}

عن منطق الجوائز وذاكرة النسيان

فريد الزاهي 15 أكتوبر 2023
تغطيات عن منطق الجوائز وذاكرة النسيان
جون فوسيه (Getty)

لم أسمع أبدًا عن جون فوسيه، الفائز الأخير بجائزة نوبل للأدب، مع أن ثقافتي الأدبية سمحت لي في حياتي القصيرة بقراءة العديدين ممَّن حظوا بها كإرنو، وبيتر هاندكه، وماريو فارغاس يوسا، ولوكليزيو، حتى لا أتحدث عن سابقيهم. وقد هرعت إلى ويكيبيديا باللغة الفرنسية للتعرف الأولي على الرجل، فوجدت صفحة فقيرة تلح بالأخص على جانبه المسرحي.
تقول الصفحة: "تتميز الأعمال المسرحية لجون فوسيه بكتابة مبسَّطة وإقلالية وتكرارية لا تشوبها إلا تنويعات قليلة. لغتها عادية جدًا، وحبكتها فقيرة، وتكاد تكون غائبة. بيد أن المؤلف ينجح في خلق توتّر بالغ بين الشخصيات، في عالم مدلهمّ. يقول المؤلف: "تعني اللغة تارة شيئًا، وتارة ضده، ثم شيئًا آخر". لا تتضمن كتابة جون فوسيه علامات وقف، ونحن ننتبه إليها بالأخص من خلال غياب علامات الاستفهام، في الوقت الذي تكون فيه الشخصيات دومًا في مسعى بحث وانتظار وتوتر... وبما أن الشخصيات غالبًا ما تواجه عزلتها الشخصية، فهي تظل شخصيات مجهولة، إذ إننا نجهل كل شيء عن ماضيها. إنها شخصيات مؤسلبة ولا تحمل اسمًا... والحبكة نفسها بسيطة إلى حدّ أنها قد تغدو تجريدية، أو مفهومية: اللقاء والفراق والهجر والوحدة... ونحن نخالها حبْكة غير مكتملة، أو تكتمل في لحظة حيرة وعبور".

الجائزة المستحيلة
لو قدمنا هذا التعريف لأي قارئ جيد للأدب العالمي لما تردد في القول إنه ينطبق كليًا على كتابات ومسرح مرغريت دوراس. ولو قدمناه لقارئ جيد للأدب العربي الحديث لتعرف فيه (على الأقل من الناحية الأسلوبية) على كتابة عبد الفتاح كليطو، وطبعًا قبله على خورخي لويس بورخيس... فلماذا، إذًا، لم يحظ هؤلاء بجائزة نوبل، مع أن لهم السبق إلى هذه الخصائص كافة؟  
لذا فإن الأسئلة التي تطرحها اليوم علينا الجوائز الأدبية والثقافية لم تعد، كما كانت في القرن الماضي، تتعلق بالقراءة، وإنما بالحظوة الثقافية، وبلعبة الوساطات التي تنهجها هذه المؤسسات في قلب ما أضحى يعرف بالصناعات الثقافية. هكذا تتحكم في الجوائز هذه المقصديات التي تتنوع وتتشكل حسب الجوائز. من المعروف مثلًا أن عدد الجوائز الهامة في بلد مشهور بإنتاجه الثقافي كفرنسا يعادل المئة. وهو رقم يجاوز بكثير عدد الجوائز في العالم العربي بكامله، حتى لو احتسبنا فيها الجوائز الأقل قيمة.
كانت الجوائز تخضع في البلدان العربية إلى منطق الاستحقاق الذي تفرضه وزارات الثقافة والمؤسسات الثقافية (اتحادات الكتاب)، ثم انضاف إليها منذ بداية الألفية عدد من الجوائز العربية الموزعة بين الرواية والترجمة والدراسات الأدبية والفنية، علاوة على جوائز البينالات العربية القليلة في مجال الفنون، كبينالي الشارقة، وبينالي القاهرة... بيد أن الغائب الجملة من الجوائز تظل هي العلوم الاجتماعية. فإذا كانت الدينامية الأدبية العربية مشهودًا لها بالرسوخ منذ أواسط القرن الماضي، في مجالات الرواية والنقد الأدبي، فإن تطور العلوم الاجتماعية لم يشهد فترة ازدهاره، خاصة في مجالات السوسيولوجيا والأنثربولوجيا وعلوم النفس إلا في العقدين الأخيرين، مع تطورها في الجامعات العربية، وظهور أسماء خرجت بها بشكل باهر من المجال الأكاديمي المحض إلى المجال الثقافي العام.
لقد حظي نجيب محفوظ بجائزة نوبل في ما يشبه الدهشة والاعتراف في آن واحد، في حركة أدبية معروفة بتدني مستوى الترجمة فيها إلى اللغات العالمية. ومن بعده لم تطل شمس نوبل على فضاء العالم العربي، كما لو أن أدونيس، وعبد الرحمن منيف، ودرويش، وجمال الغيطاني، لا مكان لهم تحت شمسها. أتذكر، في بداية التسعينيات، أن فيلسوفًا عربيًا مغربيًا هو محمد عزيز لحبابي قدم ترشيحه لهذه الجائزة، معدًا لذلك ملفًا عن مؤلفاته، ومثيرًا الاهتمام بترشيحه ذاك. رأى بعضهم أن في الأمر تخريف مثقف جاوز السبعين، فيما نظر له بعض آخر رمزًا لأهلية المثقفين العرب لهذه الجائزة. إنه أمر يذكرنا أيضًا بمحاولات وزارة الإرشاد المصرية ترشيح طه حسين، ورفض مؤسسة نوبل للترشيح للجائزة من جهة رسمية. ثم جاء سفر وزير الثقافة ثروة عكاشة إلى فرنسا عام 1960 للبحث عن مؤسسة ترشح عميد الأدب العربي للجائزة. وبالرغم من المحاولات كافة، لم يحظ رواد الأدب العربي، كطه حسين، وتوفيق الحكيم، بهذه الجائزة.




