}

توينبي مدافعًا عن الحقّ الفلسطينيّ

جورج كعدي جورج كعدي 7 يناير 2024
تغطيات توينبي مدافعًا عن الحقّ الفلسطينيّ
معروفٌ عن توينبي أنّه غير مؤيّد للفكرة القومية(Getty)
من كنوز الفكر الإنسانيّ والعلم الموضوعيّ ما وقعتُ عليه، وليس ذائعًا ومتناقَلًا بقدْرِ ما ينبغي، موقفُ المؤرّخ البريطانيّ أرنولد توينبي Toynbee (1889 ـ 1975) من القضيّة الفلسطينية التي تناولها في جوانب متعدّدة، تاريخيّة وشرعيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة، حتى قادني البحث إلى الأكثر إثارةً وإدهاشًا: رحلة قام بها توينبي إلى غزّة مطلع الخمسينيّات من القرن الماضي، وخصّها بنصّ معبّر جدًا في كتابه الصادر عام 1956 "من الشرق إلى الغرب ـ رحلة حول العالم"، متنبّئًا فيه بما نعيشه اليوم، إذ نبّه مذّاك إلى أنّ اللاجئين الفلسطينيين في القطاع (لم يكن عددهم يتجاوز المائتي ألف في ذاك الزمن) هم فتيل قنبلة اللجوء الفلسطينيّ، والخطر الذي يتهدّد أمن العالم (تعبير مدهش في رؤيويّته واستباقه الزمنيّ). أمّا كمدخل إلى تناوله القضيّة الفلسطينية بعامةٍ فيكفي قوله: "إنّ جرائم النازيّة ضدّ اليهود أقلّ انحطاطًا إلى الدَرْك الأسفل من جرائم ضحايا اليهود ضدّ الأبرياء العرب".
عن تحوّل الضحيّة إلى جلّاد يقول توينبي: "الأشدّ مرارة، والأدعى إلى العجب بأضعاف مضاعفة، أنّ انحدار النازيّة العرقية إلى هذا الدَرْك كان أقلّ مأساويّة من تردّي اليهود الصهاينة إليه، غداة الاضطهاد الذي كانوا هم ضحاياه وفاقت فظائعه كل ما عانوه طوال تاريخهم القديم، بل فاق ظلم أي اضطهاد عانته أيّ طائفة من الجنس البشريّ في أي مكان. فماذا كان ردّ فعلهم؟ كان ردّ الفعل المباشر عند اليهود أن غدوا هم المضطهدين (بكسر الهاء) لغيرهم هذه المرة. ولمّا كانت هذه المرة الأولى، منذ سنة 135 م، التي تسمح بأن يصبّوا نقمتهم على آخرين أبرياء لم يذنبوا معهم، إلّا إذا كان ضعفهم في حدّ ذاته ذنبًا، فقد طبّقوا المساوئ والآلام التي سبق أن طبّقها عليهم مضطهدوهم المسيحيون في الغرب طوال ثمانية عشر قرنًا (...) كان اليهود وهم يرحّلون عرب فلسطين من وطنهم عام 1948 يدركون فظاعة ما يفعلون، من تجربتهم الخاصة. وهذا في حدّ ذاته مأساة كبيرة يزيدها عنفًا أنه ما كان ينبغي أن يتمخّض الدرس الذي عاناه اليهود على يد العرقيين الألمان عن تقليد اليهود تلك الأعمال الوحشية، بل أن يتخلّصوا منها. لقد عامل الصهاينة عرب فلسطين بوحشية تامة، فذبحوا الرجال والنساء والأطفال في دير ياسين سنة 1948، وكان لهذه المجزرة الإجرامية أثر كبير في دفع أعداد غفيرة من العرب إلى الهرب، وبخاصة أولئك الذين كانوا يقطنون ضمن مدى فعالية القوات اليهودية المسلحة. أمّا بعد