}

جويس كارول أوتس: شرور "الحلم الأميركي"

إسكندر حبش إسكندر حبش 3 يناير 2024
تغطيات جويس كارول أوتس: شرور "الحلم الأميركي"
جويس كارول أوتس (Getty)

"إذا رغبتم في معرفتي، فستجدونني في كتبي".

(جويس كارول أوتس)

(1)

في نوفمبر الماضي (تشرين الثاني)، احتفلت الكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس بعيد ميلادها الخامس والثمانين؛ وكانت قبلها بشهر تقريبًا، تتبوأ بعض لوائح التكهنات، بكونها مرشحة محتملة للفوز بجائزة نوبل للآداب (كما يحدث معها من سنين عديدة)، إلا أنها – وكما جرت العادة أيضًا – لم تفز بها. لكن بين هذا وذاك، ثمة أمر ثابت عند هذه الكاتبة "الخالدة" التي أطلق عليها لقب "وحش الأدب": إصدار رواية جديدة كل عام. وهذا ما حصل في نوفمبر 2023، حيث أصدرت رواية جديدة "مذهلة" – وفق المديح الذي كالته لها الصحافة في بلادها – بعنوان "جليسة الأطفال" (Babysitter). مؤخرا أيضا، أضيف لقب جديد على سيرة أوتس: "المرأة ذات المئة رواية". هكذا عنون المخرج ستيغ بيوركمان فيلمه الوثائقي الذي خصه حول أوتس، والذي عرض مؤخرًا على قناة (Arte). صحيح أنه لقب جديد لــ "ملكة الأدب الأميركي"، ولكنه أيضًا إشادة وتحية إلى كتابات جويس كارول أوتس، المترامية الأطراف، والتي جربت فيها كل الأنواع، منذ ستين سنة حتى الآن.

من ميزات أوتس أيضًا، هذه القبعة السوداء الكبيرة التي لا تفارقها أبدًا، وكأنها بذلك – كما يصفها الناقد الفرنسي ليونار ديبريير – "تخفي إكسير الشباب والحيوية الذي لا يغادرها، طالما أن قلمها لا يزال يسخر من تلف الزمن، أو أنها تشكل الحجر الفلسفي، الذي يجعل منها شخصًا خالدًا".

رواية أوتس الجديدة- "جليسة الأطفال" – وصفت منذ صدورها بأنها تحفة فنيّة أخرى، لذا هي مناسبة لنعود ونطل على "أيقونة الأدب المعاصر"، وربما نستطيع هنا أن نضيف توصيفا آخر "سيدة الألقاب".

(2)

خلف أي كاتب عظيم ("كاتبة عظيمة"، بطبيعة الحال) هناك دائمًا قارئ عظيم، (وبالتالي، قارئة عظيمة). نشأت جويس كارول في مزرعة صغيرة بدائية على الحدود مع كندا، لذا لجأت إلى الكتب في وقت مبكر جدًا: فولكنر، دوستويفسكي، ثورو، همنغواي، الأخوات برونتي: منذ طفولتها المبكرة، "التهمت" أعمال عمالقة الأدب. بيد أن لقاءها مع لويس كارول وروايته الشهيرة "أليس في بلاد العجائب"، كانت "بمثابة صدمة بالنسبة إليها، إذ وسمتها مثلما تسم مكواة ساخنة الجلد"، كما تقول في أحد حواراتها الصحافية النادرة، وتضيف أن: "هذا الأدب المظلم، الذي يحتضن أحيانًا الخيالي لمعالجة الواقع بشكل أفضل"، يبهرها ويثير رغبة لا يمكن كبتها في الكتابة.

