}

ميوتشيا برادا: تتسيّد عالم تصميم الأزياء في عمر 75

سمير رمان سمير رمان 22 يوليه 2024
تغطيات ميوتشيا برادا: تتسيّد عالم تصميم الأزياء في عمر 75
ميوتشيا برادا بعد عرض مجموعة أزياء برادا في ميلانو(20/9/2018/Getty)


أكملت مصممة الأزياء الإيطالية الشهيرة، ميوتشيا برادا/ Miuccia Prada، عامها الخامس والسبعين، مواصلة مسيرة عمرها 35 سنة منذ تسعينيات القرن العشرين، وحتى اليوم.
خلال تلك السنوات، شهد تأثيرها المبدع على الموضة صعودًا صاروخيًا، ليصل القمة، وليعاود الهبوط، ومن ثمّ الصعود من جديد. واليوم، عادت ماركاتها: Prada، Miu Miu مرة أُخرى إلى الصدارة، لتترك بصمتها القويّة في فضاء الموضة، من البساط الأحمر في المهرجانات، وانتهاءً بشوارع المدن.
عند الحديث عن شخصيات محدّدة لاتجاهات الموضة المعاصرة، فإنه يشار، بالإضافة إلى برادا، إلى مصمّم الأزياء البلجيكي مارتين مارغيللا/ Martin Margiela، واليابانية ري كافاكوبو/ Rei kavakubo، وربما الياباني أيضًا يوجي ياماماتو/ Yoji Yamamoto. إنّهم أولئك الذين ليس فقط ابتكروا أساليب اللباس العصرية، بل أيضًا صاغوا علاقات جديدة بين الملابس من جهةٍ، والجمال والإثارة والعمر والجندر من جهةٍ أُخرى.
كان جوهر أسلوب هؤلاء العمالقة قائمًا على تفكيك العناصر القديمة، سواء كان ذلك في ما يخصّ عناصر الملابس نفسها، أو في ما يتعلّق بالأسس الأيديولوجية والثقافية لتوجهات الموضة، أي أنّهم عملوا على إدخال الملابس في نسيج البنى الاجتماعية والثقافية، مبرزين في المقام الأول معاني ومضامين ثقافية واجتماعية. ومع ذلك، اعتمد كلّ واحد أسلوبه الخاص في التفكيك والتدمير الخاصّ به. إنّ أسلوب برادا في التفكيك هو سيرتها الذاتية، كما هي أزياؤها نفسها. فمن خلال تفكيك أشياء الطفولة والشباب، تحافظ برادا على الذاكرة التاريخية، فتذكّر في تصاميمها الندرة في فترة ما بعد الحرب، وتوثّق الارتباك الذي كان يشعر به المراهقون عند ارتدائهم ملابس أعيد تشكيلها من ملابس قديمة، ولا تنسى في تشكيلاتها التنويه بالثياب المخاطة من قماشٍ جديد، ولكنّها منفّذة بقياسٍ غير مناسب، وتحيي في الوقت نفسه الذكريات عن الملابس التي كان يرتديها الناس وسط أهليهم، والتي كانوا يرتدونها عند الخروج إلى الناس.
في معرض Fondazione Prada، حيث تعرض تشكيلة نسائية جديدة، تلفت أنظار الزوار عارضة أزياء ترتدي سترةً صغيرة محبوكة بشكلِ متميّز كانت تمثّل مظهرًا نموذجيًا لما كانت ترتديه في ما مضى سيدات ميلانو المسنّات. كتبت مجلّة "فوغ" الأميركية على غلافها لشهر مارس/ آذار: "ما ترتديه ميوتشيا برادا دائمًا ينسجم تمامًا مع طراز "Italian mama/ ماما إيطاليا". عندما تظهر برادا أمام الجمهور، فإنّها، تلعب هذا الدور بكلّ طيبة خاطر. في الوقت نفسه، ترتبط حياة برادا المصممة بصورة الأم الإيطالية بالطريقة نفسها التي ترتبط بها قمصانها وتنانيرها بصورة سنيورة (سيدة) ميلانو: هنالك كثير من القواسم المشتركة، ولكن كلّ شيء يوحي بالفرق بين برادا وسيدة ميلانو.
ولدت برادا في ميلانو لأسرةٍ من رجال الأعمال الناجحين، درست في جامعة ميلانو، وحصلت على درجة الدكتوراه في العلوم السياسيّة، وكانت حاضرةً بقوة في التجمعات والنوادي العمالية، وتدربت على الأداء المسرحي في مسرح "Piccolo Teatro"، الذي يحمل اسم المخرج المسرحي الإيطالي Giorgio Strehler (1924 ــ 1977).