ذلك فقد طرد اليهود جميع العرب من المناطق التي تمّ احتلالها ما بين مايو ̸ أيار (عكا)، ويوليو ̸ تموز (اللدّ والرملة)، من عام 1948. وإذ سقطت الناصرة سمح اليهود لأهلها العرب بالبقاء فيها، وكان المطرودون من عكا قد سبق أن طردهم اليهود من حيفا، والمطرودون من اللد والرملة قد أُرغموا على النزوح من يافا، علاوة على سكان عكا واللد والرملة الأصليين. ويبدو أنّ عدد الذين أُجبروا على ترك ديارهم بالقوة هو 284 ألف شخص من أصل 684 ألفًا هم عرب فلسطين في المنطقة المحتلة، والذين أصبحوا مشرّدين معدمين في ما بعد. وقد تمّ ترحيل هؤلاء الـ 684 ألفًا بطريقتين، فمنهم مَنْ رحّلتهم السلطات البريطانية قبل انسحابها، أو هربوا من تلقاء أنفسهم في الفترة الواقعة ما بين يناير ̸ كانون الثاني 1947، والتاسع من أبريل ̸ نيسان 1948، أي يوم مجزرة دير ياسين، ولعلّ الدم العربي الذي أُريق في هذه المجزرة الوحشية تقع مسؤوليته على قادة عصابة إرغون، في حين أن طرد العرب بعد الخامس عشر من يوليو ̸ تموز 1948 لا ريب في أنه جريمة إسرائيل بأكملها. وثمة من يبرّر هذه الجرائم بالقول: كان عدد الضحايا قليلًا نسبيًا، ولم تتسم الوحشية بطابع الفظاعة النازية بين 1933 و1945، ولكنّ من يقول ذلك يتجاهل، أو يغفل عن أخذ حقيقة واضحة في الاعتبار، وهي أنّ اليهود كانوا خبراء بطرائق التعذيب التي يمارسونها مع ضحاياهم، ومعنى ذلك: إذا جاز للنازيين أن يدافعوا عن أنفسهم بهذه الحجة الواهية، كالقول إنهم ما كانوا يدركون آلام وسائل التعذيب تلك، فإنّ الإسرائيليين مجرّدون حتى من هذا التبرير السخيف. كان الإسرائيليون يعون جرائمهم تمام الوعي، ومع ذلك أصرّوا على اقترافها (...) ربما كان الميل الذي يدفع الإنسان، أو الأمة، إلى الردّ على جارٍ أقوى من خلال اضطهاد طرف بريء أضعف، وممارسة الظلم نفسه الذي عاناه الأول على البريء الضعيف الجديد هو من الميول الأكثر دناءةً، وانحطاطًا، في الطبيعة البشرية. فعلى هذه الصورة كان مدّ الموجة التي اكتسحت عرب فلسطين عام 48 ارتدادًا لانفجار العلاقات بين المسيحيين واليهود في خطوط الطول الغربية، وفي ما وراء أفق عرب فلسطين أنفسهم (...) لم تكن هنالك قوة على سطح الأرض تملك قوة قول "لا" للمجتمع الغربي عندما شاء المنتصرون الغربيون في حرب (1939 ـ 1945) أن يعوّضوا يهود أوروبا عن الجرائم التي اقترفها ضدّهم مهووسو الحرب الألمان، على حساب شعب شرقيّ بريء بدلًا من حساب الغرب المجرم.




وبفعل عجز العرب عن مقاومة ذاك الظلم، فإنّ كل ما كان الجنس البشري قادرًا على فعله لا يتعدّى العجب والدهشة من محاولة الغرب التكفير عن جريمة غربيّة بفرض عقوبة مناسبة على غرباء لا علاقة لهم بالمشكلة من قريب أو بعيد!".
