}

المسرح الوطني الفلسطيني: حلم لا يموت

سمر شمة 30 أغسطس 2024
استعادات المسرح الوطني الفلسطيني: حلم لا يموت
فترة الثمانينيات شهدت ظهور فرق مسرحية هامة بفلسطين

يُعتبر المسرح أحد أنواع فنون الأداء وأقدم أشكال الدراما، هو ليس طريقًا فرديًا للخلاص بل باحة واسعة للتلاقي وميدان للمشاركة الجماعية، وقد نشأ كحالة تعبيرية قبل نحو 10 آلاف سنة قبل الميلاد.
وقد عرفته فلسطين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر من خلال محاولات عديدة ذات قيمة تاريخية برزت وتطورت في مطلع القرن العشرين وخصوصًا بعد الحرب العالمية الأولى، وجاءت محاولات إنشاء مسرح فلسطيني واضح المعالم والرؤية في زمن الإنتداب البريطاني وتحديدًا عام 1918.
ارتبطت نشأة الفرق المسرحية الفلسطينية بظهورها في الدول العربية، وكان للفرق المصرية والشامية والأجنبية التي زارت فلسطين بين 1920-1930 دور كبير في دفع الشبان الفلسطينيين لتأسيس فرق تمثيلية في المدن وصل عددها في القدس وحدها إلى ما يزيد
عن 30 فرقة مسرحية. وبعد النكبة ثم النكسة ظهرت فرق مسرحية متنوعة، وتأسس المسرح الفلسطيني خارج الأرض المحتلة بعد عام 1967.
نشأت الحركة المسرحية في فلسطين (القدس – أراضي 1948  - الضفة – قطاع غزة)، وكان من أهم رموزها وفرسانها المسرح الوطني الفلسطيني "الحكواتي" في المدينة المقدسة والذي تأسس عام 1977على يد فرقة "الحكواتي"، وأُقيم على أنقاض مبنى سينما كانت محروقة آنذاك وذلك بعد ترميمه بجهود جبارة من أعضائها. وقد تمّ افتتاحه رسميًا في 9 أيار/ مايو 1984 وسُمي باسم "مسرح النزهة" حتى عام 1991 حيث أصبح اسمه المسرح الوطني الفلسطيني "الحكواتي".
والجدير ذكره أن فترة الثمانينيات شهدت ظهور فرق مسرحية هامة ومختلفة في فلسطين، ولكن تبقى فرقة الحكواتي واحدة من أهم الفرق المسرحية في تاريخ المسرح الفلسطيني، والتي تم تأسيسها على يد الفنان الراحل فرانسوا أبو سالم، الممثل والمخرج من أصول فرنسية.
بادرت هذه الفرقة إلى تأسيس المسرح آنف الذكر وتولت إدارته والعمل به بصفة فرقة مقيمة حتى عام 1989، ثم تحولت إدارته فيما بعد إلى مجلس أمناء فلسطيني مستقل ضم مجموعة من الأدباء والكتاب والفنانين والشعراء والشخصيات الفلسطينية الفاعلة على صعيد العمل الوطني والجماهيري.
يُعتبر مسرح "الحكواتي" أول مسرح متخصص في مدينة القدس، والأول في فلسطين، وأول مؤسسة ثقافية فلسطينية تحت الاحتلال في مدينة لها رمزيتها التاريخية والدينية والنضالية والمعروفة بمقاومتها المستمرة لمشاريع التهويد والاحتلال معًا، وقد احتضن هذا المسرح أكثر من 80 بالمائة من النشاطات الثقافية في المدينة المقدسية وأصبح الحاضنة الثقافية لكل الأنشطة والفعاليات والمشاريع الهامة في هذا المجال.
يستهدف المسرح شرائح المجتمع كافة، ويركز على الأطفال والنساء والشباب بشكل خاص، ويسعى إلى تفعيل وتطوير الفنون المسرحية والسينمائية والأدائية في فلسطين، وقد حاول منذ تأسيسه أن يكون منبرًا للقاء والنشاط الثقافي والفني داخل فلسطين وخارجها في محاولة للإرتقاء بالعمل المسرحي الملتزم بالقضايا الوطنية والإنسانية، وتطورت أهدافه عبر الزمن من الحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني المهدد دائمًا إلى البحث الدؤوب عن أفكار ورؤى جديدة وطاقات موهوبة وخلاّقة من أجل تشكيل هوية واضحة للمسرح الفلسطيني عمومًا.
تميزت أعماله بطرحها للقيم التحررية والوطنية وبتأكيدها على حق الإنسان أينما كان في الحياة الحرة الكريمة، ورفضها للإستبداد والظلم والقهر، ودعوتها الدائمة لبناء مجتمع حضاري يحمل راية العلم والعدالة والحق، وركزت في موضوعاتها على حق الفلسطينيين في استعادة أراضيهم وحقوقهم وطرد الاحتلال ومقاومته وعلى واقع المعتقلين والأسرى في سجون الاحتلال، وعلى الآلام التي يعيشها شعب فلسطين في الداخل وفي الشتات وفي مخيمات اللجوء والنزوح.
ولعب هذا المسرح دورًا كبيرًا في لمّ شمل المسرحيين الفلسطينيين وعمّق علاقته مع فناني المسرح في الضفة الغربية وقطاع غزة.
تأتي أهميته مع غيره من الفرق والمسارح من ضرورة وجود مسرح فلسطيني في القدس يلبي الحاجات الوطنية والثقافية والمجتمعية الملحة والضرورية.
والمعروف أن مسرح "الحكواتي" ومنذ نشأته وضع هدف دعم وتطوير الفنون الفلسطينية عمومًا والمسرحية خصوصًا نُصب عينيه فعمل على تدريب وتأهيل الفنانين الفلسطينيين، ودعم المؤسسات الفنية والأعمال المسرحية الهامة والجيدة، وساهم في إيجاد فرص تدريب ومصادر تعليمية لتطوير قدرات الفنانين الشباب وتنمية مهاراتهم الإبداعية، ودعم الأنشطة الفنية والثقافية التي تعزز الإنتماء للتراث الفلسطيني وضرورة تطويره، وساهم في رسم السياسات والإستراتيجيات الوطنية للإرتقاء بالفنون والثقافة الفلسطينية عمومًا.