في فترة الطفولة، كانت أوتس تقرأ كتابًا واحدًا كلّ سنة. لكن الأمر تبدّل، حين أصبحت طالبة، إذ تصاعد الأمر إلى كتاب في كل فصل دراسي. وفيما بعد، أصبحت الكتابة بمثابة نشاط حيوي بالنسبة إليها، إذ كانت تخطط أيضًا للعمل في التدريس الذي استغرق من حياتها 40 سنة، قامت فيها بإدارة درجة الماجستير في الكتابة الإبداعية في جامعة برينستون المرموقة في نيوجيرسي. بمعنى آخر، لقد قضت حياتها كلها وهي محاطة بالكتب، ما بين قراءاتها ورواياتها ورغبتها في نقل شعلة الكتابة إلى الأجيال القادمة "حتى يحيا الأدب".

لا ينبغي علينا، مع جويس كارول أوتس، أن ننخدع بالمظاهر. صحيح أنها تبدو طويلة، نحيلة، لطيفة، وأحيانًا على كثير من الهشاشة الصحية، ولكن بمجرد أن تبدأ المناقشة الأدبية، تجد امرأة مختلفة تمامًا تكشف عن نفسها (كما تبدو في الحلقة التلفزيونية الخاصة بها): إنها مزيج رائع بين بئر من العلوم تغذيها آلاف الساعات من القراءة ووحش شرس يتغذى على المعرفة. لديها الكثير لتقوله عن مسار العالم وتطور المجتمع الأميركي. ولكن المثير للاهتمام، وحتى أنه يبدو متناقضا، أن عملها الكتابي – حين نغوص في رواياتها – يبدو وكأنه مركز سواد، بمعنى أنه أدب مظلم ولزج ودموي في بعض الأحيان، ويغوص عميقًا في الشرّ الذي انجبته الولايات المتحدة ليهاجم من دون ورع "مسخرة" الحلم الأميركي.

(3)

منذ بداياتها، قررت الروائية أن تكون "صوت الذين لا صوت لهم"، وأن تمثل الأقليات مهما كانت عليه: النساء، والسود، والمعدمين: كل شخص لديه صوت في كتبها ليصبح رمزًا لبلد لم يتوقف عن ممارسة الاضطهاد والجريمة والقتل. مع رواية "هُم"، التي توجت بجائزة الكتاب الوطني عام 1970، تتتبع جويس كارول أوتس، من خلال المصير المأساوي لمورين ويندال وعشيرتها، وهي عائلة عادية من ديترويت، 40 عامًا من الأزمات الأميركية، من الكساد الكبير إلى أعمال الشغب العرقية عام 1967. من المقصود بــ "هم"؟ كل الذين ليسوا "نحن" أو "أنا"؟ وكيف يمكننا بناء الــ "أنا" أو الــ "نحن" في مواجهة الــ "هم"؟ هناك الكثير من الأسئلة الوجودية التي تتشظى داخل هذه الرواية الكبيرة. لقد "حذرت" الكاتبة في مقدمتها من أن هذه قصة حقيقية. و"الحقيقية" هنا ليست سوى اتصال من إحدى طالباتها السابقات في مدرسة ديترويت الليلية التي اتصلت بها لتخبرها عن حياتها في أحياء المدينة الفقيرة. والنتيجة؟ قصة لوريتا وأطفالها، اثنان منهم على وجه الخصوص، أكبرها جول ومورين، الطالبة المعنية. يمتد الكتاب على مدى ثلاثين عامًا، من عام 1937 إلى عام 1967. تجمع أوتس في كتابها هذا ما بين القصة الاستبطانية والرواية العائلية والبيانات الاجتماعية. قوتها الاستفزازية تجعل أجواء هذه العقود الثلاثة مفعمة بالحيوية، بين الفقر الاجتماعي والفكري، والعنصرية الكامنة والرغبة المتزايدة في تغيير الأشياء. لذا تبدو شخصية مورين في ذلك كله، شخصية مؤثرة في رغبتها، كمراهقة، في تنظيم حياتها لمحاربة الفوضى الدنيئة والصاخبة لعائلتها، بين والدتها الثرثارة والتي غالبًا ما تكون في حالة سكر، ووالدها ثم زوج أمها الصامت عندما لا يتفجرون غضبًا. رواية كأنها تعيد ترتيب الفوضى من خلال الكتب والمعرفة والصرامة المنهجية. ومع ذلك، فإننا لا نخرج من القيود الأصلية بهذه السهولة...


