}

"الأرض النادرة": تسييس الطبيعة

برلين- ضفة ثالثة 14 يوليه 2023
تغطيات "الأرض النادرة": تسييس الطبيعة
أظهر فادي الحموي العلاقة بين فعلي البناء والهدم(ضفة ثالثة)
في مؤسسة غلوغوير/ Glogauair في العاصمة الألمانيَّة برلين، عُرِضَت أعمالٌ متنوّعة لفنانين وفنانات شباب يقيمون في أوروبا ضمن فعاليَّة "الأرض النادرة" Rare Earths. القيِّمون على المؤسّسة أرادوا إلقاء الضوء على موضوعٍ غريبٍ ومميّز، وألّا وهو الأهمية الثقافيَّة والسياسيَّة والبيئيَّة لعناصر الأرض النادرة، التي تشكَّلت نتيجة ثلاثة عوامل أساسيَّة اندمجت مع بعضها بعضًا: البشر والتكنولوجيا والطبيعة. من الضروري التركيز بأنّ فعاليَّة "الأرض النادرة" لا تهتم بعناصر وأشياء رقميَّة تولَّدت فقط من خلال التكنولوجيا، أو عناصر موجودة في الطبيعة قبل التدخّل البشري، أو أشياء تشكَّلت فقط من خلال النشاطيَّة البشريَّة الجسديَّة حصرًا. معرض "الأرض النادرة" يهتم بدقّة بالأشياء التي تولّدت نتيجة تزامن العوامل الثلاثة مجتمعة مع بعضها.
المعرض مُسَّيس أيضًا، إذْ يركّز على الأشياء التي تشكّل عصبًا مهمًا في الإنتاج التكنولوجي المعاصر والمؤسسات الصناعية التقنيّة الكبرى، الأشياء المرتبطة بدرجة أساسية بالتطوُّر التكنولوجي المتسارع في عالمنا الحديث. هذه الأشياء ليست من دون تاريخ، بل تمتلك تاريخًا معقدًا ودمويًا يمكن فهمه من خلال ظواهر وأحداث تاريخيَّة عديدة: كالحقبة الاستعمارية الغربيّة في "العالم الثالث"، والقرارات السياسيَّة للقوى العظمى إزاء الدول التي تحتوي على هذه العناصر، والنقص الفادح لهذه العناصر بسبب الاستغلال المحليّ لها من قبل الأنظمة الحاكمة في كلّ دولة، والتي تكون مرتبطة في غالبيَّة الحالات بالشركات الغربية المتعددة الجنسيّات. معروفٌ أن بعض العناصر من الطبيعة شكَّلت حافزًا لسياسات غربيّة معيَّنة في العالم العربي وأفريقيا مثلًا. النفط في الخليج، والماس في أفريقيا مثالان مشهوران.




"الأرض النادرة" دعوة إلى النظر في العلاقة المعقدة بين البشر والتكنولوجيا، والنقص الفادح الذي بدأت تعانيه الطبيعة، وذلك من خلال أعمالٍ فنيَّة أنجزت من قبل مجموعة من الفنانين والفنانات الشباب، وهم: الألماني المقيم في برلين، أندرياس غرينر/ Andreas Greiner، والسوري المقيم في برلين فادي الحموي، والإسباني المقيم في البرتغال أرتورو كوماس/ Arturo Comas، والإسبانية المقيمة في مدريد روسيل ميسيجير/ Rosell Meseguer.
أعمال ميسيجير بالغة التسيس، إذْ إن مقاربتها الفنية تدمج معلوماتٍ من تخصّصات مختلفة، وهي الأبحاث العلمية التي تقوم بها الجامعات والمؤسسات العلمية السائدة، والتعابير والمدارس الفنية المعاصرة، والنضال السياسي للفئات الأكثر ضعفًا وتهميشًا في المجتمع. الفنانة الإسبانية تلقي الضوء على الأبعاد السياسية والاقتصاديَّة في ممارسة استغلال الثروات الطبيعيَّة، وتضع في قلب النقاش الآثار الاجتماعية والبيئيَّة السلبية المتأصّلة في علاقتنا الحالية مع المواد الخام القادمة من الطبيعة. بعين فنية ثاقبة، تظهر ميسيجير العلاقة الوثيقة بين ما تسميه بـ"استعمار المعادن الطبيعيَّة" في الدول الفقيرة من جهة، والتاريخ الاستعماري الغربي من جهة أخرى، وذلك من خلال عرض لوحات تضمّ معلوماتٍ عن الجيولوجيا والدمار البيئي واللامساواة في العالم، مع أشياء من ذاكرتها الشخصيَّة، مثل كوب شاي أحد أجدادها من الحرب الأهلية الإسبانية.
السوري فادي الحموي أخذ الفكرة من زاوية مختلفة. ففادي مهجوس بتداعيات الخطأ البشري، وإمكانية إصلاحه، من خلال استخدام المواد الخام غير المعالجة صناعيًا. وضع فادي في منتصف الغرفة زجاجًا مكسورًا ومهشمًا إلى قطع صغيرة، مظهرًا العلاقة الحساسة وغير الواضحة أحيانًا بين فعلي البناء والهدم، وهيمنة المنظور البشري على التعريف. أيّ بناء بشري يتطلّب هدمًا وتدخّلًا في الطبيعة. ما نرى فيه بناء لنا هو هدمٌ للطبيعة. مشاركته في المعرض ليست دعوة إلى التشاؤم، بل التزامٌ حول النظر إلى لأشياء أبعد من مفهومي البناء والهدم. علاقتنا مع الطبيعة قائمة على الرغبة والعنف والخلاص. وعبر تحقيق التوازن بين هذه العناصر، نستطيعُ أنّ نحقق تقدمًا اجتماعيًا يضمن سيولة الإنسانيّة وبقاءها في عالمٍ صحي بيئيًا.

بالنسبة إلى الطبيعة، لا يوجد تقسيم مثل "صالح للاستعمال" و"غير صالح للاستعمال" (ضفة ثالثة)

فكرة كوماس هي الأوضح والأقصر. بوضعه كرسيًا واحدًا في سقف الغرفة، يظهر كوماس كيف أنّ علاقتنا مع الطبيعة تتغيَّر من لحظة تاريخيّة إلى لحظةٍ تاريخيّة أخرى، وكيف أنَّ ما يُعدُّ قيمًا وثمينًا في الطبيعة هو في الحقيقة ليس إلا إسقاطًا بشريًا. بالنسبة إلى الطبيعة، لا يوجد تقسيم مثل "صالح للاستعمال" و"غير صالح للاستعمال". الفنان ينقد كيف أنّ وضع العناصر في هرم القيم هو فعل بشريّ لا أكثر، وكل الأشياء لها القيمة نفسها في الطبيعة. لتتوضح رسالة العمل المختصر، وهي ضرورة النظر في أنماط استهلاكنا وإعادة تقييم أنظمة الإنتاج في عالمنا الصناعي.
"الأرض النادرة" يوفّر فرصة لاكتشاف العلاقة بين الفن والسياسة والعناصر الأرضية النادرة، وذلك لتعزيز النقد حول سياسات الإنتاج الرأسمالية في عالمنا. كما أنّ القيمين على هذا المعرض حريصون على نقد النزعة البيضاء الاستعمارية في المجتمع الأوروبي المعاصر، ومسؤوليتها المباشرة عن الحال البيئيَّة في كوكبنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.