ثمة عدد من الكتاب العرب الذين ظلوا مغمورين عالميًا، لأنهم لا يسعون لترجمة أعمالهم، بطريقة أو بأخرى، إلى لغات العالم. فيما ثمة كتاب وشعراء متوسطون يعملون ما في جهدهم بحثًا عن مترجمين، والقيام بجميع التدابير والإجراءات لكي تحظى أعمالهم بالترجمة والنشر في لغات أخرى. حكت لي ندى الحاج أن الكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب التقى يومًا أحد أصدقاء أبيها، الشاعر أنسي الحاج، ودار بينهما الحديث عن هذا الأخير، فأكد المؤدب، وهو العارف بالثقافة العالمية، بأن أنسي الحاج يستحق جائزة نوبل، لأنه مجدِّد في الشعر العربي، بشرط أن يترجم شعره بنفسه إلى اللغة الفرنسية. بيد أن أنسي الحاج لم يكن يهتم بالجوائز، مما كان مثار عجب من الكاتب التونسي.
لكن، ما العائق الأكبر في هذا العبور؟ كيف يحظى كاتب بلغة يتحدث بها عدد لم يتجاوز بعد الخمسة ملايين ونصف المليون شخص إلى يومنا هذا، بجائزة نوبل، لو لم تمنح دور النشر النرويجية لهذا الرجل كامل ممكنات النشر، سواء تعلق الأمر بالشعر، أو المسرح، أو الكتابة للناشئة (مع أني أتصوره "سكيزوفرينيا" ينتقل من الإبْهام والغموض في المسرح إلى الوضوح في الكتابة للأطفال)، ولو لم تمكّنه من حظوظ الترجمة كافة إلى اللغات العالمية كالإنكليزية والفرنسية؟ وأنا هنا لا يمكنني أبدًا أن أدعي أن الترجمة وحدها هي التي تسمح بهذه العالمية المفترضة، وإنما مجموع العوامل التي تسمى اليوم استراتيجيًا بالصناعة الثقافية ووسائطها، والتي تعمل، في وضعية تدني القراءة، إلى تحويل الوسائط الأخرى، السمعية والبصرية، إلى وجيهة فعالة وناجعة.
وحتى نعود إلى مرغريت دوراس، وبورخيس، وكليطو، سعدت كثيرًا بحيازة هذا الأخير على جائزة الملك فيصل، التي تتوجه عربيًا كحكيم للكتابة الأدبية العربية، فقد يكون الأمر مدخلًا لجائزة عالمية كجائزة نوبل. وسعادتي بذلك مزدوجة لأني كنت أنوي أن أسجل معه بعد عودتي من الدراسة في فرنسا أطروحتي في الدكتوراة، غير أن قوانين الجامعة لم تكن تسمح آنذاك بأن أسجل بالعربية أطروحة مع أستاذ ينتمي إلى شعبة اللغة الفرنسية وآدابها. بيد أنني تداركت الأمر ودعوته لكي يكون رئيسًا للجنة مناقشة تلك الدكتوراة في أواسط التسعينيات، فكان نِعْم الرئيس.

