}

ملهمات المشاهير: ثلاث نساء في فيينا

عماد فؤاد 21 مايو 2024
تغطيات ملهمات المشاهير: ثلاث نساء في فيينا
من اليمين: ميلينا يسنسكا، فيزا توبنر/كالديرون، وإميلي فلوغ



شهدت العاصمة النمساوية فيينا في السنوات الأولى من القرن العشرين ازدهارًا لا مثيل له في الفن والأدب والعلوم والموسيقى وعلم النفس، ولو استعرضنا الأسماء التي لا يزال رنينها طاغيًا على حياتنا الأدبية والفنية والثقافية حتى اليوم، لوجدناها لا تحصى ولا تعد؛ من غوستاف كليمت وإيغون شيلي وأوسكار كوكوشكا في الفن التشكيلي، وصولًا إلى سيغموند فرويد وآرثر شنيتزلر في علم النفس والأدب، مرورًا بأسماء مهمة أخرى في الموسيقى والهندسة المعمارية مثل أوتو فاغنر وجوزيف هوفمان وغوستاف ماهلر، إلى أن وضع هتلر وأتباعه حدًا لهذه الطفرة الثقافية والنهضوية باحتلاله النمسا وضمها إلى ألمانيا النازية.

في كتابه اللافت الذي صدر مؤخّرًا تحت عنوان "من النور إلى الظلام: ثلاث نساء في فيينا (1900 - 1938)" (*)، يعود بنا المترجم والباحث البلجيكي كريس لاوريس إلى العاصمة النمساوية حين كانت نقطة محورية للابتكار الثقافي في السنوات الأولى من القرن العشرين، متتبّعًا قصص ثلاث ملهمات لا نعرف عنهنّ الكثير، رغم أنهنّ اشتهرن عبر عيون شركائهنّ الرجال، فمن منّا لا يعرف رسائل كافكا إلى ميلينا؟ لكن هل نعرف شيئًا عن  ميلينا ياسنسكا (1896 – 1944) أو من تكون؟

كلّنا نعرف أن لوحة "القبلة" التي رسمها غوستاف كليمت بين عامي 1907 و1908 واحدة من أشهر أعماله الفنية، لكن لا أحد يعرف الكثير عن ملهمته في اللوحة، عشيقته إميلي فلوغ (1874 – 1952)، والتي كانت مصمّمة أزياء طليعية سبقت عصرها، وهي السر وراء الألوان المتعددة التي تملأ لوحات كليمت، وأخيرًا، يكشف المؤلف عن قصة امرأة أخرى لم تكن أقلّ موهبة وتأثيرًا من سابقتيها، وهي الكاتبة فيزا توبنركالديون (1897 - 1963)، والتي اشتهرت لاحقًا منسوبة إلى اسم زوجها الكاتب الألماني إلياس كانيتي، رغم بداياتها الناجحة في عالم الأدب في ثلاثينيات القرن العشرين، إلّا أن اكتشافها لم يتم إلّا بعد رحيلها بسنوات طويلة، وتحديدًا بحلول عام 1990!

يغطّي الكتاب إذن الفترة بين 1900 و1938، عبر قصص ثلاث نساء نجحن في احتلال مكانة بارزة في الحياة الثقافية لفيينا، بل وساهمن في تشكيل سنوات مجدها الذهبية، وحتى تناقضاتها التي أدت في النهاية إلى سقوطها تحت الاحتلال النازي. ووفقًا لمقدّمة الكاتب لكتابه الضخم (456 صفحة)، فإنه يعتبر أن "التصحيح الأنثوي" الذي ينتهجه في مخطّط الكتاب كان "ضروريًا"، ذلك لأنه لا يريد تصوير إميلي فلوغ بعد اليوم على أنها كانت مجرد "موديل عاري" لغوستاف كليمت وحسب، بل يعتبرها شريكته ومصدر إلهامه الفني، فإميلي: "لم تكن مجرد فتاة تأتي إلى رسام ليرسمها ثم تعود بقروش قليلة إلى بيتها في انتظار جلسة الرسم التالية"، بل امرأة مستقلّة ماديًا رغم صغر سنها، وهو أمر غير معتاد بالنسبة للنساء في ذلك الوقت، بل وتنجح مع شقيقتين أكبر منها في تأسيس متجر أزياء طليعي، تقوم من خلاله بتصميم أزياء حديثة لنساء المجتمع الراقي، وهي الأزياء نفسها التي كان كليمت يعطيها مكانة بارزة في لوحاته التي نعرفها جميعًا اليوم.