معروفٌ عن توينبي، فكرًا ومنهجًا واقتناعاتٍ، أنّه غير مؤيّد للقوميّات، أو للفكرة القومية، فانتشار القوميات في أوروبا دفع اليهود إلى تبنّي القومية، وبالتالي إلى السعي نحو "وطن قوميّ" لهم، وأين؟ في فلسطين، حيث وقعت الكارثة التاريخيّة. ينظر توينبي إلى إسرائيل الصهيونية في فلسطين، بضآلتها وعصبيّتها وعداوتها لجيرانها، على أنّها "نسخة للدولة القومية الغربيّة الحديثة التي كادت تصبح معضلة من شدّة إخلاصها لقوميتها. وإسرائيل الصهيونية حظّ عاثر لليهود والعالم، فهي رأت النور يوم كان العالم يأمل في اقتراب نوع الدول القومية من نهايته، وكانت إسرائيل أحدث تلك الدول سنًّا. فالقومية الغربية الحديثة أضحت عتيقةً، ماضيًا غابرًا للمجتمع الغربيّ الآخذ في التكوّن بصورة جديدة. ولدت إسرائيل متأخرة عن زمانها (...) تلك الدول القومية التي يلمحها ملّاح الطائرة مبعثرة على سطح عالمنا الآخذ في التجمّع بسرعة، قد عفا عليها الزمن، شأنها شأن مناطق "الغيتو" اليهودية سابقًا، وباتت شرنقة حريرية للمجتمعات المقبلة التي تداخلت حدودها واختلطت من دون أن يفقد أيٌّ منها خصائصه المميّزة (...) إنّ الصهيونية في جهدها الشيطانيّ لبناء مجتمع يهوديّ محض كانت تعمل بكامل قوتها لأن يتمثّل اليهود بالعالم الغربيّ المسيحيّ، مثل اليهوديّ الذي اختار أن يصبح بورجوازيًّا غربيًّا دينه اليهودية، أو بورجوازيًّا لا دين له. كانت اليهودية التاريخية (التائهة) وطبيعة النفس اليهودية المتميّزة (وهي في أصلها تكريس للشريعة الموسويّة، وذروة للكفاءة في التجارة والتنظيم المالي) هي التي استخدمها اليهود التائهون طوال العصور المتعاقبة، وهي التي أكسبتهم تلك القابلية السحرية للبقاء، رغم كونهم مشتّتين في بقاع الأرض. في حين أنّ اليهود الذين أخذوا بالنظم الغربية، سواء كانوا من أتباع المدرسة الليبرالية، أو الصهيونية، فإنّهم يقطعون حبل الاتصال مع ذاك الماضي اليهوديّ التاريخيّ. فعندما يهجر اليهوديّ الليبراليّ حياة التيه على نحو فرديّ، ثم يضع نفسه في صف البورجوازية الغربية الحديثة، فإنّه يصهر نفسه ضمن قائمة اجتماعية مسيحية عفا عليها الزمن. أمّا حين يهجر المشتّتون اليهود ذلك بشكل جماعي من أجل بناء أمة جديدة مجتمعة على أرض واحدة ومقلّدة بذلك الروّاد البروتستانت المسيحيين الذين خلقوا الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا، فإنّ الصهاينة يصهرون أنفسهم بذلك، وينقلبون إلى طبقة اجتماعية مسيحية لا مثيل لها في حياة اليهود بعد النفي، وتكون آمال هذه الطبقة الجديدة ومطامحها غير مشتقة من العهد القديم، ولا من إشعيا، بل من كتابي يوشع و"سفر الخروج" (يقصد توينبي هنا كتاب "Exodus" للكاتب الصهيونيّ المتعصّب ليون أوريس، إصدار عام 1958، والذي يروي فيه نشوء "إسرائيل" سياسيًّا وعسكريًا، واصفًا المذابح الرهيبة التي اقترفها اليهود الصهاينة بـ"حملات التأديب"! مضفيًا عليها "الشجاعة" و"الفروسية"!).



"كان الهدف الجريء الذي يسعى إليه الصهاينة هو أن يقلبوا، من عنديّاتهم الخاصة، جميع الخصائص اليهوديّة المتميّزة ذات الأصول العميقة في الحياة التقليدية ليهود التيه. ومن أجل ذلك أعادوا أنفسهم إلى المهن اليدويّة بدلًا من تلك الثقافيّة، وسكنوا الأرياف والقرى بدلًا من المدن، وعملوا في الإنتاج عوض أعمال السمسرة والوساطة، وفي الزراعة مكان المال، والجيش عوض التجارة، والإرهاب بدلًا من الشهادة، والساميّة العدوانية عوضًا عن "لا آرية" المسالمين المستضعفين. هذا التحوّل "النيتشويّ" في جميع القيم اليهودية التقليدية اعتُمد للهدم لا للبناء، للشرّ لا للخير، آملين جعل أنفسهم أبناء "أرض إسرائيل" في عهد متأخر، أي في فلسطين التي كان لها أن تصبح يهودية "مثلما هي إنكلترا إنكليزية". بدلًا من بقائهم أبناء قانونيين لنيويورك، ومانشستر، وفرانكفورت (...) خلق الروّاد الصهاينة بالفعل صنفًا جديدًا من اليهود ليس سليل اليهوديّ التائه".