توفيق الحكيم وطه حسين


هل الجوائز ذاكرة للنسيان؟
يفصح مَسير الحائز/ المفاجأة على جائزة نوبل لهذا العام عن كاتب حاز قبل ذلك على جوائز جهوية للأدب النرويجي، ثم للأدب الأوروبي. ومن كثرة جوائزه التي حاز عليها قبل نوبل نكاد نجزم أن الرجل حاذق في التقدم للجوائز والحيازة عليها، فيما أن مرغريت دوراس لم تحظ إلا على بعض الجوائز غير الهامة، عدا جائزة غونكور عن روايتها "العشيق" عام 1984.
إن منطق الاستحقاقُّراطية méritocratie (إذا صحت هذه الترجمة رغم ثقلها) يشكل منظورًا في الغرب بكامله يجعل الكاتب يهتم منذ روايته أو كتابه الأول بالجوائز الملائمة له.





فثمة في فرنسا مثلًا جوائز خاصة بالنساء (جائزة فيمينا)، وجوائز للعمل الأول، وجوائز الخريف والربيع، والجوائز الكبرى، كجائزة الغونكور. ومع توالي السنين، سواء تعلق الأمر بهذه الأخيرة، أم بنوبل، فإن عددًا من الأسماء يغمرها النسيان، فنكاد لا نتذكرهم بتاتًا. وقد أدرك جان بول سارتر اللعبة التي تتحكم في الجوائز الأدبية من أكثر من نصف قرن، فلم يتوان في أكتوبر 1964 في رفضها. وجاء في الإعلان المتوّج لهذا الكاتب الفيلسوف، أنه حاز على الجائزة "لأعماله التي مارست تأثيرًا شاسعًا على عصرنا، بروح الحرية والبحث والحقيقة التي يشهد عليها فكره". أما سارتر، فقد رد على ذلك الإعلان برسالة جاء فيها: "أنا آسف، لأن القضية أخذت مظهر الفضيحة: تُمنح جائزة وأحدهم يرفضها". وقد بسط الفيلسوف أسباب رفضه الذاتية والموضوعية التي تتمثل في تلافيه لقبول الجوائز الرسمية، ومن ضمنها وسام جوقة الشرف عام 1945، كما رفضه الدخول إلى الكوليج دو فرانس. ولهذا السبب لم يتلق سارتر مبلغ الجائزة الذي يقدر بما يساوي اليوم 300 ألف يورو. بيد أن سارتر لم يكن الوحيد الذي رفض جائزة مميزة. فقد رفض جوليان غراك قبله جائزة الغونكور، عام 1951، لأنه كان يرى أن الجوائز مسألة تهم الناشرين والمكتبات لا المؤلفين. غير بعيد عن فرنسا، كان الروائي صنع الله إبراهيم قد رفض استلام جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي عام 2003، التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة. ولم تمرّ إلا شهور قليلة، حتى جاء رفض القاص المغربي المميَّز أحمد بوزفور لجائزة المغرب للكتاب عام 2004. ودرْءًا لهذا الضرب من المفاجآت، الذي يخلخل سير الجائزة، أيّ جائزة، ويشكل من ناحية أخرى تشكيكًا في جوهرها، صارت الجوائز في الغرب كما في عالمنا العربي تفرض في ملف الترشيح موافقة المؤلفين كتابةً على عملية الترشُّح والترشيح.
أفَلا يجرّ رفض الجائزة على الكاتب، في آخر المطاف، شهرة أكبر من الحيازة عليها؟ ثم ألا تأتي الجائزة أحيانًا متأخرة جدًا عن وقتها؟ وفي نظام الجوائز التي تُمنح لكتاب واحد (غونكور أو جائزة الشيخ زايد لدينا)، ألا يكون الكتاب الأقل استحقاقًا لهذه الجوائز في نظر المؤلف هو الذي يقطفها؟ بل، ما الذي قد تضيفه رمزيًا وفعليًا جائزة نوبل، أو الغونكور، أو جائزة رسمية من قبيل جائزة المجلس الأعلى للثقافة في مصر، أو جائزة المغرب للكتاب، لكتاب من مثل سارتر، أو جوليان غراك، أو صنع الله إبراهيم، أو أحمد بوزفور؟ ثمّ، أليس التكريس الحقيقي للكاتب والمثقف هو تكريس القارئ؛ ومن بعد، حين ينسى التاريخ عددًا من المتوَّجين، خاصة حين تكون المؤلفات المتوَّجَة عبارة عن ترْداد لموضة ثقافية، أو منهجية عابرة، هو أن يكون ذلك التكريس لبصمة الكاتب التي تظل محفورة في جدار التاريخ لمدى طويل؟ وأخيرًا، لماذا تملك الجوائز أسرارها المحروسة التي تكاد أحيانًا تكون أسرارًا للدولة؟ ولماذا لا تفصح جائزة نوبل مثلًا عن أرشيفها إلا بعد مرور خمسين عاما عليه؟...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.