(4)

في رواية "نحن آل مولفاني" (1996)، "تخدش" أوتس نفاق المجتمع الذي يسود فيه المظهر وحيث يتم بذل كل شيء للحفاظ على القشرة الزائفة للحلم الأميركي. ففي "مونت إفرايم"، وهي بلدة صغيرة في ولاية نيويورك، يعرف الجميع عائلة مولفاني وسعادتهم ونجاحهم. استطاع الأب مايكل، ذو الأصول المتواضعة، ومن خلال العمل الجاد أن يحظى بقبول مجتمع المدينة الصالح. بفضل زوجته التي يعشقها، أصبحت المزرعة التي يعيشون فيها ركنًا من أركان الجنّة، منزلًا خياليًا، وسط الطبيعة الرائعة، محاطين بالكلاب والقطط والطيور والخيول – وبحب شديد ووئام كبير – يعيش أبناؤهم الثلاثة وكما ابنتهما طفولة لا تُنسى. لغاية أن حدثت مأساة عيد الحب (السان فالنتاين) عام 1976 (فقدت الابنة عذريتها) التي وضعت حدًا لهذا الوجود الشاعري، والتي حطمت الأسرة وتركت بصمة دائمة في كل فرد من أفرادها.

تروي أوتس في كتابها "الشلالات" عن ويلات الجشع والسباق من أجل التوسع اللامحدود، من قبل عمالقة الصناعة الأميركية، التي حدثت في الأراضي النائية في الولايات المتحدة. تبدأ الرواية، حين تستيقظ أريا ليتريل، صباح ليلة زفافها، لتكتشف أنها أصبحت أرملة، بعد أن انتحر زوجها، القس الساب، بإلقاء نفسه في شلالات نياغارا، لتعتبر نفسها أنها محكوم عليها بسوء الحظ.

ومع ذلك، خلال هذا الأسبوع الذي مرّ وهي "واقفة فيه باحتجاج على حافة الهاوية"، في انتظار العثور على جثة زوجها الذي كان ليوم واحد فقط، تجذب "أرملة الشلالات البيضاء" (كما أطلقت عليها الصحافة قبل أن تصنع منها أسطورة) انتباه ديرك برنابي، محامٍ لامع ذو قلب رقيق، فُتِن بهذه الشابة الغريبة، لتصل فتنته إلى شغف غير محتمل وإن كان مطلقًا، ليرتبطا بسرعة، ويعيشان عشر سنوات من سعادة كاملة قبل أن تقع لعنة الشلالات على الأسرة مرة أخرى. هل ثمة خيبة ما هذه المرة؟ خيانة؟ عملية قتل؟ تُرِك الأمر لأولاد برنابي كي يكتشفوا لاحقًا، أسرار هذه المأساة التي دمرت حياة والديهم. أجبرهم هذا المسعى، وهذا البحث على مواجهة، لا تاريخهم الشخصي فحسب، بل أيضًا مواجهة هذه الحلقة المظلمة من ماضي أميركا: الدمار الذي لحق بمنطقة بأكملها بسبب التوسع الصناعي الهائل في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهو التوسع الذي غذاه جشع وفساد القوى التي كانت تسيطر على المكان. رواية جميلة وصاخبة مثل هذه الشلالات بسحرها الشرير.

