}

كيف قرأ مؤلف "دروس قرن من الحياة" مأساة فلسطين؟

جورج كعدي جورج كعدي 7 أبريل 2023
تغطيات كيف قرأ مؤلف "دروس قرن من الحياة" مأساة فلسطين؟
إدغار موران في باريس (24/ 3/ 2010/ Getty)
إدغار موران عَلَم كبير من أعلام السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، إنسانيّ النزعة (Humaniste) على نحو عميق وفريد، أمضى عمره المديد (ولد عام 1921، ويحيا اليوم سنته الثانية بعد المئة) في التأمّل والتبصّر في أحوال الإنسان والحضارة الإنسانية وكوكبنا المنكوب، لنَقُلْ بمسحة من التشاؤم، ولكن من دون فقد الأمل بتغيّر ما قد يحصل، أو يجب أن يحصل، لإنقاذ العالم الواقف على شفا الهاوية. استقامته الفكريّة، وموضوعيّته العلميّة، فضلًا عن ماركسيّته ذات فترة مديدة من حياته وقد هجرها لاعتناق الفلسفة البوذيّة... ذلك كلّه (وسواه من الاعتبارات) دفعه إلى تخطّي أصوله اليهودية، والتزام مفهوم الإنسانيّة الكونيّة الواحدة، وعلى نحو يتجاوز الأمميّة الماركسية إلى ما هو أعمق في البُعد الإنسانيّ الذي ينشد السلام بشقّيه، داخل الإنسان المتصالح مع ذاته، وبين الشعوب والأمم والأديان والحضارات. ولطالما كان اشتغاله الجوهريّ في مؤلفاته العديدة القيّمة جدًا هو على مصير العالم والبشريّة في ظلّ ما يتهدّدها من حروب وأزمات وثورات تكنولوجيّة ضارّة أكثر مما هي مفيدة، فهو القائل مثلًا "حضارة الكهرباء لم تضئ الظلام الداخليّ". وقد انعكس قلقه الإنسانيّ والوجوديّ على المستوى الكونيّ إلى منح كتبه عناوين مقلقة بدورها، مثل "إلى أين يسير العالم" (2007, oὺ va le monde?) و"أَنَحْوَ الهاوية" (2007, Vers L'abȋme?)، و"عنف العالم"  (La violence du monde، بالإشتراك مع جان بودريار، 2003)، و"ثقافة أوروبا وبربريتها" (2005,Culture et barbarie européennes) حتى أنّ عدد مؤلفاته الهائل بلغ مئة وخمسة عشر مؤلفًا في مواضيع شتى طاولت حتى نجوم السينما الذين خصّهم بكتاب ممتع لكونه مولعًا بهذا الفن وأسهم فيه حتى كاتبًا ومخرجًا (له أكثر من تجربة إخراجيّة سينمائيّة، أبرزها "وقائع صيف" Chronique d'un été مع المخرج الرائد جان روش).
سعى إدغار موران في مقالات عديدة، بينها "فلسطين الرؤية المزدوجة" في صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية عام 1997، إلى توصيف دقيق للصراع العربي ـ الإسرائيلي، مقدّمًا فيها، بعيدًا عن المنحى العاطفيّ، حجج الطرفين حول الحقّ التاريخيّ بالأرض، ثم معالجًا في مقالة ثانية لصحيفة "لوموند" (2 فبراير/ شباط 2001) ظاهرة المُضطهد الإسرائيلي والمُضطهد الفلسطينيّ في أرضه التاريخيّة، ومن ثمّ موقّعًا عام 2002 مع دانييل سالتاب، والباحث الفرنسيّ من أصل مغاربيّ سامي نائير، في منبر حرّ لـ"لوموند" أيضًا مقالًا تحت عنوان "إسرائيل ـ فلسطين: السرطان"، معلنًا موقفه ضدّ الحكومة الإسرائيليّة، ما جرّ عليه التهمة الجاهزة "معاداة السامية"، ولكنّ الدعوى ضدّه وزميليه التي حرّكها مؤيّدون لإسرائيل أخفقت، إذ برّأت المحكمة الثلاثة تحت بند "حرية التعبير".