فكرة مثيرة جدًا للاهتمام يأتينا بها توينبي تتعلّق بمفاخرة الصهاينة بما صنعوه في أرض فلسطين، مؤكدًا على أنهم ما كانوا ليستطيعوا ذلك في أرض غير فلسطين الخصبة، فظروفها مؤاتية للنجاح، لذا لا يحق للصهاينة التباهي بنجاحاتهم التي تنشرها دعايتهم في أميركا والغرب، فلو كانت الصهيونية تعمل في أرض قاحلة غير خصبة (يعطي توينبي مثل "أركاديا" في شرق أفريقيا) لما استطاعت أن تحرز إلّا القليل ممّا أحرزته "دولة إسرائيل" الحالية.
في مناظرة بين أرنولد توينبي والسفير الإسرائيلي في كندا يعكوف هرتسوغ في مونريال عام 1961، قال توينبي للسفير الصهيوني الذي حاول محاججته بالأضاليل الصهيونية المعهودة: "إنّها مأساة الطبيعة البشرية التي تتمثل هنا في أنّ الشعب الذي عانى آلامًا جمّة على يد شعب ما، يصبّ نقمته وعذابه على شعب آخر. ولمّا كان الخيال البشريّ أمرًا بليد الحسّ، فمن العسير عليه أن يعي ماذا تعني مقاساة هذه الآلام مجدّدًا (...) إذا كان هنالك شخص ما تربطه علاقة تاريخية وعاطفية ببلد معيّن، فإنّ ذلك الشخص يملك حقًا في ذاك البلد، إنّما بشرط واحد ألّا يستبعد حقوق الآخرين إلى حدّ الظلم والأسى، وأعني بالآخرين سكان البلد الموجودين. ثمة في القانون العام، وأعتقد أنه متوافر في سائر فروع القانون، ما يسمّى قانون التحديدات الذي ينصّ على زوال المطامع الشرعية بعد وقت محدّد. وعلى ضوء ذلك، لو تناولنا سنة 135 بعد الميلاد، أي الزمن الذي تمّ فيه على أيدي الرومان اقتلاع جذور مجموع السكان اليهود في فلسطين ـ ما عدا سكان بعض أقسام الجليل ـ لقلنا إنّ قانون التحديد لا ينطبق على الشعب الذي فقد وجوده منذ سنة 135 بعد الميلاد. قل لي بالله: ماذا يحدث لمونريال؟ كانت للأنغلوكيين منذ 300 أو 400 سنة، أي أن فترة زوالهم من مونريال أقرب بكثير من 135 بعد الميلاد، فهل تعود مونريال لهم؟ وهل تعود إنكلترا إلى الويلش؟ علينا في هذه الحال أن نرحّل نحو خمسين مليون إنكليزي ونطردهم ليصبحوا لاجئين! ودعني أنتقل الآن إلى تصريح (وعد) بلفور. يسعني القول إن ضميري غير راضٍ البتة في ما يتعلق بهذا التصريح. كنت شابًا عهدذاك وكنت أعمل لمصلحة البريطانيين في الحرب العالمية الأولى، وفي ميدان الإمبراطورية العثمانية التي كانت تشمل فلسطين في ذلك الوقت، بالطبع. ولذلك فإنّي أملك معلومات ثابتة ودقيقة عمّا