(5)

"وهكذا، في وقت مبكر من مساء الثالث من أغسطس (آب) عام 1962، جاء الموت، على جرس الباب في 12305 طريق هيلينا الخامس. الموت الذي مسح العرق عن جبينها بقبعة البيسبول التي كانت ترتديها. الموت الذي يمضغ العلكة بسرعة وبفارغ الصبر. لا صوت في الداخل. لا يمكن للموت أن يترك هذه الحزمة اللعينة على عتبة الباب، فهو يحتاج إلى توقيع. إنه لا يستمع إلا لاهتزازات مكيف الهواء. أو... هل كان يسمع صوت الراديو هناك؟ كان المنزل من النوع الإسباني، وهو عبارة عن "مزرعة" من طابق واحد؛ جدران من الطوب الاصطناعي، وسقف من القرميد البرتقالي اللامع، ونوافذ ذات ستائر مسدلة. يبدو تقريبًا وكأنه مغطى بالغبار الرمادي. مضغوط وصغير الحجم مثل بيت دمية، ولا شيء عظيمًا بالنسبة لبرينتوود. الموت يقرع مرتين، ضغط بشدة في المرة الثانية. هذه المرة فُتِح الباب. من يد الموت قبلتُ هذه الهدية. كنت أعرف ما كانت عليها، على ما أعتقد. وممن كانت. عندما رأيت الاسم والعنوان، ضحكت ووقعت دون تردد".

هكذا تصف أوتس اللحظات الأخيرة من حياة مارلين مونرو، هذه الحياة التي كتبتها في رواية "شقراء" التي تشكل جانبًا على حدة من مجمل عملها الأدبي، إذ ربما تكون أكثر وأكبر هجوم مباشر موجّه ضد الحلم الأميركي. فمن خلال استعادة هذا الوجود المحطم للأيقونة المطلقة مارلين مونرو، ومن خلال سرد قصة مصنع الخيال في هوليوود من وراء الكواليس، تقوض الروائية يقينيات بلدها المطمئنة. لا، مصير الممثلة ليس قصة سعيدة؛ لا، هوليوود ليست جنة، إنها أشبه بالجحيم. نعم الذكورة السامة حقيقة تدمر حياة المرأة بشكل يومي.

1110 صفحات تشهد على 30 عامًا من الحياة ذات الاختلافات الكبيرة، الغارقة في البؤس والروعة اللتين عرفتهما هذه الممثلة المحظية: رحلتها من دار الأيتام إلى السرير الرئاسي، عبورها وانتقالها من البراءة إلى العنف، من الظلام إلى الأضواء الاصطناعية العائدة للومضات المسببة للعمى.

(6)

عاشقة للكتابة بكل أشكالها، وتشعر بفضولية كبيرة لمعرفة كيف تواجه قلمها بالتحديات المختلفة التي يقدمها لها الأدب، لذا لم تكتف جويس كارول أوتس بحفر ثلم روائي واحد. كانت – ولا تزال – تستكشف وتجرب. كامتداد لأدبها الأسود، كتبت عدة روايات بوليسية تحت أسماء مستعارة: روزاموند سميث ولورين كيلي. بعض رواياتها مثل "حب أبي" الذي لا يطاق (2016) تأخذك إلى جانب الإثارة النفسية والرعب. ثمة جانب آخر في هذا العمل، جسدته "بيلفلور" (1980)، و"الملحمة القوطية"، وقد ذهبت فيه الكاتبة إلى التجول في قلب الرواية الفانتازية والخيالية.

لكن جويس كارول أوتس ليست مجرد روائية فقط، بل هي بعيدة كل البعد عن ذلك. منذ بداياتها، حاولت تجربة الشعر في مجموعات على مفترق الطرق بين السياسي والحميم، مثل "كآبة أميركية". وألفت أيضًا عددًا من المسرحيات الناجحة مثل مسرحية "في حالة القتل". وهي، قبل أي شيء آخر، كاتبة قصة قصيرة متميزة ولم تتوقف أبدًا عن الدفاع عن هذا النوع "غير المحبوب" (عند دور النشر). فبين رواية وأخرى، لا بدّ أن تنشر مجموعة قصصية، وكأن هذه اللقطات التي تقدمها فيها، تشكل إضاءة لعملها الروائي.

