}

يوجي ياماموتو: راهب الأسوَد والجسد البديل

رنيم ضاهر 25 يوليه 2024
تغطيات يوجي ياماموتو: راهب الأسوَد والجسد البديل
(Getty Images)


"أعتقدُ أنّني كنتُ أعمل لمدة خمسة عشر عامًا على تفسير الفلسفة، لذا غنّيتُ أغنيتي بالفعل" - التوقيع يوجي ياماموتو Yohji Yamamoto.

الملابس جزء من هذا العالم، منذ أن ارتدى آدم وحواء ورق التوت كي يحتملا اللعنة التي حلّت عليهما. غطّيا الجسد كي تبقى الروح عالقة في الجنّة المتخيّلة ربما، ومع هذه الأسطورة واختلافات تأويلاتها في الأديان، بدأ التزيّن بالشّجر والعشب والورود والفرو وكافة الأشكال المادّية.

كل هذا العالم البدائيّ امتزج بالعناصر الأربعة للوجود وبموسيقاها المتنقّلة بين الحيوانات والطيور ورغوة المياه في الشلالات، وتفاعل الألوان في الجبال عند تبدّل الفصول، وفوران البراكين من العوالم السّفلية للأرض بالكثير من الأشباح والمواد والتّفاعلات المرعبة. أمّا الجميلات فأخذن يُفتّشن عن فائض الأنوثة في الكرز والحليب والصَدف والقش والسفن المحطمة، فربما يعثرن على سحر أفروديت المعتّق كالتماثيل الطازجة الصنع. فالبحث عن البهرجة جزء من شخصية النساء، وطمع الرجال بالكحل الغريب جزءٌ من المقارنة الصعبة بين جمال الغزال وقباحة وحيد القرن. أمّا الفنون فقد تماهت مع الوعي الجماعيّ، فمن التنك الفارغ صيغت الحضارة، ومن وهج الطبول والهذيان حول النار بدأت الموضة والعرض الأول للريش والثياب الممزقة وهندسة الهنود الحمر الذين يدورون كالطواويس تحت الشّمس. دون أن ننسى تسابق الحيوانات وهي تذرع بحوافرها الأمكنة، وتنهّداتها المتنقّلة بالقرب من إشارات الغيم والرياح، وتخبّط الأبواب والنوافذ، ووقوع الطلاء تاركًا إشارات من الطين، نُحلّل أشكالنا النفسية من خلالها، مُتماهين مع جذورنا الدادائية المفقودة.

إذا كان الفن يصنع العالم، والعالم يحتفي بكائنات مناسبة لجنونه، وإذا كانت الحياة مراحل، والأرض انتقلت عبر الزمن من البدائية العذراء إلى الانفتاح المؤرق، فلا بدّ من توصيف التأمّل بعبارات مناسبة، كون الإنسان هو نقطة البدء ونقطة التّحول والوصول معًا.

"النقاء والعواطف الشديدة، الأمر لا يتعلق بالتصميم، إنّها عن المشاعر"، فمن بين شقوق المسرح الأرستقراطيّ والفساتين المنتفخة كالبالونات والأجساد الخاضعة للتعذيب تحت وطأة المشدّات القاسية، خرج مبدعون من حزام الفقر حول المدن، الذي خلّفته الحروب ليرسم العبث على ذوقه، مستبدلًا بالتّالي القبعات المنفوشة بالشّعر الملون، والياقات الناصعة بملابس نازحة، وبدرزات خاطئة لمصمّمي الضواحي المتأففين، حيث الأحذية المطحونة من جريان الأيام وسوء التغذية والنوم تتوق للتغيير، إضافةً إلى تأثير البيئة السابقة وخروجها عن جداول الإحصاء والبيانات الدقيقة. كل هذه العوامل، على اختلافها، طحنت الفن بالأشياء غير الملموسة لتصنع السؤال والجواب وتشكّل الفن من التفاصيل، والتّفاصيل من الغيب. 