إدغار موران يلقي محاضرة في مؤتمر "حدود الفكر" في بورتو أليغري في البرازيل (8 / 8/ 2011/ فرانس برس) 

لطالما كان موران بين مفكّرين ومثقفين فرنسيين كبار (لا ننسى جيل دولوز، المناصر في دوره، وبلا أدنى لبس، للقضيّة الفلسطينيّة، من موقعه الفلسفيّ البارز) مدافعًا شجاعًا، جريئًا، عادلًا، عن هذه القضيّة الإنسانيّة الكبرى، بل عن المأساة التي شغلت أهل الفكر المتنوّرين والإنسانيين بمعزل عن أصولهم وانتماءاتهم الدينية، إلى حدّ أنّه تمّ التعتيم على كتاب موران "العالم الحديث والمسألة اليهودية" (2006) في كبريات الصحف والمجلّات الفرنسية. علمًا بأنّ موران ينظر إلى القضيّة الفلسطينيّة بكونها قضيّة سياسيّة لا دينية، عادًا أن الكيان الصهيوني، باستيلائه على مدينة القدس، يحرم ملايين المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين من حقّهم فيها، فالصهيونية في عرفه ويقينه تلطّخ الديانة اليهوديّة الحقيقيّة، فيما هي تسلب الفلسطينيين وطنهم وتسرق ذاكرتهم التاريخية. ويقول بجرأة لافتة إن المحرقة النازيّة التي تعد عارًا على الإنسانية، وطاولت اليهود والغجر والمعوّقين، لم تشكل درسًا أخلاقيًا ليهود إسرائيل، بل نقلوا كلّ تبعاتها إلى أرض فلسطين، مستعيرًا في هذا الصدد قول فكتور هوغو "مظلوم الأمس، هو جلّاد الغد". وكان لموران عام 2013 لقاء فكريّ مميّز مع الأكاديميّ (من أصل مصريّ) طارق رمضان في مراكش، ناقشا فيه قضايا متنوّعة وحسّاسة تخصّ العالم المعاصر، وأدار الحوار بينهما أستاذ الفلسفة الفرنسي كلود هنري دوبور du bord، وشجب فيه موران الغطرسة الإسرائيلية والجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون في حقّ الفلسطينيين، مبديًا كذلك حزنه وأسفه حيال وضع الفلسطينيين المأساويّ في المخيّمات، آسفًا أيضًا على انقسام الفلسطينيين حول استراتيجية إدارة الصراع، ومؤكدًا على أنّ منح الفلسطيني حقّه ينبغي أن يتمّ من منطلق إنسانيّ، بعيدًا عن أي تخندق ديني، أو سياسي، أو اقتصادي. كما رأى في هذا الحوار المشترك أنّ تعرّض القضيّة الفلسطينيّة للعزلة لا تعرّض المثقف الحرّ لليأس. كما يؤكد على أنّ قيم التضامن والتسامح والحوار الراسخة في كينونته وإنسانيته تجعله متضامنًا مع سائر المضطهدين في العالم، اليهود بالأمس والفلسطينيين اليوم تحت الاحتلال الإسرائيلي، خاتمًا هذا الحوار بقول وجدانيّ: "يجب أن نعترف بأولئك الذين لا يحظون بالاعتراف: المحتقرين والمهانين. ليكن لديكم حسّ الأخوّة حيال سائر الذين يتألمون".




في حوار آخر مع الصحافية السويسريّة المستقلّة سيلفيا كاتّوري ̸ Cattori، المناضلة بدورها للقضيّة الفلسطينية، أجرته مع إدغار موران في يونيو/ حزيران 2005، يكرّر مواقفه، وإن بصيغ مختلفة وإضافات، سائلًا محاورته: "ثمة أمر لا يفهمه المدافعون، من دون شرط، عن إسرائيل، وهو أن هنالك مَنْ يمكن أن تحفّز الشفقة على شعب يتحمل الآلام. هذه الآلام المتّصلة للفلسطينيين، المعرّضين للإذلال والإهانات، وهدم البيوت واقتلاع الأشجار، هي ما يحفّزني، وبديهيّ أنّ المقالات التي أحرّرها ليست مقالات عاطفية". وإذ تسأله كاتّوري عن قصده من تعبير "المركّب" (Le complexe) الذي استخدمه في مقالة له حول القضية الإسرائيلية ـ الفلسطينيّة تحت عنوان "البسيط والمركّب"، يوضح موران "إن المركّب ناتج عن كون اليهود يحتفظون بذكرى الاضطهادات التي تحمّلوها ماضيًا، والتي يذكيها الاستحضار الدائم لأوشفيتز (...) من الواضح أيضًا أنه طالما استمرت عزلة إسرائيل في الشرق الأوسط فإن تهديدًا مدمّرًا ينتظرها (...) كتبت هذه المقالة في إحدى اللحظات الأكثر توتّرًا والأشدّ عنفًا، ما استدعى منّي التدخل والإدلاء بشهادة" (تحضرنا هنا شهادة جان جينيه التاريخية عن مجزرة صبرا وشاتيلا الهائلة والمرعبة والمأسوية)، ويتابع: "بنيتُ مقالتي استنادًا إلى العديد من الشهود العيان. وحرصتُ على أن يوقعه معي صديقي سامي نائير، ودانييل سالتاب، التي سبق أن زارت فلسطين. من البديهي أنني كنتُ راغبًا في هذا النصّ، وفي القيام بتشخيص، وبإصدار إنذار. كانت هنالك مسألة حرصتُ على طرحها: كيف يُعقل أنّ ألفي سنة من الاضطهاد والإذلال لم تُعتمد كتجربة للإحجام عن إذلال الآخرين؟ كيف أمكن لإسرائيل، وهي نفسها وريثة اليهود المضطهدين والمهانين، أن تضطهد الفلسطينيين وتهينهم؟ هذه المفارقة التاريخيّة هي ما طرحت الأسئلة في صددها، إضافةً إلى أمور أخرى كانت موضوع انتقاد من المعسكر الموالي لإسرائيل، وقد أثارت هذه الفقرة غيظ مفكرين مثل فينكيلكروت"(يقصد الفيلسوف الفرنسي ذا النزعة الصهيونيّة Alain Finkielkraut)، موضحًا: "من الواضح جدًا أنّ المقالة هذه ليست معاديةً للساميّة، وليست عرقيّةً، ولا ذات نزوع عرقيّ. كان الوضوح دقيقًا في مقالتي أن المقصودين هم يهود إسرائيل، وليس يهود شارع أشجار الورد  rue des rosiers في بروكلين، فهؤلاء ليسوا الذين يضطهدون الفلسطينيين. وكان كلامي دقيقًا حول أنّ المحتلّ الإسرائيليّ ليس وحده من يلجأ إلى مثل هذا الابتزاز، بل كلّ محتلّ غير مرحّب به لأراضي الغير. لقد حاولتُ عرض الأسباب السيكولوجية والتاريخية، وبينها تدخّل حماس. قمت، في صريح العبارة، بمجرّد محاولة فهم لما يجول في نفس هؤلاء المقاومين وذهنهم، وفهم ظروف الإحباط والكراهية التي تدفعهم (...) هذه التساؤلات اعتبرها المتّهمون "تمجيدًا للإرهاب" رافضين محاولة فهم دواعي لجوء أشخاص إلى التضحية بحياتهم على هذا النحو".



حول معاناته كمفكّر فرنسيّ من أصل يهوديّ لم توفّره تهمتا "اللاسامية"! و"كره الذات" من مثقفين يهود صهاينة ومنظمات يهودية داعمة لإسرائيل هناك، يكشف موران: "الواقع أنّ ثمة جزءًا كبيرًا من الإسرائيليين، وربما جزءًا كبيرًا من اليهود في فرنسا، واقعون بين يدي كريف ̸ CRIF وهي المنظمات المدعوّة مجتمعيّة Communautaires ، يرون أنّ هناك نوعًا من المركزية اليهودية ومن هستيريا الحرب: تمّ تحديد العدو من الزاوية الشيطانية، ويحسبون أنفسهم أنّهم دومًا على حق. ورغم أنّ فرنسا ليست في حالة حرب، فإنّها تشهد حالة نفسية تجعلها ترى معاداة للساميّة في أيّ نقد يوجَّه إلى إسرائيل، ويمكن اعتمادًا على حجج شاذة الإيحاء بأنّ كلّ الذين ينتقدون إسرائيل هم من الآن فصاعدًا معادون للسامية، علمًا بأنّ إسرائيل تعلن صراحةً أنّها يهودية، وتريد أن تكون يهودية، وتزعم أنها تمثّل اليهود أجمعين. نحن إزاء حلقة مفرغة. أعتقد أنّ نزعة معاداة السامية الخياليّة تقوّي المركزية الإسرائيلية. لا تنعم إسرائيل بالوجود إلّا بوجود معاداة السامية التي تعد أن معاداة السامية النازية درجتها القصوى (...) بعد 1967 أضحت تتمتع بموقع الدولة الأقوى، وكانت في حاجة إلى إخفاء هيمنتها بتحويل نفسها إلى ضحية (...) إنّ معاداة السامية تغذّي على نحو ما سياسة ضمّ مزيد من الأراضي إليها، ولا تبحث عن حل بالتفاهم والحسنى والسلام (...). بعد نشر مقالتي تلقّيت كثيرًا من رسائل التفهّم والتأييد من الذين فهموا النظرة المركّبة، غير أنني تعرّضت في المقابل للشتائم. توجّهت إليّ مهندسة على قدر عالٍ من الثقافة قائلة: سيّدي، ماذا تحكون؟! إنّ القدس هي لنا منذ ثلاثة آلاف سنة!... وكأنّ من البداهة التاريخية أن القدس كانت أزلًا وأبدًا يهوديّة! إن فكرة هؤلاء الذين يلطّخونني هي إمرار رسالة مفادها أنّني رغم كوني من أصول يهوديّة ثمة إمكان مع ذلك لأن أكون معاديًا للسامية. هم يدلون بحجة "كره الذات" (...) اتهامي بـ"كره الذات" أمر مضحك تمامًا! كل ذلك حُلَّ الآن".




