}

ذكرى ولادة بلزاك: رائد الأدب الواقعي في أوروبا

سمير رمان سمير رمان 10 يونيو 2024
تغطيات ذكرى ولادة بلزاك: رائد الأدب الواقعي في أوروبا
أونريه دي بلزاك (1799 ــ 1850)

تصادف هذا العام الذكرى الـ 225 على ولادة الكاتب الفرنسي أونريه دي بلزاك، رائد الأدب الواقعي في أوروبا، الذي تمكّن من تصوير جميع معاصريه من الطبقات الاجتماعية كافة، من أرستقراطيين شبّان وفنانين، ورجال مصارف وإقطاعيين مفلسين، ومضاربين ورسامين، وجنرالات متقاعدين، وزوجات تعيسات، وفنانات، ولصوص محترفين، حالمين رومانسيين، وقضاة ظلمة.
قبل بلزاك ربما لم يكن أبطال المؤلفات الأدبية ملتصقين لهذه الدرجة بالمجتمعات التي نشأوا فيها، كحالهم في رواياته. أبطال بلزاك لا يتنكرون أبدًا لواقعهم الاجتماعي، مثلما يفعل أبطال العصر الرومانسي، بل تراهم تواقين لتحقيق الممكن على الساحة الاجتماعية. ربما لهذا السبب نؤمن بالدقّة التاريخية لنظرة بلزاك للعالم، وبأسلوبه المبدع، وبمبادئ تركيب رواياته، وبالنماذج المألوفة لشخصياته.
منذ البداية، عمل بلزاك على كبت وتدمير التطلعات الرومانسية في نفسه، فدرس العلوم الطبيعية، وتوصّل إلى استنتاجات فلسفية خاصّة. فهو، على سبيل المثال، يناقش في مقدمة سلسلة روايات "الكوميديا الإنسانية" الخلاف بين العالم جورج كوفييه/ Georges Cuvier، عالم الحفريات الفقرية الفرنسي الفذّ، وعالم الطبيعة جيفري هيلير/ Geoffroy Hilaire حول مفهوم "وحدة البنية"، معتقدًا أنّ الخصائص الذهنية والطبائع الاجتماعية للإنسان يمكن أن يتمّ تحديدها من خلال بنية الجمجمة، أو ملامح الوجه. إذا كان هيلير قد تمكن، استنادًا إلى ناب مستحاثة من حيوانٍ ما، من استعادة سلالة منقرضة، فإنّ بلزاك، وبعد رؤيته تفصيلًا ما، أو شيئًا ما، على سبيل المثال، تنورة السيدة بوكيه، من رواية "الأب غوريو"، يستطيع أن يتحدث ليس فقط عن السيدة نفسها، بل وأيضًا عن النُزُل الذي تسكنه، وعن نزلائه وجميع زواره. يعتقد بلزاك بوجود "كائنٍ واحد خلقت جميع أعضائه وفق النموذج نفسه". ولهذا عمد المؤلف إلى تركيب الأحداث، ولكنّه في الوقت نفسه يسمح لحدثٍ واحدٍ بعينه أن يتدخل في بقية الأحداث ليبرهن على وجود قانونٍ واحد ذي قوةٍ مطلقة يحكم جميع الأحداث. على سبيل المثال، يقوم الكاتب بمطابقة القطة مع ذيلها، والذيل مع القطة، بهدف خلق قطةٍ مثالية.




مفعمًا بالحيوية، وبكثيرٍ من الفضول، يريد بلزاك أن يعرف ويفهم كلّ شيء، ولذلك شملت دائرة قراءته المؤلفات الكلاسيكية التنويرية الإنكليزية والألمانية، وكذلك الرومانسيين الفرنسيين. إنّه ينجذب ببساطةٍ، وبشكلٍ لا يقاوم، إلى بعض المؤلفين. على سبيل المثال، ينجذب إلى كاتب القصة القصيرة بوكاتشيو. كما يحب بلزاك أيضًا الكوميديا التي يحكمها أسلوب: "الضحك من خلال الدموع"، كما في مؤلفات دانتي، رابليه، شكسبير، وسرفانتس. إن كان دانتي قد كتب "الكوميديا الإلهية"، فإنّ بلزاك هو من كتب "الكوميديا الإنسانية". كما أنّه خصّص عددًا من كتبه (أكثر من 90 كتابًا) ليدرس فيها خلايا مجتمعه الفرنسي المعاصر كافة، التي يرى من خلالها الحياة بشكلٍ عام.
في إحدى رواياته يدفع بلزاك بطلها، أمين الصندوق ميلموث، وهو عقيد متقاعد يعمل لدى المصرفي دوسينغن، لارتكاب جريمة مالية. يجيد المصرفي إغراء كثير من الناس للقيام بأعمالٍ قذرة لأسبابٍ مختلفة: بعضهم خوفًا من الشيخوخة، وبعضهم سعيًا للمتعة مع النساء، أو للتمتع بلذيذ الطعام، وبعضهم عبر تقديم هدايا باهظة الثمن تليق بحبيباتهم... إلخ. المحرك الرئيس للعمل الدرامي في القصة، كما في الأعمال الأُخرى، هو التدهور الروحي للإنسان، وضعفه الأخلاقي، وافتقاره إلى الإرادة. يخترق بلزاك بعمقٍ جوهر العلاقات النقدية في عصره، ويجعلها في رواياته المحرك الرئيس في الأعمال الدرامية. في جميع أعمال سلسلة قصص "الكوميديا الإنسانية" يخلق صراع الغرائز تلك الدراما الاستثنائية التي تتخلّل تلك القصص. على غرار المسيحي الساكسوني جاكوب، الذي كان يدرج دائمًا في كتبه لوحةً تمثّل ملاكًا يحمل بوقًا يصدر كلماتٍ، كان بلزاك يعتقد أنّ كلّ شيءٍ يتكون من "نعم"، أو "لا"، فقط، وأنّ الصراع بين الخير والشر صراعٌ أبدي لا يتوقف، وأنّ الناس منخرطون في هذا الصراع الأبدي، ولكنّه مع ذلك يعتقد أيضًا أنّه في يومٍ من أيام المستقبل البعيد، سينتصر للخير والحبّ في مكانٍ ما من هذا العالم.