عمومًا، كانت برادا مفتونة بالثقافة غير الملتزمة، ولكنّها ثقافة يسارية التوجهات سادت تلك الفترة. في جميع النصوص المتعلقة ببرادا، تحضر الإشارة إلى شبابها الشيوعي. لقد كانت تنتمي حقًا إلى جيل ما بعد الحرب من النساء الإيطاليات الشيوعيات، والناشطات سرًّا، وحتى الإرهابيات، اللاتي قاتلن الرأسمالية والثقافة البرجوازية بشراسة.
على الرغم من نشاطها في المنظمات اليسارية، فإنّ برادا لم تنخرط في أيّة أنشطة راديكالية، وكذلك لم تكن شيوعية بشكلٍ رسميّ (كانت عضوًا في اتحاد النساء الإيطاليات/ Unione Donne، وهي منظمة نسوية تابعة للحزب الشيوعي الإيطالي). بعد انقضاء ستينيات القرن العشرين الرومانسية، جاءت محلّها فوضى العنف/ Anni di Bombo (سنوات الرصاص في السبعينيات والثمانينيات)، سواءً من اليسار، أو من اليمين. في هذه المرحلة بالذات، سارعت برادا للنأي بنفسها بعيدًا عن السياسة. وفي عام 1978، انتهت رحلتها مع العلوم السياسية: فقد وجدت نفسها تتحمّل المسؤولية (ضد إرادتها تقريبًا، كما تقول بنفسها) تجاه شركة المنتجات الجلدية العائلية فرانتيلي برادا/ Fratelli Prada، التي أسّسها جدّها ماريو برادا، وهي شركة ناجحة، ولكن منتجاتها لم تكن فاخرة البتة. باختصار، وبعد نضالٍ طويل شرس ضدّ الرأسمالية، عادت برادا إلى حضن البرجوازية.
يمكننا القول إنّ مسار حياة برادا، وإن بدا حتى الآن نموذجيًا تمامًا بالنسبة لعصرها ولمحيطها، فقد بدأت تظهر فيه اختلافات عن (إيطاليا الوالدة): تزوجت في الثلاثين، وأنجبت ابنها الأول في عمر 39، والثاني في عمر 41، أيّ في وقتٍ يعد متأخرًا بالنسبة لمعايير المرأة الإيطالية في ذاك الوقت (ولكن بالتوافق تمامًا مع معايير اليوم). بالطبع، يمكن القول إنّ النجاح الذي حققته أعمالها، التي أسستها يدًا بيد مع زوجها باتريزيو بيرتيللي، والتي تبلغ قيمتها السوقية المليار دولار، هو نجاحٌ يقع خارج حدود تصور (سينيورة) ميلانو. في عام 1988، ظهرت المجموعة الأولى من تشكيلة الملابس التي أطلقتها ميوتشيا برادا تحت عنوان Prada FW 1988.

تفكيك برادا
تدور جملة أعمال الموضة التحليلية بأكملها حول إنكار وفضح الأفكار الشائعة حول الجمال و/ أو الحياة الجنسية. كان التفكيك الذي قام بها عملاقا الموضة، مارغيللا وكافاكوبا، من بين أمورٍ أُخرى، تفكيكًا حرفيًا: لقد مزقوا، وشوّهوا وحوّلوا كثيرًا من العناصر الجمالية السائدة، الأمر الذي أدّى إلى خلق وانبعاث جمالٍ جديد، غير معياري، يفتح آفاقًا جديدة مختلفة. أمّا برادا، فلم تقم بأيٍّ من هذا، فقد حافظت في تشكيلاتها على الحدّ الأدنى من الحواشي الخام، والدرزات الخارجية، وقامت بتقديم الأشياء في شكلها المعتاد، من دون خياطة الأكمام التي تصل الحنجرة، ومن دون بلوزات ممزقة. كانت برادا تتعامل على الدوام مع مستلزمات الملابس المفصّلة والمشغولة بشكلٍ تقليدي، وبنماذج وموديلات جاهزة، وتستخدم كل ما يقع في متناول اليد، أي أنّها تعاملت مع الموضة، كما تعامل فنانو ما عرف بـ(آرت بوفيرا/ arte povera) مع الفنّ في عصرهم. شهدت ميادين ثقافية متنوعة عمليات تفكيكية، فتغيرت طبيعة الأشياء فيها، مثل: سينما الواقعية الجديدة، التفصيل الراقي سنوات الخمسينيات والستينيات، الإنتاج الضخم في التسعينيات، وملابس العمل. ولكنّها جميعها احتفظت بالذاكرة التاريخية.
في تصاميم التنانير والسترات، قامت برادا بتغيير النسب قليلًا، الأمر الذي كان كافيًا لتحويل الزي الرسمي لسيدة ميلانو إلى زيّ من أزياء موضة برادا العصرية ــ بإعادة صياغة سياقه، وإضفاء بعض الاقتباسات عليه، بما يتلاءم وعناصر الموضة التحليلية. تمكنت برادا من أن تنسب لنفسها هذه الصياغة، بحيث أصبحنا، عندما نرى تنورة زرقاء داكنة مع كنزة رمادية في واجهة أيّ محلٍّ، فإنّنا ندرك غريزيًا أننا أمام واحدٍ من منتجات برادا. وبالطبع، بقي موضوع برادا الرئيس عالم المرأة، الأمومة، الطفولة، النظام الأبوي والأسرة، وكلّ ما أحاط بها في طفولتها بعد الحرب: الفساتين الضيقة والفساتين المتهدلة مثل كيسٍ، والجوارب الطويلة التي تبرز التنانير، والسترات الصوفية المدسوسة في السراويل، جوارب قصيرة، وجوارب مرنة.
بالإضافة إلى ذلك، أدخلت برادا في مجالها كلّ مكوّنات الجمال الإيطالي التقليدي في أبهى صوره السينمائية والسياحية: استخدمت هذا التراث بأكمله ببراعةٍ، وكانت تقوم باستمرار بالتبديل بين ما هو راقٍ ومنخفض، بين الأيتام والأثرياء الجدد، مع أخذها بعين الاعتبار جميع كليشيهات الابتذال، نتيجة كلّ هذا، حصلت ما كان يسمّى يومًا "Ugly Chic/ الأناقة القبيحة".
أصبح هذا المصطلح على الفور مصطلحًا عصريًا التصق ببرادا. منحتها مجلة "نيويورك تايمز" لقب "a champion of bad taste and the jolie laide/ بطلة الذوق السيء والقبح الجذّاب". وفي هذا السياق، يجب أن يفهم أنّ ما يميّز الأسلوب التحليلي هو: خلق مسافة بين الذوق السيء نفسه، والاختيار المتعمّد له، بهدف جعل القبح جذّابًا، وهذا ما قررته وفعلته برادا.




