}

"إينغبورغ باخمان: رحلة في الصحراء": عبقريات لا تتقن الحب

سمير رمان سمير رمان 15 يوليه 2024
تغطيات "إينغبورغ باخمان: رحلة في الصحراء": عبقريات لا تتقن الحب
الممثلة فيكي كريبس في دور إينغبورغ باخمان

بدأت دور السينما، أخيرًا، عرض فيلم "إينغبورغ باخمان: رحلة في الصحراء"، للمخرجة الألمانية ذات الـ82 عامًا مرغريت فون تروتا/ Margarethe von Trotta. يحكي الفيلم قصة حبّ جمعت اثنين من عظماء الكتاب الكلاسيكيين الذين كتبوا باللغة الألمانية، النمساوية إينغبورغ باخمان(1)/ Ingeborg Bachmann، وتلعب الدور الممثلة اللوكسمبورغية فيكي كريبس، والسويسري ماكس فريشMax Frisch /(2) ويلعب الدور الممثل رونالد تسيرفيلد.
مرغريت فون تروتَّا مخرجة وممثلة وكاتبة سينمائية ألمانية، وهي إحدى ممثلات السينما الألمانية الجديدة. عملت في السينما والتلفزيون منذ عام 1967، وعلى الأخصّ في أفلام فولكر شلوندورف(3)، وراينر فاسبيندر(4) في فيلم "آلهة الطاعون"، وهربرت أشترنبوش. ومنذ عام 1970، بدأت تشارك في كتابة سيناريوهات أفلام شلوندورف. وعملت معه عام 1975، كمخرجة مشاركة في فيلم "الشرف المفقود لكاترينا بلوم"، المستوحى نصّه من قصة تحمل الاسم نفسه للكاتب هاينريش بول.
اعتبارًا من عام 1977، بدأت فون تروتَّا الإخراج بشكلٍ مستقلّ بفيلمها الثالث "أوقات الرصاص" (1981)، الذي جلب لها الشهرة الدولية، بعد أن فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا في العام نفسه. وفي عام 2022، منحت تروتا جائزة الشرف من أكاديمية السينما الأوروبية تقديرًا لإنجازاتها في عالم السينما.
لا يمكن فهم ما يحدث بين العاشقين من خلال الفيلم. بدأت فون تروتّا في الستينيات بالعمل كممثلةً في "السينما الألمانية الشابّة" الثائرة، التي كان يمثّلها راينر فيرنير فاسبيندر، وزوجها فولكر شلوندورف، وغيرهما من العباقرة، لتتحول في السبعينيات إلى العمل في الإخراج، حيث ستمجّد طوال حياتها، من خلال عدسات الكاميرا السينمائية، صورة المرأة، القوية بضعفها، والضعيفة بقوتها، سواء كانت تلك المرأة مربية في روضة الأطفال، أو امرأة تسرق البنوك، كما في فيلم "الصحوة الثانية لكريستي كلاريس" (1979)، أو مقاتلة في صفوف "فصيل الجيش الأحمر" اليساري الراديكالي، كما في فيلم "الأخوات، أو ميزان السعادة" (1979).
أو مندوبة عن نساء برلين، اللاتي تمكنّ من انتزاع أزواجهن ــ اليهود من براثن الغستابو، في فيلم "الجادّة الحمراء/ Rosenstasse" عام (2003)، الثوريّة المعذّبة "روزا لوكسمبرغ" (1986)، أو الفيلسوفة التي ابتكرت مصطلح "التوليتاريا/ الشمولية" في فيلم "حنه أرندت"، عام 2012. يتجلّى دور فون تروتّا في الوعي الألماني، وحتى في الوعي العالمي، والذي ظهر من خلال عنوان فيلمها "أوقات الرصاص" (1981) وأصبح تسمية متفقًا عليها لعصر الإرهاب السياسي، في أوروبا في العقود الممتدة من الستينيات إلى الثمانينيات.