رغم كلّ هذا الاضطهاد الذي واجهه موران من أبناء ديانته الأصليّة فإنّه فكّر في نشر المقالات التي حرّرها حول هذه المسألة تحت عنوان "كتابات عنصرية ومعادية للسامية" ليتمكن القراء من الاطلاع على الموضوع. وهو ليس مؤمنًا بأنّ حق الأقوى يحجب حق الأضعف، والبرهان أنّه ثابر على كشف الحقيقة وما أسماه بـ"الازدراء الرهيب والمرعب"، إذْ كان يشاهد عبر التلفزيون بيوتًا للفلسطينيين تُهدم، ودبّابات تطلق النار على الأطفال، والإهانة اليومية المنصبّة على الفلسطينيين الذين يحضرون إلى مراكز المراقبة، والشيوخ الذي يُجرّدون من ملابسهم أمام أطفالهم، قائلًا: "هذا الازدراء الرهيب هو ما أردت كشفه للأعين، هذا الازدراء المرعب الذي يعبّر عنه بشكل خاص هؤلاء الشبّان من جنود تْسَاهلْ (...) هذه الإهانة لا تُشاهد في الخارج. الذين يحضرون إلى قلب المكان هم الذين يؤكدونه. لهذا السبب لا يفهم كثر واقع الفلسطينيين اليوميّ".
يلفت إدغار موران إلى ظاهرة مثيرة في المجتمع الإسرائيلي: "إن اليهود المتحوّلين إلى العلمانية بدأوا يقرأون التوراة والتلمود. ثمة دعوة إلى الدين. انبعثت المكوّنات القديمة الثلاثة للهوية اليهودية. وعندما نكون في كنف مثل هذه التركيبة، وفي سياق الحرب، نشرع في كره العدو، وكلّ من يخلخل صورتنا الذاتية الجميلة. إنها صورة الصّابْرا، أي الرجل الذي كان يستعمر الأرض. إنها أسطورة "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب"، الشعب الذي يستنبت الزهور في الصحراء. كان شعبًا من المحاربين الشجعان، وثمة انتشار لهذه الصورة العجائبية لليهودي الذي محا صورة اليهودي الصغير الذي تملّكه الخوف في الغيتو. وبعد ردح من الزمن لفت الأنظار أنّ هؤلاء الناس أنفسهم يطلقون الصواريخ على مناضلي حماس، الحقيقيين، أو المفترضين، ويدمرون التجمعات السكنية، مثلما حدث في جنين عام 2002، ويشنّون كلّ هذه الحملات العسكرية القمعية. هذا يمسّ صورة {الذات}، أي صورة يهود كثر لا يجدون أنفسهم في تلك الصورة. إنّ الصورة التي يجدون فيها أنفسهم هي: أنا ضحيّة أوشفيتز، أنا الإسرائيلي الطيّب الذي يزرع الأرض. إذًا، حين تبدّلت صورة {الذات} هذه بطريقة درامية راحوا يصبّون كراهيتهم على كلّ من يدمّرون، عبر نقدهم إسرائيل، صورة {الذات}. لماذا أحجموا لزمن طويل عن تسمية الفلسطينيين بالفلسطينيين؟ لأنّ هؤلاء عرب! غولدا مائير نفسها كانت تقول عنهم إنهم بهائم. امتنعوا عن اعتبار أنهم يحملون هوية ما".
