}

الحكواتي في فلسطين: من البطولات إلى حرب الإبادة

سمر شمة 19 أغسطس 2024
استعادات الحكواتي في فلسطين: من البطولات إلى حرب الإبادة
الحكواتي غازي طالب استُشهد مع عائلته بالقصف الإسرائيلي

"بتعرف شو يعني قصف. يعني صاروخ نازل عليك وأنت في بيتك. ما بيعرف مين في البيت. كبير السن. نساء. أطفال. شباب ورجال. وفي لحظة إما أن تخرج بمعّية ربنا سالمًا، أو روحك تعانق السماء. هذا حال 360 كم هي مساحة غزة. نحن شهداء مع فارق الوقت. وللقصة بقية". هذا الوجع، وهذه الحقيقة، كتبها حكواتي قطاع غزة غازي طالب على صفحته قبل استشهاده مع عائلته، عندما عاد لتفقد صغاره في بيت نزحوا إليه في مخيم النصيرات هربًا من الموت والقصف الإسرائيلي المتواصل في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر العام الماضي. لاحقته وحشية الاحتلال وسلاحها المدمّر، واستشهد مع زوجته وطفليه ريماس وجمال، وبقيت طفلته رؤى تصارع الموت، وتحاول البقاء وحيدة بعد إصابة بليغة في جسدها وروحها المتعبة.
هو قاص فلسطيني وناشط ومسرحي وقائد كشفي وحكواتي حاول توجيه الأطفال نحو قصص البلاد والأراضي المحتلة عام 1948، ونحو التمسك بحق العودة والمفاهيم الوطنية والإنسانية السامية، إضافة إلى إحياء فن "الحكواتي"، ولكن لأن الموت والقتل والدمار يتربص بأهل غزة لم يُكمل حكاياته، وأصبح هو الحكاية التي لم تنته بعد، ولم تُحسم نهاياتها حتى الآن. امتهن فن الحكي الشعبي "الحكاية الشعبية"، وهو أحد الفنون القديمة المتجددة في فلسطين وبلاد الشام، والذي يتميز عن غيره من الفنون بحضوره الحي في المقاهي والأماكن العامة، وعلى المسرح، وبقدرته على إظهار بعض الجوانب الثقافية والفنية والاجتماعية التي سادت في عصر معين، ونقلها بقالب لغوي شعبي وبسلاسة إلى الحاضر والمتلقي.
ومن أهم النماذج الحيّة لهذا الفن: "الحكواتي"، وهو الراوي أو القاص، شخص امتهن سرد القصص في أماكن محددة في المحال والمقاهي التراثية والطرقات، ومهنته عادة شعبية تقليدية جسدّها كثيرون على مر العقود، وعرفتها بلاد الشام منذ مطلع القرن التاسع عشر، وجعلتها جزءًا من التراث الشعبي لها، وقد اشتهرت مدينة دمشق شهرة كبيرة بها، إضافة إلى مدن سورية وعربية أخرى.

الحكواتي حمزة العقرباوي يحكي لأطفال غزة


مصطلح "الحكواتي" مستمد من الحكاية الشعبية التي يختلط الواقع فيها بالخرافة، والتي تعتمد المقاطع المسجوعة، والمواقف الغربية والطريفة التي تجسد روح البطولة والمرح والإثارة، والمستمدة من السرديات العربية والسير الشعبية المعروفة: الزير سالم ــ عنترة بن شداد ــ أبو زيد الهلالي ــ والأميرة ذات الهمة، وغيرها.
اختلفت تسمياته من بلد لآخر، ففي تركيا يدعى "المكلا"، وفي الجزائر والمغرب العربي "القوّال"، وفي العراق "المحدث"، وفي مصر "الراوي"، وفي سورية وفلسطين "الحكواتي".
تعود بداية ظهوره تاريخيًا إلى فترة عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الفاروق، ثاني الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنة، كما يؤكد بعض الباحثين في التراث، حيث كان الرواة يروون أحاديث الرسول (ص)، وقصص وأحداث الجاهلية، شفويًا، إلى أن دُوّنت، ومن أهم من دونها الأصمعي، راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، ثم أخذت بالتطور حتى العصر العثماني في بلاد الشام، وبعضهم يقول تطورت تدريجيًا حتى عهد الظاهر بيبرس، السلطان الأعظم، سلطان مصر والشام، ومؤسس الدولة المملوكية، والذي حقق انتصارات كبيرة على الصليبيين والمغول، وسواهم.