مسرحية "باسم الأب والأم والابن" عام 1980 (المتحف الفلسطيني) 


ومن أبرز رواده ومؤسسيه الكاتب المسرحي والممثل والمخرج راضي شحادة، والمسرحية والممثلة جاكي لوبيك، والمسرحي إدوار المعلم.
أنتج هذا المسرح عشرات الأعمال الفنية المتميزة، ودعم الكثير من الفنانين والفرق المسرحية لإنتاج أعمال ذات مستوى فني رفيع، ونظّم برامج تدريب وورشات عمل وأنشطة توعوية، وأقام عددًا كبيرًا من المعارض الفنية والمهرجانات السينمائية والموسيقية والمسرحية، وندوات وفعاليات ذات طابع سياسي وفني وإجتماعي وفكري ووطني، وكان على تواصل دائم مع الفنانين والمؤسسات والفرق الفنية العربية والعالمية. ولكي يكسر الحصار المفروض على مدينة القدس المحتلة وصعوبة وصول الجمهور للمسرح من خارجها، وللحفاظ على التواصل الدائم بين المسرح والجمهور الفلسطيني في أرجاء البلاد، نفذّ فكرة "المسرح الجوال" والذي نقل من خلاله مئات الأنشطة الثقافية والفنية إلى المتلقي بالتعاون مع مؤسسات فلسطينية.
حافظ مسرح "الحكواتي" على وجوده وبقائه وصمد في وجه سياسات الاحتلال التعسفية، وفي وجه المعوقات التمويلية، وحقق إنجازات محلية وعربية وعالمية بإمكانيات بسيطة، وكان أول مسرح يقوم بتنظيم مهرجان دولي: "مهرجان الدمى" وأول من مثّل بلاده في الهيئة العالمية للمسرح.
قدم أكثر من 600 نشاط داخلي وخارجي، وشارك بمهرجانات دولية كمهرجان قرطاج المسرحي في تونس، ووصلت أعماله ومسرحياته إلى إنكلترا وألمانيا والسويد وفرنسا وهولندا وبلجيكا واليابان، وأقام أول مدرسة للمسرح.





