}

عن التفكير الشامل في قضايا البشر وكونهم

عمر كوش عمر كوش 7 فبراير 2024
تغطيات عن التفكير الشامل في قضايا البشر وكونهم
(Getty, Paris, 7/7/2022)

 

لم ينقطع الإنسان عن التفكير في مسائل الحياة والكون والبشر، منذ أن وعى نفسه، وتعددت أنماط التفكير مع الفلسفة وتقدم العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث تكونت معارف متنوعة لدى الناس مع زيادة المعلومات وتكاثرها في عصرنا الراهن، الذي تطور فيه المسار البشري حول قضايا الكون والحياة والناس، لكن تراكم المعلومات لا يحكمه نظام تفكير شامل، يستطيع الربط بين المشاكل العميقة والمعقّدة والمتداخلة في الحياة، وكيفية مواجهتها، والربط بين الإنساني والكوني، وهو ما يدعو إليه الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران، في كتابه "التفكير شموليًا - البشر وكونهم" (ترجمة غازي برو، دار ثقافة، أبو ظبي، 2023)، عبر تحديد موقع الإنسان الفرد في المجتمع وفي العالم، وامتلاك وعي شمولي، يعتمد على تصور شمولي يربط بين الكل والأجزاء، وبين الأجزاء والكل، أخذًا في الحسبان التفاعلات والتعقيدات التي تعتري العالم والكون والأشياء. 

صدر الكتاب الأصل باللغة الفرنسية عام 2015 (Penser global – L’homme et son univers)، وسبق أن ترجم إلى اللغة العربية تحت عنوان "التفكير الشامل- الإنسان وكونه" (دار صفحة 7، الجبيل، 2022)، ثم صدرت الترجمة التي بين يدينا بعد أقل من عام، الأمر الذي يشي بأهمية الكتاب، وأهمية ما يطرحه إدغار موران، الذي يأخذ على تلك القرون المتوحشة أو الهمجية، بما في ذلك القرون الحديثة، التي تجاهلت إنسانية الآخر، التي تتصل بإنسانية مجموعة عرقية أخرى، أي أصل آخر أو دين آخر، وتعيد نفسها من جديد في أشكال من الكراهية والعنصرية وإقصاء الآخرين، لذا فإن معرفة الكائن البشري بكل ثرائه المركب، يمكنها أن تساهم في تحسين العلاقات بين البشر، وبين الشعوب وبين الأديان، وفي كثير من الأحيان بين الناس، حتى في نفس المكتب، أو في نفس الحي أو الجامعة. وتصبح العلاقات بين البشر همجية عندما لا نفهم الآخرين، إلا من خلال الحكم عليهم، أو عندما نحطّ من مرتبتهم، فأعداء الفهم هي اللامبالاة والاحتقار والكراهية، فيما يشتمل الفهم الاعتراف بالآخرين، والاحساس بإنسانية مشتركة مع الآخر، وفي الوقت نفسه احترام اختلافه.