بلزاك متعمّق للغاية في الواقع. فهو إذ يرسم مقطعًا اجتماعيًا من حياة شخصياته، فإنّه يرسمه في الوقت نفسه بدقةٍ وبراعة وسهولة. في جميع أعمال بلزاك الرئيسة، وخاصّةً القصص القصيرة، يمكن للمرء أن يعزل صورًا كاملة عن شخصٍ، أو مكانٍ: البقال، الجزار، المقاطعة، المصرفي، المحافظ، المسؤولون الأقارب الفقراء... إلخ.
وفقًا لبعض معاصريه، تبدو أفكار بلزاك ثقيلة إلى حدٍّ ما، وأحيانًا وقحة، ولكن أحدًا لم يكن بمهارة بلزاك في شرح عملية الانتقال من النظام الإمبراطوري القديم الذي أرساه نابليون إلى النظام البرجوازي الجديد، ولم يُشرْ أحدٌ مثله بتلك الدقّة إلى شخصيات ذاك الوقت الرئيسة (أوائل القرن التاسع عشر): "التاجر الجوال"، و"الجندي المتقاعد من الإمبراطورية الأولى"، و"المرابي البخيل غوسيك"، و"رجل الفاتورة"، و"عيون مثل عيون النمس". في رواية "البخيل غوسيك"، يحافظ غوسيك على هدوئه دائمًا، ويستشف على الفور المستقبل البعيد لأفضل زبائنه. أجل، سيقرضهم المال، ولكنّهم على الأرجح لن يتمكنوا من استرداد المجوهرات الثمينة التي رهنوها عنده. لقد تحوّل بخله منذ فترةٍ طويلة إلى هوسٍ. إنّه لا يبيع شيئًا، ولا يردّ شيئًا لأحد، خوفًا من (أن يكون الثمن الذي يبيع به بخسًا). بعد وفاة غوسيك، سوف يقدّم صندوق المرابين صورة وحشية: الذهب، وكثير من الذهب والألماس (الذي ترصّع به التيجان والقلائد والخواتم) بجانب الدقيق المتعفّن وإمدادات الطعام النادرة.
في قصة "أوجيني غراندي"، لا تعرف البطلة، ولا تستطيع تخمين ثروة والدها. السيد غراندي، الذي بقي وحيدًا في مكتبه المتواضع، مثله مثل "الكيميائي في مختبره"، يعتزّ بما لديه من ذهب، يفرزه، ويصبّه، ويعيد ترتيبه. قال المعاصرون عن أُسلوب بلزاك إنّه "أسلوب يميل إلى المادّية"، إذ يستخدم الكاتب كلماتٍ عادية في وصف الظواهر الطبيعية، من قبيل: "كانت ملامح وجهها مثل خطوط الأفق"... "لقد كانت على شاطئ الحياة عندما كانت زهور الأقحوان تُجمع بفرح لم يُعرف بعدها"... أو "كان يندفع، وقد فتح شراع مركبه إلى أقصى حدّ ممكن، يمخر عباب بحيرة الأمل الأزرق".




