَّ المخرج اعتمد صيغة سينمائية تقوم على مقاربة فنية للواقع وتحاكي مشهديته من خلال بساطة التعبير والبعد عن "التأليف" فالحياة التي قدَّمها برهان علوية في فيلمه قامت على صياغة ما هو واقعي وبسيط ولكن ما يحمل الصدق والتعبير المباشر غالبًا، فيما ظلَّت المشاهد التي تحمل مغزى رمزيًا في الفيلم قليلة ومنسجمة مع السياقين الدرامي والتاريخي لواقعة المذبحة خصوصًا مشهد ذبح الخاروف فيما يمرُّ أمامه قطيع من الخراف؛ هو مشهد مؤثِّر اختاره وأداره علوية بفنية واقتدار أوصل المغزى التعبيري والفكري وأغنى الحدث الدرامي بزخم كبير أراه حقَّق المبتغى من غاية توصيل الأفكار والحقائق التاريخية.
سيظلُّ من مشاهد "كفر قاسم" المؤثِّرة بل بالغة التأثير "المحاكمة" الكاريكاتيرية التي عقدها المحتلون لمن نفَّذ المذبحة وهي المحاكمة التي جاءت بالحقائق التي جرت فعلًا والتي أصبحت مضامينها السياسية كما أحكامها جزءًا من الوثائق التاريخية، فيما يظلُّ المشهد الأخير، الجارح، بل الدامي لضحايا تلك المذبحة وقد نجح المخرج في تحقيق درجة كبرى من الصدقية من خلال كتابة أسمائهم على الشاشة وفوق جثثهم النازفة مباشرة في تأكيد على "وثائقية" الحدث حتى وهو يتمُّ تقديمه كدراما سينمائية، فالرواية ومن بعدها فيلم برهان علوية "استرجاع" لتلك الساعات الأخيرة، الدامية والمرعبة لأولئك المزارعين الفلسطينيين الذين داهمهم رصاص الجنود المحتلين وهم عائدون في نهاية يوم عمل شاق، وأعتقد أنَّ غاية الفيلم يحسُّها المشاهد طيلة أحداثه ويراها تتصاعد وتنمو في بعدها التراجيدي لتكتمل مأساوية مع المشهد الأخير.
فيلم "كفر قاسم" لمخرجه الراحل برهان علوية واحد من أهمِّ الأفلام التي تناولت جوانب من قضية فلسطين والصراع مع الاحتلال، لكنه مع ذلك لم يأخذ حقَّه من الاهتمام، وهو إلى جانب فيلم المصري الراحل توفيق صالح "المخدوعون" أهمُّ الأعمال السينمائية التي تناولت قضية فلسطين وأضاءت تفاصيل من تاريخها وساهمت بفنية عالية في التعبير بأدوات نظيفة ورؤى فكرية راقية فحقَّقت النجاح وانحازت إلى فكرة توظيف الفن السابع في القضايا الكبرى وعلى رأسها المأساة الفلسطينية.
خمسون عامًا تمامًا مرَّت على تحقيق فيلم "كفر قاسم"، جرت خلالها مياه كثيرة في نهر الدم الفلسطيني المراق، وتحقَّقت أفلام سينمائية أخرى عن القضية وعن الصراع بشكل عام، ولكن يبقى لفيلم "كفر قاسم" شجاعة الانتماء وشجاعة تقديم المعنى النظيف والصادق الذي هزَّ الضمائر وحفر عميقًا في وجدان الفلسطينيين والعرب الذين يواجهون العدو المحتل ذاته ويواجهون مذابحه ومحارقه الجديدة التي تناسخت من المذابح والمحارق الأولى منذ نكبة 1948 وحتى اليوم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.