ومع ذلك، تبدو جويس كارول أوتس، دائما، في المكان الذي لا نتوقع أنها موجودة فيه أبدًا. ربما الدليل على ذلك أن واحدًا من أجمل وأروع أعمالها مقالة أدبية عن الملاكمة؛ أتى كتابها هذا بمثابة تأمل شعري مليء بمشاهدتها لحفلات النزال التي حضرتها، كما عن الكلمات (الصراخ) التي يتفوه بها الملاكمون حول نشاطهم والمعنى الذي يمنحونه لها. ومن خلال هذه الرياضة أيضًا، تكشف للقارئ جانبًا من حياتها، ولا سيما علاقتها مع والدها الذي عرّفها على هذا الفن القتالي في خمسينيات القرن الماضي.

ولكن، بعيدًا عن المسعى الحميم، يتمّ الكشف عن قصة رائعة عن الملاكمة نفسها، وهي عاطفة إنسانية، إنسانية للغاية، والتي ترمز إلى عظمة روحنا بقدر ما ترمز إلى دناءتنا الأكثر شهرة. تستكشف جويس كارول أوتس أهميتها الاجتماعية الفريدة في الولايات المتحدة وأهميتها في تحرير الرجال السود في أميركا.


(7)

كيف يمكن للمرء أن يكتب مثل هذه الرواية وعمره يزيد عن 80 عامًا؟ هذا هو السؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهن القارئ عند إغلاق أحدث كتب جويس كارول أوتس، وخاصة روائعها المتأخرة، "كتاب الشهداء الأميركيين"، الصادر عام 2019، و"جليسة الأطفال" الصادر في نهاية الأشهر الأخيرة من العام الماضي.

أولًا لأنها أعمال كثيفة مترامية الأطراف، لا تكتفي بسرد بسيط وخطي. ومن ثم، لأن مقترحاتها الأدبية تتسم، في كل مرة، بحدّة هائلة تجاه التيه المذنب الذي ضاع فيه المجتمع الأميركي.

إذا كانت الشيخوخة، بالنسبة إلى العديد من الكتّاب، مرادفة للارتخاء والفجوة القاتلة مع الزمن، فإن هذه ليست هي الحال بالنسبة لــ أوتس، الثمانينية. ما من مرة كان قلمها حادًا، أو قاطعًا، أو جذريًا إلى هذا الحد. فبشغف ناشطة شابة، تواصل تخيل قصص تتحدى يقيننا وتشكك في عصرنا.

من هذا الحيز يأتي "كتاب الشهداء الأميركيين" الذي يشكل "انفجارًا" رائعًا، وهو أحد النصوص الرئيسية في حياتها المهنية التي لا تنضب. في أواخر التسعينيات، في ولاية أوهايو، قُتل جوس فورهيس بوحشية على يد لوثر دنفي. أكان ذلك بسبب حب التنافس؟ أم هو نزاع مالي؟ أم أن الأمر مجرد تسوية بسيطة؟ كان السبب أكثر إثارة للقلق. كانت الضحية طبيبًا يجري عمليات الإجهاض. أما جلاده، فهو "جندي الله" الذي لم يتحمل أن تُزهق الحيوات والأرواح. تستخدم جويس كارول أوتس هذه الجريمة الشنيعة كنقطة انطلاق للوحة جدارية متآكلة تمثل أميركا المهتزة بقيمها العميقة.

بطريقة لافتة للنظر تكشف جويس كارول أوتس عن الآليات التي أدت إلى هذا العمل القاتل: لوثر دنفي هو أب ينهشه الذنب وزوج معدم. ولكي لا يغرق، يتمسك بكنيسته، حيث يعقد اجتماعًا حاسمًا مع البروفيسور وولمان، الناشط المناهض للإجهاض. وسرعان ما يشعر أيضًا بأنه مستثمر في مهمة إلهية، وهي الدفاع عن الأطفال الذين لم يولدوا بعد، بغض النظر عن الثمن الذي يجب دفعه، بما في ذلك حكم الإعدام في المستقبل.