قدم هذا المسرح وفرقته أعمالًا مسرحية هامة ومتنوعة على مدى عقود نذكر منها على سبيل المثال:
- مسرحية "باسم الأب والأم والابن". وكانت من المسرحيات الأولى للفرقة بين 1978-1985، تأليف جماعي، رؤية وإخراج فرانسوا أبو سالم، وأُطلقت في المدرسة العمرية بالقدس، وعُرضت قرابة الأربعين عرضًا بفلسطين وتونس وأوروبا.
- مسرحية "محجوب محجوب"، 1980، تأليف جماعي، وعُرضت قرابة 120 عرضًا بالعربية والإنكليزية والفرنسية في فلسطين وأوروبا على مدى عامين.
- مسرحية "جليلي يا علي". وقد تجولت في فلسطين وأوروبا على مدى عامين في سبعين عرضًا، واعتمدت على لغة الجسد المرافقة للموسيقى، تمثيل إدوار معلم  وراضي شحادة وجاكي لوبيك وغيرهم.
- مسرحية "قصة العين والسن". كان عرضها الإفتتاحي في مسرح النزهة "الحكواتي" وهو المقر الحالي لهذا المسرح، وقُدمت بالعربية والإنكليزية في فلسطين وأوروبا في ثمانين عرضًا 1985-1986.
- مسرحية "خارج السرب" للمسرحي السوري محمد الماغوط وفيها عاد المسرح ليكون شعبيًا وليستقطب كل الناس، وركزّ العمل على السقوط الحضاري والإنساني وخيانة الأوطان، والقوى الغاشمة التي تحاول السيطرة على البشر والمسارح. إخراج: كامل الباشا، 2016.
- مسرحية "نص كيس رصاص". عُرضت في القدس المحتلة في محاولة لإحياء خيال الظل وهي من إخراج عبد السلام عبده، تأليف: كامل الباشا، 2013.
- مسرحية "الملح الأخضر". تحدثت عن الحروب الأهلية وفظاعاتها وعن آلام الشعب الفلسطيني في كل مكان، وعن أن البشاعة هي المنتصرة في كل الحروب، تأليف: الكاتب المصري د. علاء عبد العزيز سليمان.

عبداللطيف عقل (إلى اليسار) وفرانسوا أبو سالم عام 1970 (المتحف الفلسطيني) 


- مسرحية "قناديل ملك الجليل"، عن رواية للكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله، عُرضت في الخليل، وتناولت جزءًا من تاريخ فلسطين وكانت بمثابة الدعوة للحرية والاستقلال مهما كانت الظروف والتحديات.
هذا إضافة إلى مسرحيتي "الدنيا مسرح" و"قلب صناعي" 2024، ومسرحيات مثل: أماكن أخرى – ألف ليلة وليلة  في سوق اللحامين – تغريب العبيد – تماثيل وكلاب – الحلم والعلم.
نال مسرح "الحكواتي" العديد من الجوائز منها: جائزة ياسر عرفات للتميز والإبداع لعام 2016 – جوائز أفضل إخراج وأفضل تأليف مسرحي وسينوغرافيا وأفضل ممثلة والتي فازت بها منى حوا في مهرجان فلسطين الوطني للمسرح عن مسرحية "من قتل أسمهان" وجوائز أخرى عديدة ومتنوعة.