ينظر موران إلى الكائن البشري في العالم الراهن على أنه فرد، وكائن اجتماعي، وجزء من بني الإنسان، أي وفق تعريف ثلاثي الأبعاد، فردي واجتماعي وبيولوجي، وهو تعريف يأخذ في الاعتبار الإنسان بوصفه فردًا، له عضويته في المجتمع، وتمثيله النوع البيولوجي أو بالأحرى النوع البشري، ويتوجب النظر إلى أبعاده دون انفصام، لأن أحدها لا يستطيع العمل دون الآخر، فالإنسان ينظر إليه على أنه فرد له ذات، وكائن منبثق من مجتمع معيّن، وينتمي إلى النوع البشري. وخلال تاريخه، تطور الإنسان بيولوجيًا من كائنات الأرض، التي يمتد عمرها إلى أكثر من ثلاثة عشر مليار سنة، واجتاز مراحل عديدة، انتقل فيها من مرحلة الإنسان العاقل إلى مرحلة الإنسان اللاعب، حيث تمّ تعريف الفرد البشري كإنسان مُنح العقل، وتطورت العقلانية خلال التاريخ البشري، لكن الإنسان العاقل يناظره الإنسان المجنون، وبين قطبي العقل والجنون هناك العاطفة التي تسري، وهناك الشغف، إذ لا عقل دون شغف، خصوصًا دون شغف الحب والصداقة، ولا شغف دون عقل. وينبغي أن تكون الحياة ملاحة صعبة وخطرة في هذه الجدلية. وفي مرحلة معينة من تطوره، جرى تعريف البشري انطلاقًا من قدراته التقنية، حيث جرى نعته بالإنسان المخترع، المنتج ومستخدم الآلات، ثم أدى التطور والتقدم في التفكير، ابتداء من القرن الثامن عشر، إلى اعتماد تعريف آخر للبشري مع الإنسان الاقتصادي. ومع تطوّر البشر اكتشفوا أدوات جديدة واستخدموها بشكل مفيد، وابتدعوا الأساطير والاعتقادات، مثل الخلود بعد الموت، وحياة الأطياف والأشباح، وسواها، ثم ظهرت الديانات الوثنية، في بلاد ما بين النهرين، تلاها نشوء الحضارات والأديان في الشرق الأدنى، وفي الهند، وغيرها. وهناك وجه آخر للبشري، هو الإنسان اللاعب، فنحن لا نلعب مع أجل المال فقط، بل من أجل اللعب أيضًا. إضافة إلى ما صاحب الحياة البشرية من إنفاق عبر الاستهلاك، واستنفاد أيضًا، فضلًا عن الاهتياج والاشتعال، ليظهر كل ذلك تعقيد الكائن الإنساني، كي نفسر غنى الفرد، من خلال النظر إلى الإنسان العاقل، والمخترع، والاقتصادي، والمجنون، والديني، والأسطوري، واللاعب.   

صدر الكتاب الأصل باللغة الفرنسية عام 2015 وسبق أن ترجم إلى اللغة العربية تحت عنوان "التفكير الشامل- الإنسان وكونه" ثم صدرت الترجمة التي بين يدينا بعد أقل من عام، الأمر الذي يشي بأهمية الكتاب وأهمية ما يطرحه إدغار موران

 
لقد اختلفت عبر العصور أنماط الحياة التي تتحكّم بالبشر، حيث يسود في عصرنا الراهن نوعان رئيسيان من الحياة، يتجسد أولها في نمط الحياة العادية، الذي يكتفي فيه البشر بالحفاظ على حياتهم، حيث الأكل من أجل التغذية قد لا يكون إلا شيئًا عاديًا، في حين أن نوعية الأغذية، وطقس الطبخ والمشاركة، تمنح الوجبات متعة شاعرية. وكل ما يمنحنا إحساسًا بالجمال أو الجودة، يساهم في النوع الثاني من الحياة، المتمثل بالحياة الشاعرية، الذي يتطلّب إضفاء لمسات من الحبّ، والانسجام، والفرح، والصداقة على لحظات الحياة.

يرى موران أن الفهم العميق للحاجات الشاعرية عند الكائن البشري يمكن العثور عليه في "الروايات الكبرى"، التي تقدم كائنات بشرية تعيش في ذاتيتها، في أحاسيسها، في تفكيرها، في إطارها الاجتماعي، كما لدى بلزاك، أو في إطارها التاريخي، كما لدى تولستوي، أو كائنات بكل تعقيدها الداخلي، كما لدى دوستويفسكي أو لدى بروست، وكذلك الأمر في السينما وفي الشعر والفن، حيث تظهر أبعاد الإنسان وتعقيدات تركيبته الاجتماعية والنفسية والعاطفية.