بطلا فيلم "إينغبورغ باخمان: رحلة في الصحراء" فيكي كريبس، ورونالد تسيرفيلد


بدت إينغبورغ باخمان (الممثلة فيكي كريبس) للمخرجة وكأّنها البطلة المثالية. فربما كانت الشاعرة الأبرز الناطقة بالألمانية في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي أصيبت في لحظةٍ ما بالصمت الشعري، وهي إنسانةٌ أكثر من مجرد صاحبة أخلاقٍ حرّة بحسب معايير تلك الحقبة. وأخيرًا، سقطت باخمان شهيدة: ففي عام 1973، وعن عمرٍ لم يتعدّ 47 عامًا، ماتت باخمان في المستشفى الروماني، بسبب الحروق (قيل إنّها غفت في السرير مع سيجارتها)، أو بسبب جرعةٍ زائدة من المخدرات.
حبكة الفيلم هي قصّة علاقة مؤلمة خلال الفترة (1958 ــ 1963) جمعت إينغبورغ باخمان مع عبقري آخر هو الروائي والكاتب المسرحي ماكس فريش (1911 ــ 1991) مؤلف الروايات الهامّة: "ستيلر" (1954)، "هومو فاير" (1957)، "ليكن اسمي غانتنباين" (1964)، تلك الروايات التي تصبّ جلّ اهتمامها على هروب الشخصيات من نفسها، ومحاولاتها الفاشلة لتغيير مصيرها، أو لجوئها إلى الانقسام إلى شطرين، أو على سبيل المثال، حضور جنازتها.




وفقًا للأسطورة المستمرة التي تم نشرها عام 2023، من خلال مراسلات جرت بين فريش وباخمان، يتضح أنّ السويسريين كانوا مسؤولين، إن لم يكن عن وفاة إينغبورغ، فهم مسؤولون عن الانهيارات العقلية التي أصابتها، وبسببهم أدمنت المخدرات والتزمت الصمت المطبق. في واقع الأمر، كانت باخمان نفسها قد وصفت فريش بـ"القاتل" وبـ"مصّاص الدماء". في هذه الأثناء، كان" القاتل ومصاص الدماء" يكتب لها رسائل غنائية في الشقة التي كانا يسكنانها، ويرسلها إلى غرفتها. ولحسن الحظ، حافظ فريش على كلّ هذه الرسائل، وإلا لكانت باخمان قد أتلفتها.
وهكذا، أصبح على المخرجة تروتا، وقد تناولت هذه المشكلة الشائكة، أن تقنع المشاهدين بأنّ أبطال فيلمها شخصيات عبقرية، وأنّهم يحبّون بعضهم بشغف. ولكنّ المؤكّد أنّ المخرجة ستجد صعوبةً بالغة في إقناع المشاهد بعبقرية فريش، خاصّة إن لم يكن هذا المشاهد قد قرأ بعضًا من أعمال فريش سابقًا. فالرجل السويسري المملّ، وكان يرى أن بلاده أفضل بلاد في العالم، هو الذي لا يبدي أدنى استعدادٍ لمبادلة مدينة زيوريخ بأيّ بلدٍ، حتى لو كانت إيطاليا، التي تعبدها بطلة الفيلم باخمان.
على الرغم من كلّ المعاناة الوجودية التي تميّز أفضل رواياته، وبغض النظر عن دقّة الشخصيات التي رسمها، فهو يظلّ في الحياة الواقعية "خنزيرًا شوفينيًّا ذكوريًّا"، فهو، على سبيل المثال، يطلب من إينغبورغ غسل الأطباق.
مع غليونه الذي لا يفارقه، وبنظارته بإطارٍ قرنيّ، يظهر عند عتبة باب شقة باخمان في خضمّ مقابلةٍ صحافية كانت تجريها مع صحافيين محليين، شبيهًا بهيبوليت من فيلم "سخرية القدر".
باخمان في المقام الأول عرابة مذهلة، ترتدي فساتين حمراء باهظة الثمن، تدخن بلا انقطاع، ولكن بشكلٍ أنيق. أخيرًا، وبعد انفصالها عن فريش، سيتحقق حلمها عندما يتوجّه الكاتب المعجب بها أدولف أوبل (الممثل توبياس ريش) في رحلةٍ مصرية برفقة إينغبورغ باخمان. وبالمناسبة، كان عنوان الفيلم الأصلي "إينغبورغ باخمان: رحلة في الصحراء". ولكن، وللأسف الشديد، لم يكن في صحراء فون تروتّا لا الشغف ولا الرغبة ولا اللانهاية، كما هي الحال في فيلم برناردو برتولوتشي "تحت غطاء السماء".
ليس من السهل أن نؤمن بمظاهر الشغف الذي تدّعيه مثل هذه الدمى على شاشات السينما والتلفاز، حتى لو كان العاشقان يتلو أحدهما للآخر في موعدهما الأول وبصوتٍ واحد قصيدة "جسر ميرابو" للشاعر الفرنسي فيلهلم أبولينير/ Guillaume Apollinaire(5) التي تتحدث عن إطفاء جذوة الحبّ بمرور الوقت.
لحسن الحظ، لا تزال أسطر باخمان تسمع من الشاشات، ولكن للأسف ليس فقط السطور الشاعرية. من الصعب فهم مغزى قولها إنّ أصول الفاشية متجذرة في العلاقات الزوجية. كما لا يمكن للمشاهد على الإطلاق أن يعرف ما هي قوة فريش الإبداعية، ولا يبقى عليه إلا أن يأخذ عظمته الأدبية على محمل الجدّ. تكمن العداوة الإبداعية بين باخمان وفريش، وبالتالي العداوة الحياتية بينهما، في أنّ فريش يركّز إبداعه على الشخصيات، في حين تركّز باخمان على الكلمة. وعلى المشاهد أن يفهم الأمر كما يريد. ستكون نتيجة هذا العداء أن تقوم إينغبورغ بتحطيم درج مكتب ماكس فريش بإزميلٍ، تصادر وتحرق مذكراته الثمينة، التي كتب فيها قصة حياته.
سيصاب فريش بالدهشة، سيغضب وسيترك باخمان ليذهب بصحبة طالبةٍ شابّة. أمّا باخمان فستطير إلى مصر لتعالج جراح روحها هناك.

