}

الذكاء الاصطناعي: البعدية العالية كحدود بين البشري والرقمي

برلين- ضفة ثالثة 12 يناير 2024
تغطيات الذكاء الاصطناعي: البعدية العالية كحدود بين البشري والرقمي
صورة من المعرض تم توليدها بالذكاء الاصطناعي
في متحف "غروبيوس باو"/ Gropius Bau في العاصمة الألمانيّة برلين، ثّمة معرض يدور حول ظاهرة الذكاء الاصطناعي، والهدف الأساسي من هذا المعرض هو التركيز على إمكانيات الذكاء الاصطناعي في توليد الشعريّة وتشكيل الطوباويّة. المعرض بدأ في يونيو/ حزيران في العام الماضي، ولا يزال مستمرًا حتّى الآن.
من أهم الأعمال في المعرض، وما يهمّنا في هذا النص، مجموعة من الآراء والمقاطع النصية التي تُعرض على الشاشات، من كتابة المنظّر حول الذكاء الاصطناعي، الكاتب والفنان ك. آلادو ماكدويل/ K Allado-Mcdowell. يبدأ ماكدويل قوله بأنّ مصطلحات مثل: الشبكات العصبية العميقة، والتعلم العميق، والذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي، كلها امتداد من علم التقنيات الحسابية (الخوارزمية الرياضيّة)، والذي ظهر في النصف الأوّل من القرن الماضي، وتبلور بشكل أوسع في العقد الماضي. كلّ هذه التطورات أدّت إلى ظهور إلى ما نسميّه اليوم بالذكاء الاصطناعي.
في عام 2023، سيكون الذكاء الاصطناعي هو الأكثر شيوعًا بشكله التوليدي. الذكاء الاصطناعي التوليدي هو مفهوم حديث والمقصود منه هو الذكاء الذي تشكّل بعد التعلم والاحتكاك، والذي يكون قادرًا على التواصل والإجابة على الأسئلة والتفاعل مع الناس (مثل تطبيق ChatGPT). هل ستكون الروبوتات، ربّما في المستقبل، قادرة على الدردشة الحميمية، وإنشاء نص أدبي، وتوليد الصور، وتأليف قطع موسيقيّة؟ هذا هو السؤال الأساسي.
والحال، فإنّ المعرض يحاول أن يفرّق بين نوعَيْن من الذكاء الاصطناعي، الأوّل هو الذكاء الاصطناعي الإدراكي، والذي اشتد بشكل واضح في العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين، والذكاء الاصطناعي التوليدي، والذي نما وتبلور في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. الذكاء الإدراكي يستخدم في التعرُّف على الوجه، وبصمة اليد، وملامح مشية الإنسان، وبصمة الصوت، وهو حاضر في أنظمة التعرُّف على الوجوه، وتقنيات كشف المجرمين. الذكاء الرقمي الإدراكي أشعل موجة من الجدل الأخلاقي حول خطورة هذه التقنية، وكيف أنّها تمكّن الأنظمة الشمولية (مثل الصين)، والنزعات العنصرية (الشركات الأمنية الخاصة في الدول الغربية)، في زيادة مستويات التحكُّم والسيطرة.
بنسختيها الإدراكية والتوليديّة، تعتمد جميع أنظمة الذكاء الاصطناعي الشائعة اليوم على فكرة الشبكات العصبية الرقميَّة. الشبكات العصبية الرقميّة هي معادلات رياضيّة، أو تجسيدات حسابيّة، موافقة تمامًا لعمل الخلية العصبية في أنسجة المخ البيولوجيَّة. بشكل أوضح: تحويل عمل الخليّة العصبية الدماغيّة إلى تجريد رياضي حسابي. تم تشكيل النموذج الرياضي الأوّل للخلية العصبية من قبل عالم الفيزيولوجيا العصبية الأميركي، وارن ماكولوتش Warren McCulloch (1898 ـ 1969)، وزميله عالم الإدراكيات الأميركي أيضًا، والتر بيتس Walter Pittes (1923 ـ 1969) في عام 1943.
اقترح العالمان بأن سلوك الخلايا العصبية الدماغيّة وقدرتها على التعلم يمكن نقله، أو تجسيده، أو تمثيله، أو معادلته، من خلال لغة المنطق الرياضي. الفرضية هي أنّ الخلايا العصبية الدماغية تعمل كعناصر رياضيَّة، مع الأحاسيس التي تدخل إليها (مدخلات)، والأوامر التي تخرج منها (مخرجات)، ويمكن إجراء العمليات الحسابيّة من خلال نسب الرقمين 0 و1 إلى الخلايا العصبية المثبّطة والمفعّلة.




