}

جين سعيد المقدسي: بين الشتات وتاريخ فلسطين وحكايا أهلها

سمر شمة 29 يوليه 2024
استعادات جين سعيد المقدسي: بين الشتات وتاريخ فلسطين وحكايا أهلها
جين سعيد المقدسي

"القضية الفلسطينية لم تبدأ من أربعة أشهر فقط، وأنا أفكر بغزة ليلًا ونهارًا، إنها تسكن رأسي ولا تبارحه أبدًا، يرتكبون فيها جرائم حرب، ماذا نحكي عن هذه المدينة، أنا لا أستطيع النوم، أفكر بالصغار والكبار كيف يعيشون وكيف يتحملون هذه الجرائم"، هذا ما صرحت به الكاتبة والمؤرخة والنسوية الفلسطينية جين سعيد المقدسي بعد أربعة أشهر من بدء حرب الإبادة الجماعية على القطاع، بعد أن طالبت الجميع والمثقفين القيام بدورهم تجاه ما يحدث من قتل وتدمير، واستباحة للبشر والحجر، وكل ركن من أركان "بنت الأجيال" المنصرمة كلها ورفيقة العصور الفائتة والقادمة غزة: "نحن كمثقفين وكتاب يجب أن نذكّر العالم بأن من يستشهدون في غزة ليسوا أرقامًا، الأطفال ليسوا أرقامًا، وكذلك الكبار، وهؤلاء يحاربون بشجاعة وبشكل مخيف".
وُلدت جين المقدسي في القدس عام 1940، وهي شقيقة المفكر إدوارد سعيد. تنقلت بين مصر والولايات المتحدة قبل أن تستقر في بيروت عام 1972، حيث درّست الأدب الإنكليزي والعلوم الإنسانية في كلية بيروت الجامعية (الجامعة اللبنانية الأميركية حاليًا).
نشرت عددًا من الدراسات والمقالات، وشاركت في مؤتمرات إقليمية ودولية حول قضية فلسطين، وحول المرأة وحقوقها وتأكيد دورها في المجتمع، والمساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الجنسين (النسوية)، وكانت لها أنشطة في الحياة الموسيقية والمسرحية الجامعية، وقامت بكتابة صيغة مسرحية لملحمة "جلجامش"، الملحمة الشعرية من آداب بلاد الرافدين، وأقدم الأعمال الأدبية العظيمة، وأخرجتها عام 1995.
أصدرت كتابها الأول "شتات بيروت: مذكرات حرب 1975 ــ 1990" لتؤرخ فيه تجربة العنف والدمار واللاإنسانية التي رافقت الحياة في بيروت زمن الحرب الأهلية اللبنانية، ولتنسج القصة مع سرد يتداخل وهجراتها المتواصلة من بلد لآخر. وألقت من خلاله الضوء على العلاقات المتداخلة التي تُظهر الأحداث في لبنان كجزء من شبكة السياسة والتاريخ، ووصفت في الكتاب تفاصيل الحرب الموجعة التي أسفرت عن مقتل ما يزيد على 120 ألف شخص، وتشريد عشرات الآلاف، وتمزيق البلاد، وتحدثت فيه عن آلام وأوجاع الناس، وعن ميراث الاستعمار البريطاني وآثاره على جيلها من العرب. وروت، أيضًا، ذكريات محبوكة ببراعة يمتزج فيه التاريخ بالأدب، كما تناولت فيه الحياة الاجتماعية والاقتصادية للعاصمة بيروت، وتجربة أن تكون موجودًا في شارع الحمرا الشهير آنذاك، حيث تحاصرك جرائم القتل والاضطهاد الطائفي والتفجيرات والخطف وأصوات إطلاق النار بلا رحمة، إضافة إلى الحديث عن الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وتجربة الكاتبة في ربيع 1989 في لبنان، والإصرار على الحياة رغم الدمار والخوف وفقدان الأمل: "هذا هو المستقبل، حروب صغيرة، يشتبك فيها القادة المحليون بمعارك محلية، تدعمهم قوى أكبر، وهؤلاء بدورهم مدعومون من الدول العظمى، نحن لا شيء، حياتنا، بيوتنا، مشاكلنا الخاصة، مطامحنا كلها لا شيء، هنالك مخطط كبير، وهنالك الأسلحة".
صدر الكتاب باللغة الإنكليزية عام 1990 في نيويورك، ثم صدر باللغة العربية عام 2009 في لبنان، وقد قالت عنه الكاتبة: "هو سيرة شخصية عن الحياة والمثابرة في خضم المراحل المتعددة للحرب الأهلية اللبنانية".
وقال بعض النقاد إن الكتاب يتضمن ذكريات محبوكة بجمال وإتقان، ترويها كاتبة معاصرة في أول سرد مفصّل عن الحياة اليومية لهذه الحرب المفجعة، وإن جين المقدسي تقبض فيه على أخاديد الكابوس وحيويّته بنظرة وجدانية نادرة وعميقة للصراع المأساوي الطويل.
وهنالك من رأى في الكتاب تأريخًا لمرحلة من الصراع في لبنان والمنطقة، ولكنهم انتقدوه لأنه لم يصور المعاناة العميقة للناس في الحرب الأهلية اللبنانية، وكُتب من وجهة نظر برجوازية. لكن، ورغم ذلك كله، فإن كتاب شتات بيروت كان صرخة وجدانية ضد الحرب الداخلية ومآسيها، وروى بشغف قصص اللبنانيين الموجوعين، ومزج التاريخ مع التجربة الشخصية في نسيج واحد بحثًا عن الحقيقة.





