هل من المفيد كتابة الشعر؟
ولد الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث يوم 31 آذار/ مارس عام 1914، وشغله منذ الشباب سؤال: "هل من المفيد كتابة الشعر؟". ولاحقًا، أصبح من أبرز المدافعين عن الشعر ذاته، ربما السؤال الذي أثاره في شبابه وتنقيبه عن الإجابة أظهر له حقائق كبيرة.
كان شاعرًا وكاتبًا غزيرًا ترك خلفه حوالي 40 كتابًا... "منذ مراهقتي، كتبت القصائد، ولم أتوقف عن كتابتها أبدًا. كان طموحي أن أكون شاعرًا، ولا شيء سوى شاعر". دافع في كتبه النثرية عن الشعر، أراد خدمة الشعر، وتبريره، وشرحه للآخرين، ولنفسه. يقول: "سرعان ما اكتشفت أن الدفاع عن الشعر، الذي كان محل ازدراء في قرننا هذا، لا ينفصل عن الدفاع عن الحرية، وهذا هو مصدر اهتمامي بالمسائل السياسية والاجتماعية التي هزّت عصرنا".
يجمع باث عددًا من المتناقضات في شعره ليخلق عالمًا أكثر انسجامًا، وليس بهدف الإضاءة على الاختلاف الشديد. جاء هذا التكنيك بشكل خاص بعد إقامته في الهند لمدة ست سنوات، حيث عمل سفيرًا للمكسيك، فأوجد في فكر التانترا، وفي الحياة الدينية الهندوسية، ثنائيات ساعدته على فهم أن التاريخ يتحول على إيقاعات متبادلة، ونتج عن هذه التجربة كتابه "التيار المتناوب"، حيث يقول إن الازدواجية هي سمة أساسية من سمات التانترا، كما أنها موجودة في الحياة الدينية الهندوسية كلها، كالذكر والأنثى، النقي وغير النقي، النار والماء. وفي الفكر الشرقي، يمكن لهذه الأضداد أن تتعايش، لكن هذه العناصر تختفي في الفلسفة الغربية، وإن وجدت فهي تلغي بعضها بعضًا.
تأثر باث بالماركسية والسريالية والوجودية والبوذية والهندوسية، وكان موضوعه الأبرز هو قدرة الإنسان على التغلب على العزلة الوجودية من خلال الحبّ والإبداع الفني، كما اهتم بالسياسة، والأنثروبولوجيا، والمجتمع المكسيكي.
شعرٌ بعيدٌ عن التصنيف
اتسم شعر باث بالتجديد الدائم، لذلك كان يصعب تصنيفه. في بدايته، كان حداثيًا، ثم تحول إلى الشعر الوجودي، وأخيرًا إلى السريالية، وهذا يدل على التجربة الأدبية الغنية التي سمح باث لنفسه بأن يخوضها. يقود أشعاره حسّ الاستبطان، والسعي لفهم الذات، كما عكس شعره في كثير من الأحيان الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في ذلك الوقت. وهكذا، تجاوز شعر باث حدود الإبداع الفردي، وأصبح وسيلة للتعبير عن الوعي الجمعي.
في كتابه "متاهة العزلة"، يستكشف باث الهوية المكسيكية، والكتاب هو مجموعة مقالات تتعمق في تعقيدات الثقافة والتاريخ والمجتمع، شارحًا تعقيدات الهوية المكسيكية، وناسجًا الروايات التاريخية، والرموز الثقافية، والتأملات الشخصية. هذا العمل هو استكشاف عالمي للحالة الإنسانية، ويقدم رؤى عميقة في ديناميكيات الهوية والعزلة والوعي الجماعي.
كان باث حذرًا من المستقبل، وما يتطلع إليه الإنسان من تقنيات، وغيرها. واعتقد أن التطور التكنولوجيا سيقضي على الإنسان. قال في أحد حواراته إن هنالك فكرة تدور حول احترام المستقبل، وتقول إننا كبشر يجب أن نستعمر ذلك المستقبل، بينما في الواقع، ما يجب علينا فعله هو استعمار حاضرنا، و"أخشى أن البشر سيكونون صامتين ومقيدين بسبب تهديدات محددة قادمة من الحداثة ونظامنا السياسي"، يقول.