في المعرض فيديو من عام 1948 لعالم الرياضيات الإنكليزي المعروف آلان تورينغ (1912 ـ 1954)، إذ قام تورينغ بصناعة آلة تحاول محاكاة نهج الخلايا العصبية في العمل. سمّى الآلة بـ "الآلة غير المنظمة من النوع B"، وهي زوج من الخلايا معلقة إلى كتلتَيْن وزنيتَيْن قابلتَيْن للتعديل، ومن خلال ضبط الوزن وتغييره بين هاتين الخليتَيْن بشكل متكرر، يمكن للجهاز أن يحوّل عمل هاتين الخليتَيْن وردة فعلهما إلى تمثيل رياضي يمكن قراءته.
نظرًا لحدود الحساب في القرن العشرين، لم تكن هنالك قدرة لصناعة آلات فيها هياكل حسابية اتصالية معقدة كما هي الحالة في المخ. بقيت فكرة الآلة ـ المخ، أو الآلة التي تمتلك "ذكاءً اتصاليًا من نوعٍ ما" فرضيّة إلى حد كبير. في أوائل القرن الحادي والعشرين، وفي الثورة الهائلة التي شهدها قطاع ألعاب الفيديو، أصبحت الحاجة هائلة جدًا إلى أنظمة حاسوب فيها مُعالِجَات في غاية القوة، وقادرة على التعامل مع الرسومات ثلاثية الأبعاد المعقدة. وبسبب الحاجة الشديدة، ازداد الضغط، وتدريجيًا صارت هذه الحواسيب متاحة. الحواسيب القوية القادرة على معالجة الرسومات ثلاثية الأبعاد، هي قوية الآن لدرجة تجعلها قادرة عل تجريب الفرضيَّة، وهي تشكيل هياكل عصبية اتصالية رقميَّة، من النوع الذي حلم به تورينغ. في أوائل عام 2010، صار علماء الكمبيوتر قادرين على تكديس عميق لطبقات من الشبكات العصبية الرقمية، والتي أدت إلى ثورة التعلم الآلي كما نشهدها الآن.
الآن، الإشكال دقيق، إذْ تكون الشبكة الرقميّة تمثيلًا ناجحًا للشبكة العصبية الدماغيَّة، إذا أحسّ المرء تمامًا بالمخرج القادم من هذه الشبكة، ولم يكن قادرًا على تحديد إذا ما كانت الشبكة التي ولّدت هذا المخرج عصبية أم رقميّة. الذكاء الاصطناعي يكون "حقيقيًا" إذا كانت المحاكاة اللغوية والصور المشكلة والمقاطع الموسيقية مقنعة تمامًا للمرء. لكن، ثمة نقطة فارقة تمكّن مستخدم هذه التقنية من كشفها، وهي أنّ الشبكات العصبية الرقميَّة (أي أنظمة الذكاء الاصطناعي) تمتلك خاصية أساسية رسميّة تميزها عن الشبكات الرقمية غير العصبية (الحواسيب البسيطة) والخلايا العصبية غير الرقمية (الدماغ البشري)، وهي القدرة على ما يسمّى فلسفيًا بـ"البعدية العالية"، أي القدرة على الحساب المعقد الهائل، والتنبؤات الرياضيّة على المستوى البعيد. الفكرة هي أنّ هذه القدرة الحسابية المروعة عصية وغير ممكنة على الدماغ البشري، رغم أنّ الدماغ البشري هو من وضع قواعد التفاعل، ويقرر حدود الممكن والمسموح بين هذه العمليات الرياضيَّة. ولكن هذه القدرة على "الحساب العالي" هي خاصيّة للذكاء الاصطناعي، والتي تمكن المرء من معرفة الفرق. ماكدويل يشير إلى أنّ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة قامت بتغيير البنى الاجتماعية والسياسية، وبذلك فإنّ وسائل الشبكات العصبية الرقمية، أي أنظمة الذكاء الاصطناعي المتطورة، ستؤثر أيضًا في الهياكل الاجتماعية والسياسية مستقبلًا.
من خلال إدراك "البعدية العالية"، يمكننا أن نضع الفرق بين أنفسنا وبين هذه الأنظمة الهائلة، ولنعرف بأنّ الخطأ الحسابي البشري العادي في حياتنا هو معادل لتأثرنا ببكاء طفل، أو حزننا أمام جمال الخريف.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.