هوامش:
1 ــ إينغبورغ باخمان: شاعرة وكاتبة نمساوية. تدور قصصها حول البحث عن الحقيقة والعدل والحرية، وتحاول تصوير التناقض بين القول والفعل. من مجموعاتها الشعرية "الوقت المؤجل"، و"استغاثة الدبّ الأكبر"، أمّا أشهر مجموعاتها القصصية فهي "العام الثلاثون".
2 ــ ماكس فريش/ Max Frisch: كاتب ومهندس معماري سويسري (1911-1991). حصل على العديد من الجوائز. من أشهر أعماله: Homo Faber عام 1957، أسمي نفسي غانتنباين Mein Name sei Gentenberg عام 1964، وآخر أعماله "اللحية الرمادية/ Blaubart عام 1982.
3 ــ فولكر شلوندورف/ Volker Schlِndorff: مخرج ألماني حائز على الأوسكار والسعفة الذهبية في مهرجان كان عن فيلمه "طبل الصفيح" عام 1979، المأخوذة عن قصة تحمل الاسم نفسه للكاتب الألماني غونتر غراس التي حصل على جائزة نوبل.
4 ــ راينر فاسبيندر/ Rainer Fassbinder: مخرج وكاتب وممثل ألماني (1982ــ 1945) يعد من أهم الشخصيات السينمائية الألمانية. رغم وفاته قبل ثلاثين عامًا إلا أنه ما زال يعد من أهم السينمائيين الألمان، الذين عرفوا بالسينما الألمانية في الخارج من خلال أفلامه التي تناولت ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية.
5 ــ فيلهلم أبوليناري تروفيسكي/ بالفرنسية غيوم أبولينير/ Guillaume Apollinaire: شاعر وقاصّ وكاتب مسرحي فرنسي الجنسية بولندي الأصل (1918 ــ 1880). يعدّ من أبرز شعراء مطلع القرن العشرين، وأحد رواد السوريالية، وهو أوّل من أطلق مصطلح السوريالية. من أشهر مسرحياته "نهدا تريزياس"، وأهم دواوينه "القنابل تموء". وأشهر قصائده "جسر ميرابو"، التي تتحدث عن انطفاء الحبّ بمرور الزمن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.