أما الكتاب الثاني "جدتي وأمي وأنا" للمقدسي، والذي صدر بالإنكليزية أيضًا، وتُرجم إلى العربية، فهو سردية شخصية تستكشف التاريخ عبر ثلاثة أجيال من النساء اللاتي شهدن أزمانًا غير عادية ومربكة ومضطربة بداية من نهايات القرن التاسع عشر حتى تاريخ صدور الكتاب عام 2018، مرورًا بمدن عربية عديدة، منها حمص، والناصرة، وبيروت، والقاهرة.
ويُضيء الكتاب زوايا عديدة في التاريخ الاجتماعي والسياسي لبعض الدول العربية، فإلى جانب فلسطين هنالك تناول للأوضاع في سورية ولبنان، وما شهدته مصر من تغيرات بعد ثورة 1952، وصعود حركة القومية العربية والعدوان الثلاثي 1956، ثم نكسة حزيران/ يونيو 1967. ويشمل مجموعة نادرة من أرشيفات متنوعة عائلية ورسمية وخرائط، تمثل سجلًا بصريًا هائلًا ينقل سردية حافلة بالحنين.



تناول الكتاب تاريخ ثلاث نسوة يمثلنَ ثلاثة أجيال: الجدة: منيرة موسى بدر، التي ولدت في مدينة حمص السورية، وتنقلت بعدها ما بين بيروت والقاهرة، وابنتها هيلدا موسى سعيد، أم جين، التي ولدت في الناصرة، وعاشت في هاتين العاصمتين أيضًا، إضافة إلى تاريخ الكاتبة نفسها وتفاصيل حياتها و تنقلاتها من بلد إلى آخر واستقرارها في بيروت.
وقد أكدّ عدد من النقاد أن هذه المذكرات، وهذا الكتاب، يأتي ليشغل موقعه عند تلاقي الدراسات الأدبية مع الدراسات التاريخية، متمثلة في تقاطع المذكرات مع سيرة الحياة والتاريخ الشفاهي، وتتلاقى أحيانًا مع العلوم السياسية والاجتماعية في عرض الحدث السياسي من منظور اجتماعي ذاتي.
والحقيقة أن الكتاب أظهر وجهًا مغايرًا لما هو سائد في الحياة داخل المدن الفلسطينية، حيث تكشف روايات الجدة والأم عن حياة يومية ثرية بالتفاصيل التي تعبر عن أنماط الحياة داخل بيوت الطبقة الوسطى، والأدوار الرئيسة للنساء الفلسطينيات داخل البيت وخارجه وفي مجالات التعليم والتنشئة الاجتماعية والسعي لتطوير المجتمع العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين، كما تضمن الكتاب إشارات مفصلة لطبيعة المواجهات مع العصابات الصهيونية في فلسطين، وعنه قالت مترجمته إلى اللغة العربية، الدكتورة هالة كمال، أستاذة الأدب الإنكليزي والجندر في جامعة القاهرة: "المذكرات مكتوبة بوعي أكاديمية فلسطينية على معرفة جيدة بتطورات الصراع العربي الإسرائيلي، كاتبته دائمًا تستعين بمصادر بحثية، وقد تطورت رغبتها بكتابة تاريخ العائلة إلى ما يمكن اعتبارها سردية عن تاريخ فلسطين الحديث، كما ترويه النساء، الكتاب يحاول تصحيح الصورة النمطية عن أوضاع المرأة التقليدية والمهام التي كانت تؤديها".