حدث. إنّني أنتقد تصريح بلفور، وأنتقد أكثر منه سلوك الانتداب البريطاني طوال السنوات الثلاثين التي تلت، إذ أعتقد أننا ـ نحن البريطانيين ـ لم نعتمد خطًا واضحًا، ولم نرسم في رؤوسنا سياسة معينة طوال تلك المدة. كان الأمر عسيرًا لليهود والعرب على السواء، فتصريح بلفور لا يكاد يعالج نقطة "الحق" هذه، أو يتركّز حولها. إنّه في حقيقته وثيقة قصيرة، وأظن أن كثرًا يحفظونه عن ظهر قلب، وإن كنتُ لا أذكر مفرداته ذاتها. إنّه يتألف من عبارتين، الأولى تقول إن بريطانيا تتعهد بإبقاء ومساندة (أو شيء من هذا القبيل) وطن قومي يهودي في فلسطين. وأمّا العبارة الثانية فقد أُدخلت مشروطة بأنّه لا يجوز أن يلحق بمصالح السكان الموجودين في حينه أيّ أذى، وكذلك في جميع الأراضي التي أُطلق من أجلها تصريح بلفور عام 1917. وكان أكثر من تسعين في المئة من هؤلاء السكان من العرب. وإنني لأوجّه اللوم إلى تصريح بلفور، إذ كانت كلمة "وطن" غامضة فيه. وقد تمّ إيضاحها في ما بعد، وأذكر أنني اطّلعت على ذلك الإيضاح كموظف موقّت في سلك وزارة الخارجية البريطانية. كان الإيضاح على أساس أنّ كلمة "وطن" لا تعني "دولة"، فلو أخذنا كلمة "وطن" بمعنى "دولة" لأمست العبارة الأولى من تصريح بلفور (أي "وطن قومي يهودي في فلسطين") بلا معنى وغير متفقة مع العبارة الثانية ("عدم إلحاق أي أذى بمصالح السكان الموجودين"). أظنّ، ويظنّ آخرون مثلي، أنّ اليهود كان مطلبهم وطنًا قوميًا يأخذ شكل دولة يهودية حصرًا.




ولكنّني لا أصدّق أنّ ذلك الوطن القومي ممكن من دون طردٍ ـ كالذي رأيناه ـ لتسعمئة ألف لاجئ، وإضرارٍ بمصالح السكان المقيمين في البلاد (...) إنني أوجّه لومي إلى تصريح بلفور، ففي هذا المعنى يستطيع أيّ محام أن يثبت أنّ التعهّدين اللذين يتضمنّهما هذا التصريح كانا متناقضين. ولا شك في أن المجتمعين، العربي واليهودي، كانا سيفسّرانه بطريقتين متناقضتين. ولمّا كان العرب أكثر من تسعين في المئة من السكان فقد كان طبيعيًا أن يعتقدوا أنّه عندما يتحقّق استقلال فلسطين فإنها ستكون دولة عربية ذات أقلية يهودية. أمّا اليهود فقد فسروا كلمة "وطن قومي" على أنّها مرحلة وسطى تفضي إلى خلق "دولة يهودية"، وصرّح بعضهم بذلك قائلًا: حتى إذا لم يكن هذا ما عَنَتْهُ بريطانيا فإنّه يصلح كرافعة للاستحواذ على دولة يهودية في نهاية الأمر"!