عن الحب والشعر
يرمي حضور المحبوب، أو غيابه، عند باث، بظله على كثير من نصوصه، فمن دون الحبيب يبدو باث معزولًا تمامًا عن الطبيعة وعن نفسه، وفي حال عودة المحبوب يعود إلى نفسه، وإلى التدفق ضمن الزمن.
"ربما لتحبي عليك تعلم/ السير عبر هذا العالم/ تعلمي أن تكوني صامتة/ كالسنديانة، وزيزفون الخرافة/ تعلمي أن تري/ بريقك نَثَرَ البذور/ البذور أنبتت شجرة/ أنا أتكلم/ لأنكِ هززتِ أوراقها".
تظهر فلسفته في الحب واضحة في كتابه "الشعلة المزدوجة"، فيربط بين الفعل الجنسي والفعل الشعري من خلال قوة الخيال، ويكتب: "الخيال يحول الجنس إلى احتفال وطقوس، واللغة إلى إيقاع واستعارة... إن الشعر يضفي الإثارة الجنسية على اللغة والعالم، لأن العملية مثيرة جنسيًا في البداية". في النهاية، وجد باث أن الحبّ كما الشعر، هو انتصار على الزمن، ولمحة من الجانب الآخر، من هناك الذي هو موجود.
الكاتب الذي لا يصنّف
كان باث كاتبًا غزير الإنتاج، ومترجمًا ساهم بشكل كبير في إثراء المشهد الأدبي من خلال ترجمة الأعمال من اللغات الأخرى إلى الإسبانية. و "The Monkey Grammararian"، أو "القرد النحوي"، هو عملٌ لم يتمكن النقاد من تصنيفه بدقة، فهو ليس مقالًا، كما أنه ليس قصيدة. وذهب بعض النقاد إلى اعتباره مقالة وقصيدة في الوقت نفسه، الكتاب هو عبارة عن قليل من كل صنف من دون أن يتبحر باث بهذا النوع، وكأنه، عن قصد، يمنح أقل مقدار من الشكل الأدبي.
كانت مسيرة أوكتافيو باث الدبلوماسية، ومشاركته السياسية، تعمل بالتوازي مع عمله الأدبي، ما أدى إلى خلق شخصية متعددة الأوجه كانت منخرطة بعمق في العالم وتعقيداته. أما نقطة التحول الذي أثبتت أن باث هو رجل الأدب المنتمي للشعب فقد حصلت بعد مذبحة تلاتيلولكو، التي وقعت قبل أيام قليلة من دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1968 في مدينة مكسيكو، وأدت إلى مقتل مئات الطلاب المتظاهرين على أيدي الجيش المكسيكي. استقال باث بعدها من منصبه الدبلوماسي، فكانت هذه اللحظة فاصلة في حياة الثقافية والسياسية، إذ انتقل من كونه دبلوماسيًا إلى مثقف وناشط عام.
حصل باث على جائزة نوبل في الأدب عام 1990 "لكتابته الحماسية ذات الآفاق الواسعة، والتي تتميز بالذكاء الحسي والنزاهة الإنسانية". وفي عام 1998، رحل تاركًا خلفه إرثًا شعريًا عامرًا بالأفكار والتناقضات المتكاملة، فهو يعلم أن "مهمة الذاكرة، وخاصة الذاكرة الشعرية، هي إنقاذ كل ما يمكن إنقاذه من الواقع".
مصادر:
An Interview with Octavio Paz - José Luis Perdomo Orellana- asymptote
ــ مثل من ينصت للمطر ـ أوكتافيو باث ـ ترجمة إلياس فركوح ـ دار أزمنة.
ــ اللهب المزدوج ـ أوكتافيو باث ـ ترجمة مهدي اخريف ـ المشروع القومي للترجمة.