بحلول عام 2014، وظهور أصحاب المفاهيم الجديدة، وبروز موجة جديدة من الأزياء، وجدت أزياء برادا نفسها في حالةٍ من الركود والارتباك. وقد أدّى ظهور أبطال جدد في عالم الموضة إلى انهيار السلاسل الهرمية السابقة، وبدأت الإنجازات السابقة تفقد بريقها، وبدت البروتوكولات الصارمة السابقة المتبعة فاشلة عفا عليها الزمن. في عام 2010، ساد اعتقادٌ أنّ المجد الرئيس لعلامة برادا التجارية قد تجاوزها الزمن. في هذه الحالة، تكون الشركة أمام خيارين: التقاعد والتخلي عن العلامة التجارية لمصممٍ آخر، أو الاستمرار في العمل مدة الحياة حتى تصل العلامة التجارية إلى نقطة التآكل التام. لكنّ كان لبرادا، عند بلوغها عمر 70 عامًا، رأيٌ آخر، فتصرّفت خلاف جميع القواعد، فدعت أحد كبار المصمّمين المعاصرين، راف سيمونز، ليصبح مصممًا مشاركًا ومديرًا فنيًّا في مؤسسة برادا.

برادا وسيمونز في حفل جوائز الأزياء المستدامة للملابس النسائية لربيع وصيف 2023 في ميلانو (25/ 9/ 2022/Getty)


اليوم، وبعد أن اعتاد عالم الموضة على رؤية الثنائي الجديد معًا، لم يكن من السهل فهم مدى الثقة بالنفس التي تمتعت بها برادا عند اتخاذها ذلك القرار المصيري. أثبت راف سيمونز/ من خلال عمله لدى Jil Sander، وكريستيان ديور، قدرته على تطوير علامة تجارية، والتعامل باحترام مع إرث تلك العلامة التجارية. كان راف سيمونز مصممًا معروفًا بمفهومه الخاصّ عن الموضة، أي أنّه يستطيع، نظريًا، رفض التعاون مع برادا. كما كان لدى برادا ما تخشاه من هكذا صفقة، خاصّة وأنّ أعمال راف الأخيرة لدى Calvin Klein، قيّمت سلبيًا من قبل العلامة التجارية نفسها، ومن قبل مجتمع الموضة، ووصفت بالفاشلة.
بعد عرض تشكيلتهما المشتركة في خريف عام 2020 في Fondazione، أصبح من الواضح أنّ علامة برادا التجارية عادت لتنافس من جديد في مجال الموضة بأكملها. مرت أربع سنوات، وما زالت الأمور تسير من جيدٍ إلى أحسن: فماركة برادا، وميو ميو، تزدادان قوة كلّ يوم، وتعرضان في كلّ موسم تشكيلة جديدة تحددان من خلالها اتجاهات الموضة الرئيسة. وبالفعل، يرى خبراء الموضة أنّ تشكيلة Prada FW 2024 النسائية التي عرضت في ميلانو واحدةً من أفضل تشكيلات الموضة المعاصرة خلال السنوات العشر الماضية.
لقد تبيّن أنّ الطريقة التي يدعم بها هذان المصممان الرائعان بعضهما بعضًا يمنحان بعضهما القوة والثقة هي واحدة من أكثر القصص تفاؤلًا في عالم الموضة، والأمل يحدو الخبراء في أن تستمر الأوقات السعيدة لأطول فترة ممكنة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.