للحكواتي طقوس وعادات يمارسها أثناء سرده للحكايات، يعتلي عادة منصة خشبية في صدر المكان، ممسكًا بكتاب قديم ذي غلاف جلدي مهترئ، ومرتديًا زيّه التقليدي: السروال الفضفاض، والطربوش الأحمر، والصدرية المزركشة، ويضع بوقار شاله الأبيض الحريري على كتفيه، أو يرتدي جلابية بيضاء، وعباءة بنية مع الطربوش الأحمر، ممسكًا بيده عصاه الخشبية الرقيقة، مستهلًا دخول حكايته الشعبية بصوت جهوري، مرتفعًا تارة، ومنخفضًا تارة أخرى، تبعًا لمجريات القصة الحماسية. يقف مستعينًا دائمًا بالكتاب الذي يحمله، ويبدأ سرد الحكاية التي غالبًا ما تكون عن شخصية تاريخية، ويُبقي جمهوره في تشويق دائم لمعرفة وقائع القصة أولًا بأول، وإذا ما طالت لليالٍ، أو أيام، فإنه ينهيها كل ليلة بموقف متأزم يعيشه البطل لكي يجعل المتلقي متشوقًا لسماع بقية الأحداث، وما يزيد في الحماسة أن الحكواتي كان يقوم بتجسيد شخصيات روايته وكلامهم بتحريك يديه وتنوع نبرة صوته، حتى أن بعض مستمعيه كانوا يرفضون الذهاب إلى بيوتهم قبل معرفة نهاية ومصير بطل القصة.

الحكواتي الفلسطيني سليمان أبو عودة


يتميز الحكواتي عمومًا بإتقان فنون الإلقاء والتمثيل والنشيد والغناء والقدرة على الحفظ والارتجال وسرعة البديهة، يخطف أبصار وقلوب الصغار والكبار، ويأخذ الأطفال منهم إلى عالم طفولي مليء بالشخصيات الخيالية والقصص الواقعية بطريقته الساحرة التي تجعل الجميع يعيشون أحداث الروايات والنوادر في هذا العالم الخيالي.
تدور غالبية حكاياته عن الانتصارات والبطولة والشجاعة والشرف والمروءة ونصرة المظلوم، ويسعى من خلالها لتخليد التاريخ وحفظه، ولتهذيب النفوس، ونشر الأخلاق، والتقارب بين الأجيال والثقافات.
ولئن ارتبط فن الحكواتي بالموروث الشعبي القديم، فقد ركزت الحكايات الشعبية فيه، وخاصة في فلسطين، على الحروب التي قسمّت فلسطين وبلاد الشام، وسلطت الضوء على الثورة الفلسطينية في القرن العشرين، وعلى أبطالها، كعز الدين القسام، وغيره، وعلى المدن والقرى الفلسطينية، وحقوق الفلسطينيين، وعلى الأبطال العرب، كعبد القادر الجزائري، وسواه.
اهتم الحكواتي في فلسطين بالأطفال كثيرًا، وقدم لهم حكايات عن فلسطين وأهلها، وعن الخير والأخلاق السامية ومقاومة الاحتلال، وحكايات ترفيهية هادفة ومفيدة، كحكاية الديك الهادر المشهورة: "كان يا ماكان. زمان في أحلى مروج فلسطين. يا سامعين الكلام. وبالتحديد في مرج ابن عامر. كان في ديك اسمه الديك الهادر. في يوم من الأيام طلع يبحث عن طعامه في البيادر". وهذه من الحكايات الشعبية الفلسطينية التي تروي رحلة الديك في يوم كامل بحثًا عن الطعام، ومعه صغاره يحميهم ويحذرهم من الثعلب الماكر، والهدف منها عدم مصاحبة الأشرار واحترام الآخرين.
حكايات الحكواتي في فلسطين وسورية والقاهرة، وغيرها من البلدان، لم تكن لهدهدة الأطفال فقط. ولا لتمضية الوقت والتسلية للكبار، بل كانت وسيلة لمعرفة التاريخ والعادات والتقاليد. فالحكي الشعبي سرد موازٍ للتاريخ "لا يكتبه الحكام، بل يكتبه الشعب"، وكانت أيضًا لمقاومة الواقع المرير، وسياسة الاحتلال الإسرائيلي، ولحماية التاريخ الفلسطيني من الاحتلال الذي يسرق تراث فلسطين وينسبه إليه، لأنه لا يملك تاريخًا ولا تراثًا ولا هوية.