أما الناقدة فريال غزول، أستاذة الأدب الإنكليزي في الجامعة الأميركية، فقد قالت حول هذا الكتاب: "تظهر ريادة جين المقدسي في كتابة سيرتها بصيغة الجمع لا المفرد، كنت أتمنى لو أن الكتاب قدّم نسب العائلة في شجرة، فهنالك حشو في الأسماء".
وكانت جين المقدسي قد تحدثت عن المراحل التي مرت بها قبل تأليفها لهذا الكتاب، فهي بدأت أول الأمر بهدف تقصيّ وتكريم ذكرى جدتها وأمها، ثم توصلت في ما بعد إلى إعادة قراءة معقدة لوضع النساء عمومًا، وكان الأمر بالنسبة لها وكأنها تشاهد حيوات النساء اللاتي سبقنها من خلال منظار دقيق تتكون جوانبه العديدة من حياتها ورؤيتها للتاريخ وللقضايا النسوية : "ستي أم شكري لم أكتشف وجودها وحياتها إلا خلال عملي على هذا الكتاب، وهي من يجب عليّ أن أسميها تقليدية، رغم أنها كانت تمتطي حصانها بطول الجليل وعرضها، بشعرها المتطاير وملابسها غير المهندمة، وكانت تتمتع بسلطة هائلة على ابنها وأسرتها. وعلى الرغم من أن قراءاتي التاريخية كانت مفيدة للغاية، لكنها لم تفدني في محاولتي لفهم حياة أمي وجدتي، فعملت لسنتين على اقتفاء أثر تاريخ العائلة، يكفي القول إن هذا الكتاب كان مدروسًا أكثر من سابقه".
مزجت الكاتبة في "جدتي وأمي وأنا" بين المجالات السياسية والاجتماعية والمحلية والشخصية لثلاثة أجيال من النساء في عائلتها عبر الزمان والمكان، ولكنها أيضًا سردت تاريخًا غير رسمي للمنطقة العربية، وتاريخها منذ الإمبراطورية العثمانية حتى قرننا الحالي، وكشفت جوانب من تاريخ مصر المعاصرة أيضًا، وتفاصيل عن حياة السوريين "الشوام" فيها جنبًا إلى جنب مع حياة المصريين والمصريات.
حررت جين المقدسي أيضًا كتاب الكاتبة الفلسطينية سيرين الحسيني "ذكريات من القدس" الذي يروي سيرة وحياة أديبة فلسطينية من مواليد القدس 1920، وقد أكدت في تصريح لها أن سيرين أتت إليها مع بعض الأوراق في الثمانينيات، تحمل حكايات صغيرة وقصصًا قصيرة عن طفولتها وشبابها، وسألتها إذا ما كان عليها الاستمرار في محاولة النشر، وحسب الأيديولوجيا النسوية الواردة في ما كتبته فقد كان رأي المقدسي أن عليها أن تنشر ذلك، لأنه يمثل سيرة ذاتية لفلسطين، ومكتوبًا بقلم النساء والفتيات، وهن محور القصة كما قالت: "الكتابات الأكاديمية والتوثيقية لحياة الفلسطينيين قبل النكبة كانت تطرح الماضي مجردًا، تغيب عنها أصوات وصور وملابس ومشاهد منزلية وحدائق وأغنيات كتلك التي يحفل بها كتاب سيرين".
كانت المقدسي تقول دائمًا إنه "لا يمكن العودة إلى ذكريات الطفولة البريئة بدون المرور بالأحداث الأليمة التي أصابت البلاد خلال عقود ولا يمكن التفكير بالمستقبل إذا كنا لا نستطيع استرجاع ماضينا".