إذًا، تفرض معرفة البشري نفسها في غناها المركب، وبما يمكنها المساهمة في تحسين العلاقة بين البشر، التي تمتاز بالوحشية، ليس بين الشعوب فقط، بل بين الأديان، لذا يجب تعليم الفهم الإنساني بتصور الكائن في مظاهره المختلفة، الأفضل منها والأسوأ، فالإنسان ليس طيبًا ولا سيئًا، بل يمتلك في ذاته كل الإمكانيات. ولعل تعاظم النزعة الفردية عند الإنسان في العصر الحديث، يمكن أن تكون لها تجلياتها "الإيجابية"، بوصفها تنمّي عند الفرد المعني بها حسّ المسؤولية، واختيار السبيل الذي يريد اختياره، لكنها بالمقابل يمكن أن تؤدي إلى تعاظم النزعة الأنانية، التي يترتب عليها انحسار مفهوم التضامن، الذي يُفترض أن يزدهر تحت سقف المواطنة. ولعل أشكال التضامن التي كانت قائمة فيما سبق ضمن نطاق الأسرة وأماكن العمل والجيران، لم تعد فاعلة في الحياة اليومية، ما أفضى إلى تدهور مكانة حسّ المواطنة، وحسّ الانتماء للوطن، وذلك بالتزامن مع التراجع الكبير للتضامن بين الناس. وأدى تكاثر أشكال العنف والإرهاب والتطرف في عالمنا الراهن إلى زيادة تعقيد إعادة تفعيل الحسّ الإنساني، حيث تسود العالم أجواء تساعد على نمو الكراهية والتطرّف، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، التي تشهد موجة من التطرّف في العنف، أدت إلى إثارة موجات الهجرة الكبيرة نحو أوروبا، حيث طرح المهاجرون على الأوروبيين مشاكل تتعلّق باستقبالهم، وبالبرهنة على حسّ التضامن معهم من باب الأخوّة في الإنسانية، لكن الموقف الأوروبي حيال المهاجرين، يثير غضب موران، لأنه اتسم بانغلاق أناني متشدد، أبداه الأوروبيون حيال الهاربين من الجوع ومن الرعب ومن الموت.

يرفض موران المقاربة التي لجأت إلى تقسيم تاريخ البشرية وجزأته، تلك التي اعتمدها بعضهم بغية فهم التحوّلات الكبرى التي حدثت في التاريخ البشري، وانقسم وفقها التاريخ إلى تشكيلات كبرى، انتقل وفقها من المشاعية البدائية إلى الإقطاعية، ثم إلى الرأسمالية، وأخيرًا الى الشيوعية، ويعتبر أن تطور النوع البشري حدث سلسلة لا تنتهي من التفاعلات والتحوّلات، وعلينا تبيان مكانة الإنسان في الكون المترامي الأطراف، الذي يكاد يكون لا متناهيًا، عبر اعتماد رؤية شاملة تضع الإنسان في الموقع المناسب له في الكون، وتأخذ في الاعتبار الكائنات والعناصر التي تشكّل بيئة الحياة، المهدّدة في توازنها بسبب تدخّل الإنسان المفرط، عبر التلوث والاستثمار والاستغلال المتوحش، الهادف إلى تحقيق الأرباح المادية ومراكمة الأموال والثروات، وخاصة تلك التي انتجتها الاتجاهات المتطرفة من العولمة في مظاهرها الاقتصادية، والسياسية، والتقنية، والعلمية، وما خلّفته من تلوّث بيئي خطير، وفوارق صارخة بين دول الشمال والجنوب، الأمر الذي يطرح تحدّيات كبرى أمام الأجيال المقبلة، ينبغي مواجهتها بجيل من أصحاب التفكير الشمولي، الذين ينظرون إلى المشاكل والأحداث من منظار شمولي، عالمي، من أجل تخفيف الأضرار ووضع الحلول الناجعة لها، وبالتالي فإن حاجة البشر تكبر إلى تفكير شامل قادر على فهم الإنسان بكل تعقيداته، وفهم الآخر، ومواجهة المشاكل، وذلك في ظل الغياب شبه الكامل للاهتمام بمصير الإنسانية، وما يترصّدها من أخطار حقيقية، لذا يتوجب على البشر في هذا العالم مواجهة تحديات الأخطار، التي تشكل تهديدًا حقيقيًا للمستقبل الإنساني، وتتمثل قي الهيمنة غير المعقولة، وغير المقيدة بأي ضوابط أو أيّة كوابح، تلك التي تمارسها أسواق المال العالمية، حيث يترتب على هذه الهيمنة رؤية للعالم تراه من خلال الأرقام فقط، دون الاهتمام بالجوانب الإنسانية في حياة البشر، وما يمكن أن يعانوا منه من آلام، وما يواجهونه من مصاعب في الحياة وأزمات وكوارث. إضافة إلى خطر تجسده مختلف أشكال التزمّت والتطرّف، التي يتعاظم وجودها في العالم. ولمواجهة كل ذلك يدعو موران إلى التفكير الشامل، الذي ينظر إلى الترابط والتداخل بين مصائر الإنسان والإنسانية والعالم الذي تعيش فيه، فضلًا عن أن السياقات الراهنة تتطلّب منا، بدورها، تفكيرًا شاملًا يفرضه واقع الإنسانية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.