الحكواتي رشيد حلاق (1944 ــ 2014) أحد أواخر الحكواتية في مقهى النوفرة في دمشق


اهتم "الحكواتية" في فلسطين، وغيرها من الدول العربية، أيضًا، بسرد سيرة أبو زيد الهلالي، التي تدور حول هذا البطل الأسطوري الذي كان شجاعًا ومقدامًا. كما اهتموا بسرد سيرة الزير سالم التي تعتمد على الرواية التاريخية المحكية عن حرب البسوس التي نشبت بين قبيلتي بكر وتغلب، واستمرت أربعين عامًا. وسيرة الظاهر بيبرس التي حفلت بالانتصارات ضد الصليبيين، ابتداءً من معركة المنصورة، ومعركة عين جالوت، وانتهاءً بمعركة الأبلستين ضد المغول سنة 1277، وهذه الملحمة تختلط فيها الوقائع التاريخية بالخيال. إضافة إلى سيرة عنترة بن شداد، وهو أشهر شعراء العرب وفرسانها في العصر الجاهلي، اشتُهر بشجاعته النادرة، والحروب التي خاضها: "قال الراوي يا سادة يا كرام، ويا سامعين الصوت والكلام. ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام. من أسد الآساد. وقادح النار من غير زناد. وحامي العشيرتين الأمير عنتر ابن الأمير شداد".