تُعرف نفسها بأنها كاتبة فضولية تحاول تسليط الضوء على القصص اليومية للنساء العرب، ونسوية مدى العمر تطالب بحقوق المرأة، وتتبنى قضاياها بمختلف الوسائل والطرق.
ومعروف أنها عضو نشط جدًا في "تجمع الباحثات اللبنانيات"، وفي النضال النسوي عمومًا، لكن من منطلق عربي شرقي، يقوم على أن المرأة في هذا النطاق تتكىء على تراث عميق يضعها في متن الأسرة والمجتمع عمومًا بما يفوق نظيرتها الغربية: "حاولت أن أتعلم نوعًا جديدًا من الكيان والوجود، وحاولت فكّ بعض جوانب العزلة في النظام الاجتماعي والاقتصادي الحديث الذي بدأ مع أيام جدتي، واعتمدت أيضًا على تعليمي وتجاربي الذاتية، وحاولت المزج والتوليف بينهما بذكاء ومعرفة".
عملت جين المقدسي من أجل المساواة الجندرية، وتأمين الفرص المتساوية للجميع، وكتبت سرديات نسوية، وساهمت في إعداد وتحرير كتاب: "النسوية العربية: رؤية نقدية" مع الدكتورة رفيف رضا صيداوي، الكاتبة اللبنانية المتخصصة بالنقد الروائي وعلم الاجتماع.
ويعرض الكتاب أهم هموم النساء العربيات ومشكلاتهن في مختلف المناطق والأنظمة السياسية والخلفيات الثقافية، هذه الهموم التي تُرجمت إلى تساؤلات نظرية، وإلى حركة نسائية أكثر وضوحًا وعلانية.
وقد كانت المقدسي تطالب دائمًا بإعادة النظر في مفهوم المرأة من منظور تاريخي ونسوي قائلة: "إن تجارب أمي وجدتي وتجاربي أنا تقنعني بأن مهمة النساء من جيلي والأجيال التالية هي إعادة تعريف الاختلافات بيننا، وإعادة تأويل مكاننا في العالم".
كتبت مؤلفاتها باللغة الإنكليزية رغم أن العربية لغة قلبها وروحها كما كانت تقول، تربطها بالماضي وفلسطين ومصر ولبنان، ووالدها ووالدتها وجدتها وأخوتها، وبحاضرها وبالنضال في سبيل التحرر والحرية: "إن استخدامي للغة الضاد منقوص ومعيب، وعلى الرغم من أني أكتب بالإنكليزية إلا أني أشعر تجاهها بنوع غامض من عدم الارتياح لارتباطها بالإمبريالية، وما سببته من آلام وأحزان".
تحاول دائمًا من خلال كتاباتها ونشاطاتها ومواقفها أن تظهر دور النساء في التاريخ، وفي فلسطين وغزة: "النساء الفلسطينيات شاركن بالحروب منذ 1948، النساء في فلسطين وغزة جبارات، وعندما تنتهي حرب غزة سندخل إليها ونستمع منهن عما حصل".
وكانت تؤكد دائمًا، وما زالت، على أنها ستبذل كل جهدها، وستخوض المخاطر عبر المشاركة بشكل أكثر مباشرة في صياغة هذا العالم، عالم الحرب، والموت والسجون، والرعب: "سيتعين علينا أن نلوي ذراع هذا العالم بشكل أو بآخر بما يتماشى مع إرادتنا، وإجباره على اتخاذ شكل أقل فظاعة وأكثر إنسانية".

مراجع:
ــ كاتبات وكتب.
ــ بوابة المرأة.
ــ بوابة فلسطين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.