في المناقشة العنيفة حول الإجهاض، يكون كل طرف مقتنعًا بصلاحية أفعاله. بقيادة المثل الإنسانية، كرّس فورهيس حياته للدفاع عن حق المرأة في السيطرة على جسدها. وقد أدى مقتل الرجلين إلى ترك أسرتيهما في حالة هشة. ولا سيما بنتيهما، نعومي فورهيس وداون دنفي، المهووستين بذكرى الأب.

تقدم الكاتبة صورة حادة لمجتمع اهتزت قيمه العميقة. ومن دون اتخاذ موقف على الإطلاق، تعكس واقعًا معقدًا للغاية بحيث لا يمكن أن يرتكز على معارضات ثنائية. بين الأجنة المجهضة والأطباء المقتولين أو "جنود الله" المحكوم عليهم بالإعدام، من هم الشهداء الحقيقيون؟

رواية ذات قوة نادرة، حول سؤال يمزق الشعب الأميركي بعنف.

(8)

كما رسم توم وولف في روايته "أوهام الافتخار"، ترسم أوتس في روايتها "جليسة الأطفال"، صورة مزعجة للنخبة الأميركية البيضاء. فعبر أحداث مليئة بالتشويق المثير ومنسق ببراعة على حدود الرعب، ندخل إلى حياة هانا وويس جاريت (في الأربعين من العمر) اللذين يعتبران واحدة من أقوى عائلات النخبة البيضاء والبرجوازية في ديترويت في نهاية سبعينيات القرن الماضي؛ فما بين الحفلات الخيرية ورحلات العمل، يلتقيان من دون احتكاك حقيقي في منزلهما الفخم في الضواحي. ليس لديهما سوى طفلين صغيرين مشتركين، مدللين من قبل مدبرة المنزل المتكتمة ولكن المخترقة، إسميلدا.

كانت حياة الحي تبدو وكأنها تحتوي على كل ما يشبه الحلم الأميركي، لغاية اللحظة التي بدأ فيها العثور على جثث الأطفال، معظمهم من الأولاد، عراة وبلا حياة في قطعة أرض خالية قريبة، ما أعاد هذين الزوجين إلى أرض الواقع. قاتل لا نعرف عنه شيئًا، فتسارع وسائل الإعلام إلى تسميته: جليسة الأطفال. بينما يخيم عدم الفهم والخوف في المنازل، تبحث هانا عن العاطفة والمغامرة في أحضان عاشق غامض ومزعج، لا نعرف إلا الأحرف الأولى من اسمه: Y.

ولكن، بينما يبدو أن فخًا مدمرًا يقترب منها، تستمر جرائم جليسة الأطفال وتسحب في أعقابها ميكي، الشاب الهامشي الذي يحاول الهروب من واقعه بأي ثمن مقررا مواجهة ماضيه في دار الأيتام في ديترويت... قصة قاسية وملفتة للنظر. صورة للطبقة المتوسطة الأميركية البيضاء المعزولة عن العالم الحقيقي، "جليسة الأطفال" هي رواية محمومة جيدة البناء، وهي استكشاف نفسي جيد وخام لأحلك أركان النفس البشرية.

ظلام دامس، ومشاهد رعب "تاريخية"، وتهمة لا ترحم ضد بلدها: فساد قوات الشرطة، والنفاق، والغضب وكراهية النساء لدى الرجال، لا تدخر جويس كارول أوتس شيئًا ولا أحدًا، وخاصة القراء. باختصار عمل مبهر يجعل من أوتس كاتبة مميزة للغاية. لذلك إن أردنا أن نقرأ أوتس، فلِم لا نبدأ من روايتها الأخيرة؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.