يقرّ موران لمنظمة التحرير الفلسطينية بأنّها "تمكنت، مع عرفات، من تعريف العالم بمفهوم الفلسطينيّ، كما نجحت في فرض الاعتراف بها في الطرف الأقصى من الحكومة الإسرائيلية. فكرة أنّ الفلسطينيين كانوا موجودين في أرض اعتبروها "بلا شعب" تضرّ بهم (...) إنّهم في حاجة إلى القول إن معاداة السامية آخذة في الانتشار. كلّ ذلك يستخدم لتبرير إسرائيل. ما يفعلونه هو من الناحية الاستراتيجية محبوك جيدًا".
في ما بقي من متّسع محدود ضمن هذا العجالة التي لا يمكن في أيّ حال أن تختزل فكر هذا العملاق ذي المؤلفات المئة والخمسة عشر، وصاحب النشاط الفكري الذي لم يهدأ حتى الساعة رغم بلوغه من العمر عتيًّا، أودّ الإضاءة على بعض أفكار إدغار موران في الحياة عامّةً وفي المصير البشريّ، فهو إذ عاش يتيم الأمّ في نحو سنّ العاشرة، وكان في وضع عائلي سيّئ، حاول لينسى حزنه اللجوء إلى السينما التي أتاحت له ـ دائمًا بحسب تعبيره ـ اكتشاف العالم والمشاكل الإنسانية. كذلك ترك الأدب تأثيرًا فيه آنذاك، فجذبته حِكَم لاروشفوكو، و"طبائع" لابرويير، وأشعار هوغو، ولامارتين، ونرفال، ورامبو. ثم أسرته الفلسفة، وأكبّ على قراءة باسكال، وهيغل، وماركس، عميقًا. وأغواه لدى باسكال أنّه صوّر الإنسان نسيجًا من التناقضات، لذا قرّر لاحقًا تكريس فكره لجَبْهِ التناقض لا تجنّبه، وكان ابتكاره الشخصي "التفكير المركّب". أمّا السوسيولوجيا فجذبه إليها ريمون آرون، وجورج لوفيبر، وألفونس أولار. وفي التزامه السياسيّ الإنسانيّ، تراوحت التأثيرات بين ماركس، وأندريه مالرو، خاصةً بعدما قرأ لهذا الأخير "الوضع البشريّ" (la condition humaine). هجس كثيرًا بمواضيع الموت، والحرب، وكان سؤاله الجوهري "من هو الإنسان؟"، الذي تمرّ كلّ المعرفة، وكلّ الوجود به، فالإنسان موجود في الطبيعة والطبيعة موجودة فيه، وهذا ما يقود إلى "التفكير المركّب" لديه. أمّا علاقته بالله فيصفها بالغنوصية، أو اللاأدرية، إذ يقول: "أظنّ أنّ ثمّة غموضًا كبيرًا في الكون لا أملك الكلمات لوصفه، إذ يتجاوز الأمر قدرتنا الذهنية. أعتقد أن الإنسان هو من خَلَق الآلهة، لا العكس. إنّ الآلهة تنبثق من روح الجماعة الإنسانية، ولكن بمجرّد أن توجد، وهنا المفارقة، تسيطر علينا وتطلب منا أن نصلّي من أجلها، وقتلها، والموت في سبيلها كذلك. هذا ينطبق بشكل صحيح على الأيديولوجيا شبه الدينية، كالشيوعية، أو النازيّة... أحبّ بالأحرى أن يكون لديّ إيمان ديني، إذ أحبّ كل ما هو حماسيّ وتشاركيّ"، ويكشف إعجابه بالبوذيّة لانطوائها على فكرتين ـ مفتاحين: الأولى هي الشغف تجاه كل ما يحيا، فيما لا تعرف الديانات الكتابية الشفقة إلّا على البشر. والثانية هي أنّ الآخر غير موجود لأنّه أنت. ويعلن أنّه من أتباع دالاي لاما، المتفوّق إنسانيًّا، وعن أحد كتبه الحديثة (2021) "دروس قرن من الحياة" (leçons d'un siècle de vie) يقول: "سيبقى آخر كتبي المهمّة. أمّا حول ما سيأتي فأنا لا أؤمن بعالم آخرويّ بعد الموت. بالنسبة إليّ تتعلّق الروحانية بتطوير صفات الروح الإنسانية ـ ما أسمّيه شعر الحياة".

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.