في رواية "جلد شاغرين/ La Peau de chagrin"، يعقد الشابّ رافائيل دي فالنتين، الذي خسر كل شيءٍ، اتفاقًا مع "عجوزٍ نحيل ارتسمت على شفتيه الرقيقتين ابتسامة صفراء". ينص جوهر الاتفاق على الحفاظ على القوى التي لا تهدر على المشاعر الأرضية، وكان الشاهد الوحيد على الاتفاق خرقةً سحرية من الجلد، تنكمش أبعادها مع كلّ رغبةٍ عاطفية تجتاح الشابّ، الذي يزدحم صدره بمثل تلك الرغبات. مصيرٌ مماثل لمصير دي فانتين ينتظر كثيرًا من أبطال الكاتب الفرنسي.
يطلق على بلزاك لقب سيد الوصف الفيزيولوجي، بغضّ النظر عمّا يكتبه، سواءً أكان ذلك رواية، أو قصّة. يرى أن وجود "شخصية خرافية" في بعض روايات سلسلة "الكوميديا الإنسانية" محاولةً شخصية من الكاتب لتصوير العالم وفق مفاهيمه هو، في حين يكون الكاتب هنا مجرد شاهد اتهام. يؤكّد النقاد الذي درسوا مفهوم "المقدّس" من وجهة نظر الكاتب على تقسيم صورة العالم إلى منطقتين: في المنطقة الأولى نرى "عالمًا سوداويًا" رسمه المؤلّف، وفي الأخرى نرى "زرقة روحه التجريبية".
في رواية "زنبقة الوادي" يتحدث بلزاك عن حبّ الشابّ فيليكس دي فاندينيسي لامرأة متزوجة وأمٍّ لطفلين، مدام دي مورتسوف، التي كان زوجها بطلًا في آخر حروب نابليون. تجري الأحداث على خلفية الطبيعة المزدهرة في المنطقة المفضلّة لدى بلزاك، وهي تورين. ولكنّ مدام دي مورتسوف امرأة "فاضلة بشكلٍ خيالي"، ولأنّها لم تسمح لنفسها بخيانة زوجها، فإنّها "تذبل وتموت من الوجد". لم يرسم بلزاك صورة المرأة بصورةٍ رومانسية (تذوي من الحبّ)، وهي امرأة ليست مخلوقًا أثيريًّا، بل كانت مخلوقًا من لحمٍ ودم، وهي نبعٌ صافٍ؛ "إنّها زنبقة في الوادي". "لا تسألوني لماذا أحبّ تورين. أنا لا أحبّها، كما يحبّ المرء مهده الذي ضمّه. أحبّها كما يحبّ الفنان ما يبدعه الفنّ"... "والسعادة كانت في متناول يدي"!
يرى النقاد أنّ مأثرة بلزاك الأدبية تمكن في أنّه ضمّن مؤلفاته سيرًا ذاتية عن أكثر من ألفين من أبطاله. لقد استطاع أن يخلق عالمًا كاملًا ودقيقًا في الوقت نفسه. إنّه روائيّ ذكيّ اختار أبطاله من بين أناسٍ عاديين على هامش التاريخ، ولكنّ الفنان تمكّن مع ذلك من تحويلهم إلى نماذج خالدة. يمكن للقارئ أن يجد في مؤلفات بلزاك عظماء حقيقيين، مثل نابليون، لودفيغ الثامن عشر، والسيدة دي ستايل، وغيرهم من الشخصيات الحقيقية، ولكنّهم يذوبون جميعهم في حشدٍ من الشخصيات التي اخترعتها مخيلة الكاتب الفذّة، ولكنّها شخصيات موصوفة تاريخيًا بدقة متناهية.
قبل وفاته بقليل، عقد بلزاك قرانه على إيفلين هانسكا، الأرستقراطية البولندية، وحفيدة زوجة الملك لويس الخامس عشر. خلال رحلته إلى سويسرا، التقى بلزاك الحسناء البولندية عندما توقف في فندقٍ كان آل هانسكا على وشك مغادرته. نسيت إيفلين كتابها على حافّة نافذة غرفتها في الفندق، وعادت لتستعيد الكتاب. الغرفة نفسها شغلها بلزاك بعد مغادرة آل هانسكا، وفيها التقى الكاتب بالجميلة البولندية. لم ينس بلزاك "تلك المرأة الرائعة التي كانت ترتدي ثوبًا ورديًّا". بقي العاشقان يتبادلان الرسائل 15 عامًا. كانت إيفلين بولندية الجنسية، ولذلك كانت في حاجةٍ إلى موافقة الإمبراطور الروسي نفسه لتتزوج بلزاك، الأمر الذي لم تحصل عليه إلا بعد جهودٍ ومحاولاتٍ مضنية.
في يومٍ شديد البرودة من شهر آذار/ مارس، وفي طريق عودتهما إلى أوروبا، علقت العربة التي كانت تقلّ العروسين، هانسكا وبلزاك، في الوحل، وكان على الفارس، الذي لم يعد شابًّا، أن يقف في المياه شديدة البرودة حتى خاصرتيه ليدفع العربة العالقة خارج بركة الوحل إلى مكانٍ جاف. وبالطبع، أصيب بلزاك بنزلة برد حادّة، لم يتعاف منها أبدًا حتى آخر أيام حياته (حوالي عامين)، ومات وهو لا يزال في عمر 51 عامًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.