وكان للسيرة الهلالية، وهي إحدى أشهر السير الشعبية العربية، حضور قوي في فلسطين، يسردها الحكواتي دائمًا، وهي ملحمة طويلة تصف هجرة بني هلال، وتمتد لتشمل تغريبتهم وخروجهم من ديارهم إلى تونس، وتبلغ نحو مليون بيت شعر، وقد أضفى الخيال الشعبي عليها ثوبًا فضفاضًا باعد بين الأحداث وبين واقعها، وبالغ في رسم الشخصيات.
وكما هو معروف فقد ظهر في مدن غزة المختلفة عدد من الذين امتهنوا مهنة "الحكواتي"، أو مارسوا هذه الهواية، ومنهم: الحكواتي حمزة العقرباوي، الذي يعمل مرشدًا سياحيًا، وكانت لديه مكتبة ضخمة تضم أكثر من ألف كتاب ومرجع في التراث الشعبي.
والحكواتي عماد خالد الذي أجاد سرد الحكاية للأطفال من خلال مشاريع المؤسسات، والذي قال: "بدأتُ بدور الحكواتي سنة 2002 في رياض الأطفال في مخيم النصيرات، ومن ثم في مدارس وكالة الغوث من خلال عملي في مسرح أفكار الطفل". وأضاف أنهم لا يستطيعون ربط الحكايا بواقع غزة المرير، سواء بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، لأن ذلك ينعكس سلبًا على الهدف المرجو إيصاله من الحكاية.
وهنالك الحكواتي سليمان أبو عودة أبو المظفر من مخيم الشاطئ للاجئين غربي مدينة غزة، وكان يروي حكاياته في المدارس، وفي احتفالات القطاع، ويحاول دائمًا إيجاد منهاج خاص بتدريس المهنة وإعادة إحيائها: "أعشق هذه المهنة التي تعكس الأصالة والتراث العربي، وأعمل على إعادة الروح إليها في غزة".
ونجحت الفنانة والحكواتية جيهان أبو لاشين في غزة قبل سنوات في إعادة بعث شخصية الحكواتي بقصصه الجميلة بعد سنوات طويلة من تراجع هذه المهنة، وكانت دائمًا مبتسمة وهادئة الصوت وهي تروي الحكاية المشهورة في فلسطين "الديك الهادر" لمجموعة من النساء اللاتي جذبتهن القصة: "شعرت بالحنين للحكايات كلما وجدت مجموعة من الأطفال أو الكبار لا يسمعون الحكايات الشعبية. بدأت بسرد الحكايات منذ كنت طفلة في الابتدائي. ثم حالفني الحظ لأسافر إلى إيطاليا. لكي أشارك في تدريب يهدف إلى استخدام الحكايات في تقريب الثقافات".
أما أول حكواتية في فلسطين فكانت من حيفا، وهي الباحثة في أدب الأطفال، دنيس أسعد، التي اهتمت بالصغار، وبدأت الحكي الشعبي مع أولادها، ثم أصبح بيتها مسرحًا لأطفال آخرين، دربت المئات على فن الحكي الشعبي، واحترفته رسميًا في 2004، كانت تدور في شوارع فلسطين، تجمع الحكايات، وتدخل البيوت، وتجلس مع الجدات لسماع الحكايا القديمة عن الأرض والثورة والثوار: "أخشى على الحكاية الفلسطينية من تشويه ملامحها من أناس يسردون من دون موهبة، من دون أي إلمام بميزات الحكاية. كما أخشى عليها من الثقلاء. وأكرر دائمًا أن مكان الحكايات في القلب".
ورغم سعي الأفراد والمؤسسات في غزة، والقدس، وغيرها من المدن، ورغم المبادرات الفردية والجماعية في فلسطين للحفاظ على مهنة الحكواتي، وتطويرها كرسالة تثقيفية تراثية نضالية عريقة، فإن الحكايات أصبحت غائبة، وصار الحكواتي تقليدًا قديمًا نادر الحضور، ويعود ذلك ربما إلى الانفتاح الكبير على مصادر المتعة والمعلومة الأخرى، من إعلام مرئي ومسموع وإلكتروني وسينما وتكنولوجيا عالية المستوى، إضافة إلى قلة عدد العاملين في هذا المجال، وإلى جفاف نبع البطولات والانتصارات الحقيقية الكبرى، إضافة إلى أن الحكواتي لم يعد ضرورة كما كان منذ أكثر من نصف قرن. ولكن في القدس، ومع الغياب التدريجي للحكواتي، فإن كلًا من مسرح الرواد، ومؤسسة الرؤية المقدسية، ومسرح الحكواتي، يلعبون الدور الأكبر في إحياء ونشر هذا الفن الشعبي، إضافة إلى المشاريع الخاصة لمؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والمسارح في فلسطين.
يقول عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني والتر بنيامين: "عامًا بعد عام يتناقص عدد الناس الذين يروون الحكايات. هل ولّى عصر القصة المحكية".
بينما يقول د. صلاح الراوي، أستاذ الأدب في جامعة الأزهر: "تكاد القصص الشعبية المروية تنقرض، لأن حياة الناس تغيرت بعد دخول التكنولوجيا. فأصبحوا أكثر واقعية وابتعادًا عن الخيال".
ويبقى السؤال الذي طرحه الحكواتي الشهيد غازي طالب حاضرًا بعد حرب الإبادة المتواصلة حتى الآن على غزة: "لو كنت من الناجين بعد هذه الحرب كيف سأروي للأطفال قصصًا ترفيهية وأنا أرى بعيني قصصًا دموية؟ هل أروي لهم أنهم قصفوا مستشفى؟ هل أروي لهم عن طفل رضيع لم ير النور بعد وأهله كلهم شهداء؟".

مراجع:
ــ بوابة أدب.
ــ الحكواتي. قصص مشوقة من التاريخ العربي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.