معان مُبتكرة لأفكار تشدّ الحواس والرؤى، سواء على مستوى الفن التشكيليّ أو الشّعر أو الغناء ليدخل العالم بشكلٍ مريح إلى العصر الجديد. حيث العبث، البوهيمية، الاختلاف وعلم النفس التحليليّ سيسهمون إلى حدّ كبير في تبديل سير الأحداث والمصائر على مختلف الخشبات، وذلك بالتناغم مع العارضات القادرات على التّساوي بأجسادهن النحيلة مع مخيّلة المصمم التكعيبية أو السوريالية أو حتى الواقعية. هذا ما يُسمّى بخلفية الفن والتميّز ومازوشية الاختلاف.

لا يمكن أن نتحدث عن يوجي ياماماتو بعد 32 عامًا من حياته المهنية الصاخبة، من دون أن نتذكر بداية فيلم "دفترٌ على المدن والملابس"، والذي تدور أحداثه حولَ شخصية مصمم الأزياء اليابانيّ العالميّ هذا. يطرح الفيلم أسئلة بلاغية ووجودية معًا، على سبيل المثال: ما هي الهويّة؟ ومن نكون؟ وهنا يشرح يوجي وجهة نظره وفهمه للحياة، قبل أن تُعرض بيوغرافيا حياته بشكل يُشبه عمقه واختلافه، ليس بالمعنى التهريجيّ "أنا هنا"، بل "حدّقوا بي جيّدًا"، سأعتمد ما أشاء من تصاميم تُشبه فلسفتي في الحياة.

يشرح ياماموتو كيف استحوذ الرسم على التّصوير الفوتوغرافيّ الإلكترونيّ والرقميّ، وكيف أن الهويّة والموضة مفهومان متناقضان، وبأنّه يتوجّب على السينما صناعة أسلوب حياة في بعض الأحيان.

يوجي ياماموتو في أحد عروضه (Getty)


"نحن بحاجة إلى رؤية الجزء القبيح وغير المريح من العالم"، ولقد أولى يوجي اهتمامه لرجال القرن العشرين نظرًا لأنّهم يرتدون ملابس وفقًا لمهنتهم، على عكس الأوقات الأخرى التي يرتدي فيها الجميع نمط الثياب نفسه. نلاحظ أيضًا بأنّه لم يدرس الملابس فحسب، بل أيضًا الوجوه التي ترتديها. ومن هنا فإن السترة التي صمّمها، كانت تُمثّل نوعًا من الشّعور بالحماية، واختياره للألوان الداكنة ليس سوى تأكيد على التماثل، في مجتمع غير قادر على الإنفاق على الجسد، لذلك فقد ترك للأقمشة الغامقة حريّة اختيار الجسد وراحته النفسية، بدون الإسراف أو المبالغة في إظهاره.

"الأسود مُتواضع ونبيل. إنّه سهل وغير مرهق، لأنّه متّحد مع كل الألوان في الوقت نفسه. يحتوي على سرّ معيّن. بالنسبة لي شخصيًّا يُمثلُ اللون الأسود دائمًا رسالة للآخرين: ‘أنا لا أزعجك، لا تُزعجني أيضًا‘"، هو المأخوذ بهذا اللون غير المتناظر، والطبقات الفضفاضة والدرزات الخام، مُبتكر الضدّ الذي جعله يفوز بقلب العالم الغربيّ الذي كان يحتاج بالضرورة إلى فسحات خارج الضوضاء، وثياب أقرب إلى الحياة العادّية المتناغمة مع السّير في الشّوارع وسوق العمل بحريّة وشفافية واتّزان، بدون المبالغات غير المبرّرة سواء في التقنيات أو الإغواء المقصود.