من نصّ أرنولد توينبي الجميل عن غزة، أقتطع (بسبب طوله الذي لا يتسع له المجال هنا) بضعة مقاطع معبّرة أنبأت منذ منتصف الخمسينيّات براهن غزة ومأساتها اليوم: "غزة: في هذا المكان جذب شمشون أعمدة المسرح، مرحّبًا بالموت، ما دام هذا سيقضي على أعدائه الفلسطينيين. وفي هذا المكان أقدم القديس بورفيريوس، ذلك المسيحيّ المقدونيّ المتعصّب، على تدمير معبد مارنا، إله غزة وراعيها، بعد أن جذب الأسلاك اللازمة في القصر الإمبراطوري في القسطنطينية. إنها حوادث مشؤومة في تاريخ غزة المحلي، ففي قطاع غزة اليوم (المقصود عهدذاك) متعصبون كثر، وأسرى كثر. أعصابهم متوترة بشدّة، ولا أستبعد أن يقدموا على إجراء تدميريّ يائس، إجراء لن يدمر معبدًا، أو مسرحًا واحدًا، بل يجعل صرح المدينة كلّها ينهار محدثًا دويًّا في آذان الجنس البشريّ. وأحاول أن أسرّي عن نفسي، فأترك التفكير في غزة للتفكير في رفح، متذكرًا تلك المعركة التي دارت هناك عام 217 قبل الميلاد، والتقت فيها الفِيَلَة الهندية، والفِيَلَة الأفريقية، لأول وآخر مرة في التاريخ (كسبت الفيلة الهندية المعركة. كانت الفيلة الأفريقية أكبر حجمًا، لكنّها كانت أقلّ حظًا من الهندية لناحيتي التدريب وحسن القيادة). قبل كارثة 1948 كان عدد سكان قطاع غزة تسعين ألفًا تقريبًا، غير أنهم بلغوا اليوم (المقصود منتصف الخمسينيات) نحو مئة ألف، بينما يبلغ عدد اللاجئين في القطاع ضعفي هذا العدد. ويعاني السكان الدائمون شظف العيش الآن، كما أنّ شطرًا من أفضل أراضيهم موجود في الجانب الإسرائيلي لخط الهدنة. غير أنّهم يملكون على الأقلّ ما يتعيّشون منه وما يمارسونه، أمّا اللاجئون فليس أمامهم سوى التفكير مليًّا في الظلم الذي وقع عليهم. لقد أساء الألمان إلى اليهود، غير أنّ العرب، لا الألمان، هم الذين دفعوا ثمن الأخطاء التي ارتكبها الألمان. وتمّ تدفيع العرب الثمن على أيدي البريطانيين والأميركيين الذين انتصروا على أعدائهم الألمان، ويبدو هذا الأمر في أعين العرب مؤامرة دبّرتها أمم الغرب للقضاء على شعورها بالذنب حيال اليهود، من خلال التعويض على اليهود على حساب العرب. ويتمثّل ردّ الفعل في قلوب اللاجئين بالإصرار على رفع الظلم الواقع عليهم. يجب إعادتهم إلى أراضيهم وحقولهم في ظلّ حكم غير إسرائيلي، فما الذي سيحدث لليهود الذين استوطنوا الأرض العربية التي أُخذت عنوة، ومن دون ثمن، منذ عام 1948؟ ويردّ العرب: لقد خلقت إنكلترا وأميركا هذه المشكلة، وعليهما أن تجدا الحلّ (...). إنّه ردّ منطقيّ، لكنّه غير بنّاء (...) وإذا كان تسعمئة ألف لاجئ فلسطيني قنبلة، فإن المئتي ألف الذين يذوون في قطاع غزة هم رأس هذه القنبلة المتفجّر. هنا يكمن الخطر الذي يتهدّد أمن العالم ويتحدّى ضميره أيضًا. لا يمكن حلّ هذه المشكلة الإنسانية الملحّة من دون تضحيات مؤلمة من سائر الأطراف المعنية: إسرائيل والدول العربية واللاجئين أنفسهِم. ومن واجب العالم أن يصرّ على التفاوض من أجل الوصول إلى حلّ، وأن يدفع بسخاء لتخفيف حدّة المشاقّ. لو استعرضنا أمم العالم كلّها لوجدنا أنّ العبء الأكبر في المسؤولية يقع على عاتق بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، وفي هذه النقطة، على الأقل، لا نستطيع تكذيب حجج العرب".
أرنولد توينبي الذي ترك للبشريّة سِفْرَه الخالد "دراسة للتاريخ" في عشرة أجزاء ضخمة صَرَف سبعة وعشرين عامًا لإنجازها، ترك أيضًا بصمة إنسانيّته العميقة ونبله الأخلاقيّ والتزامه بالحقّ والعدالة والسلام، بل وقلقه أيضًا على مصير العالم والجنس البشريّ. فلا غرابة بالتالي، وتلك صفاته وسماته العظيمة، أن تأخذ القضية الفلسطينية جزءًا من اهتمامه ودفاعه، بما تنطوي عليه من آلام ومآسٍ وسيرةٍ ممتدة منذ قرن حتى الساعة لجوءًا وتشرّدًا وبؤسًا وموتًا وكفاحًا لا ينتهي.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.