ينتقل بنا الكتاب إلى قصة ملهمة أخرى هي ميلينا يسنسكا، لنجد أنها ليست فقط مجرد ميلينا التي ألهمت الكاتب الشهير فرانز كافكا لكتابة أشهر رسائل الحب في الأدب المعاصر، بل نراها امرأة أخرى تحاول إيجاد قدم لها في عالم الأدب والثقافة والترجمة، واثقة من نفسها وترفض أن تكون عبئًا على زوجها الكاتب إرنست بولاك. بدأت ميلينا مسيرتها المهنية كصحافية ومؤلفة قصص قصيرة بشكل أساسي، ورغم التزامها الفكري الواضح إلا أنها رفضت الانضمام إلى أي حزب سياسي، بل كتبت عن المهمشين في المجتمع على صفحات المجلة الأدبية تريبونا Tribuna التي عملت بها، وعن التطورات الاجتماعية والثقافية وحق المرأة في تقرير مصيرها، إضافة إلى اشتغالها بالترجمة من الألمانية إلى التشيكية، وكانت أول من ترجم نصًا لكافكا على الإطلاق، لذلك نستطيع القول إن ميلينا لم تكن سوى موضوع لرغبة كافكا النرجسية بشكل ما، في حين كانت هي امرأة تبحث عن شيء أعمق بكثير من ألاعيب كافكا اللغوية، والتي تظهر جلية في رسائله إليها.

في كتابه اللافت الذي صدر مؤخّرًا تحت عنوان "من النور إلى الظلام: ثلاث نساء في فيينا (1900 - 1938)"، يعود بنا المترجم والباحث البلجيكي كريس لاوريس إلى العاصمة النمساوية حين كانت نقطة محورية للابتكار الثقافي في السنوات الأولى من القرن العشرين


المرأة الثالثة التي يتناولها الكتاب هي فيزا توبنر- كالديرون كانيتي، والتي قادها ولعها بالأدب والفلسفة في سنواتها الأولى إلى الاحتكاك مبكرًا بمجتمع فيينا الثقافي والأدبي، ورغم موهبتها الأدبية ككاتبة رواية وقصص لافتة، إلا أن زواجها من الكاتب الألماني الشاب وقتها إلياس كانيتي، والذي كان يصغرها بثماني سنوات، جعل اسمها يختفي إلى الأبد خلف شهرة زوجها اللاحقة، وفي مذكراته الشهيرة المكونة من ثلاثة مجلدات، لا يشير كانيتي إلى زوجته بوصفها كاتبة مهمة إلا نادرًا، على الرغم من أنها سبقته في الشهرة الأدبية، وحين تزوجته كان لا يزال كاتبًا ناشئًا لا يعرفه أحد، وحتى ثلاثينيات القرن العشرين كان كانيتي ينسب في الأوساط الأدبية النمساوية باعتباره "زوج فيزا"، التي أصدرت في عام 1938 روايتها الوحيدة المعروفة باسمها وهي "السلاحف" Die Schildkröten، إلى أن تم تغييب اسمها تمامًا، وظلّت تنشر أعمالها الأدبية بأسماء مستعارة، ولم تظهر أعمالها الأدبية باسمها الحقيقي إلّا بعد وفاتها، رغم اشتغالها على تحرير أعمال زوجها الأدبية التي عرف بها لاحقًا، ومشاركتها أغلب الترجمات التي قام بها، فقط بعد رحيلها عام 1963، أقرّ زوجها الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1981، أن زوجته شاركت في تأليف كتابه "الحشود والسلطة"، وترجمت أعمالًا أخرى حملت اسمه وأسماء آخرين!

لا يكتفي الكتاب بالغوص في قصص هؤلاء النسوة الثلاث، بل يقدّم لنا أيضًا صورة تاريخية عما كانت عليه العاصمة النمساوية فيينا في عشرينيات القرن الماضي، لنكتشف أن خلف واجهة الفن والمقاهي الصاخبة ومجتمع السادة الأغنياء والفقراء العبيد، يكمن عالم أوسع من البؤس الاجتماعي وكراهية النساء. ففي الفصل الأول من الكتاب، والذي يرصد قصة إميلي فلوغ مع غوستاف كليمت، نعيش أزمة الإسكان المهينة في بيوت فيينا الرطبة والمعتمة طوال العام، والوضع المتدني للنساء وعمالة الأطفال، ونشاهد صراعات الطبقات البرجوازية والأرستقراطية التي تغالي في معاداة الفقراء، ومناداة الأصوات الطليعية المتحررة من أجل حقّ الاقتراع العام والمساواة بين الجنسين.

وفي القصة الثانية التي تجمع بين كافكا وميلينا، نرى صورة كاملة للمدينة من خلال الكتابة عن الاتجاهات الفكرية والفلسفية التي انتعشت في فيينا آنذاك، وكيف شهدت الحركات الجديدة في الفن والأدب والسياسة انتفاضات وحركات تجديدية لا تزال أصداؤها فاعلة حتى يومنا هذا، إلى أن يصل بنا الكتاب إلى رصد التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي أدت لاحقًا إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وانطفاء شعلة التجديد الفكري والثقافي في فيينا تحت وقع أقدام جيوش هتلر والنازية.


(*) كريس لاوريس: من النور إلى الظلام: ثلاث نساء في فيينا (1900-1938)، أمستردام 2024.

KRIS LAUWERYS: Van licht naar duisternis. Drie vrouwen in Wenen (1900-1938), Athenaeum–Polak & Van Gennep, 456 blz., Amsterdam 2024.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.