شهد هذا المسرح خلال تاريخه فترات ازدهار كبيرة، وكانت الفرق تتناوب على التدريب في قاعاته، وكانت علاقته مع مسارح الضفة وغزة قوية جدًا، إلا أن الوضع السياسي والأمني قضى على الكثير من تألقه واستمراره وحيويته، وأصبحت الفرق المقدسية تذهب إلى الضفة لتقديم عروضها المختلفة إلا أن العروض المسرحية الأخرى محرومة تمامًا من الدخول إلى القدس المحتلة.
عانى كغيره من المؤسسات الثقافية الفلسطينية من اعتداءات سلطات الاحتلال عليه وملاحقتها للعاملين فيه، ومن هجمات المستوطنين على جمهوره أثناء عروضه في القدس، ومن إغلاق السلطات الإسرائيلية له مرارًا وتكرارًا بذرائع مختلفة منها أنه ممول من السلطة الفلسطينية. ومن أخطر الأزمات التي واجهها تزييف بيع وملكية مبنى المسرح من قبل مستوطنين صهاينة 2014، وقد خاضت العائلة الفلسطينية المالكة له صراعًا قضائيًا لتثبيت ملكية المسرح ومبنى النزهة.
ولا يمكن لأحد أن ينسى أن جيش الاحتلال دخل في إحدى المرات على المسرح أثناء عرض مسرحي جماهيري وأخرج بالقوة ثلاثمائة شخص منه مستخدمًا السلاح والهراوات.
عانى المسرح أيضًا من مشكلات في التمويل، والديون، والحجز عليه إضافة إلى تعرضه لأزمات خانقة نتيجة سياسات الأشقاء العرب والسياسات الدولية تجاهه وتجاه كل الصروح الثقافية والفنية.
يقول الفنان المسرحي عامر خليل، مدير المسرح: "علينا أن نعرف حقيقة أن جميع المؤسسات التمويلية وبالذات في القدس هي مشاريع لمصلحة الممّول فقط، لقد اختلف التمويل اليوم عنه في بداية الثمانينيات والتسعينيات".
وقال الفنان المسرحي عامر حليحل: "تحزنني فكرة إغلاق المسرح الوطني الحكواتي كثيرًا، فهذا مسرح وطني بُني على يد فنانين فلسطينيين وطنيين، حفروا الصخر من أجله، وكان دومًا المشروع المسرحي الأهم في تاريخ المسرح الفلسطيني، ويجب أن يبقى كذلك، لا تسمحوا للمسرح أن يُغلق".
وبين غياب الرعاية لهذا المسرح وإصرار العاملين فيه على البقاء والصمود والإغلاق والمشكلات المالية، وجرائم الاحتلال بحق الثقافة والفن والفنانين، تقول تصريحات المهتمين بشؤون المسرح والنقاد بأن نشاط المسرح يتراجع ويضمحل نتيجة محاولات اقتلاعه منذ إغلاق القدس 1994 حيث دخل في أزمة إنتاج ووجود.
يقول جمال غوشة: "إن سلطات الاحتلال دأبت على إغلاق المسرح ومنع نشاطاته أكثر من 35 مرة، وفرضت قيودًا على الترخيص وضرائب طائلة ورقابة ومنعت تنفيذ العديد من النشاطات الثقافية".
وعمومًا فإن المسرح كغيره يتأثر بالظروف الداخلية والخارجية والعربية والتي تشهد تغيرات عاصفة منذ عقود في منطقة الشرق الأوسط من غياب للحريات، وتكميم للأفواه، وتضييق على الفكر والإبداع، ولكن المسرح الوطني الفلسطيني كما قالت المسرحية رائدة غزاله ذات يوم: "مختلف فيه تاريخ وذكريات وقصص لم ولن تُمحى من ذاكرتنا".
وكما قال الدكتور المتخصص في دراسات المسرح سامر الصابر: "تحديد البداية والنهاية مستحيلة في أسطورة الحكواتي، إنها ظاهرة مسرحية تاريخية، تستحق البحث والحب والفخر، إن مسرح الحكواتي يُقدّس في مدينة ليس فيها نقص بالمقدسات".
ويبقى "المسرح الوطني الفلسطيني جزءا هاما وأصيلا من الثقافة في المدينة المقدسة وكل المدن الفلسطينية، وفي حال احتضاره سنخسر هذا الجزء المُستهدف بالتهويد"، كما قال الأديب المقدسي إبراهيم جوهر.
إنه مسرح قام الفنانون بصبّ جدرانه وخدموه بحبات العيون، يساهم في صنع الثقافة وتعزيز المقاومة والصمود، يحافظ على الحلم، والحلم لا يموت.

مراجع:
- بوابة مسرح.
- بوابة فنون.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.