لقد برع ياماماتو أيضًا بترك الروح حرّة بأفكارها بعيدًا عن صرعة الموضة وعدم القدرة على التقاط الأنفاس عند اللحاق بها، معتبرًا أنّه على الحرفيين شحن وإيجاد جوهر الشيء في أثناء صنعه وإخراجه.

يرى يوجي أيضًا أن خياره في الحياة يكمن في النقص، لأن الكمال قبيح، كما الشّعور بالأمان. بالنسبة إليه فإن مشاعر الاكتفاء والامتلاء لن يؤدّيا في النهاية سوى إلى المزيد من الملل.

"أرى أشخاصًا يرتدون ملابس الواقع، وأريد أن أصنع شيئًا كهذا"، لذلك فهو يسعى للّعب في المساحات الخطرة، وعدم تبنّي الأفكار المعتادة في الموضة حول النشاط الجنسيّ للأجساد. إن اتخاذ قرارات جامحة، على حدّ رأيه، تجعل الشكل الخارجيّ والأفكار جذابة في الوقت عينه. وهنا يحضرني قول لكوكو شانيل: "الموضة ليست فقط في الفساتين، الموضة في السّماء، في الشّارع. الأزياء لها علاقة بالأفكار والطريقة التي نعيش فيها"، فالأزياء ليست صيحة عابرة، إنها مرآة تعكس شخصية الإنسان وأفكاره، فنحن لسنا مجرد شكل لـ"مانيكانات" مذهولة بشكل دائم، بل لدينا مضمون وأحلام وأجواء نفسية، وعلى الخارج أن يوحي بأعماقنا وثقافتنا، بدون التّشبه بأزياء لا معنى لها، قد تؤدي إلى مزيد من الفراغ الروحيّ.

أمّا عن علاقته بالمرأة، فهي تظهر من خلال الملابس التي يقوم بتصميمها خصيصًا لها، فهو يؤكد أن أول شيء فكّر فيه في أثناء صنعها هو "كيمونو" النساء اليابانيات، إلا أنّه غيّر رأيه فيما بعد وركّز على إجراء تغيير في تصميماته لتشبه الحياة. ولأن النساء جزء كبير من طفولته، فإنّه في كل مرة يرى فيها امرأة ترتدي الكعب العالي، يعود بذاكرته إلى الماضي، ويعتبر المرأة عجوزًا، حتى لو كانت تبدو مراهقة.

ما الذي حذا بيوجي لإحاطة نفسه بصور وأشخاص من كبار السّن؟ هل اختلافهم أو الخوف من اللحظة التي قد ينتهي فيها الإلهام بعيدًا عن هوامات الماضي؟

يصنع يوجي ملابس تُلامس الروح، وليس الجماليّة الخالصة فقط. فتصاميمه مستمدّة من الذكريات، الصور والرسوم التي تستدعي فضاء الماضي بكافة تفاصيله، الرومانسية، الفراشات، الواسع الممتد، الأسود والألوان الدّاكنة والفضفاضة جزء من عالمه المدروز بالدبابيس والقماش والبروشات كوسائل مساعدة على إبراز أحادية الإنسان، "عندما تفعل شيئًا لطيفًا، تشعر دائمًا أنّه أعطي من قبل شخص ما، لهذا السبّب تنتظر دائمًا شيئًا ما".

"أركزُ دائمًا على التماثل، لكنّي أرغب دائمًا في التغيير"، يعتقد ياماموتو بأن الأسلوب قد يُصبح سجنًا، لكنّه يُفضّل الهروب من الحبس من خلال العثور على أسلوبه ويكتفي بأن يكون حارسًا لزنزانته.
المتمرّد العظيم وملك الأسوَد وغيرها من الألقاب الكثيرة جزء من شخصية يوجي ياماماتو، وإذا كان في بداية مشواره تعرّض لكلام سيء من النقاد بحيث اعتبروا أن مجموعته ليست سوى ملابس الفقراء والمشرّدين، كونها بعيدة عن الإغراء والتناسق والاستعراضية، فقد اتّخذ لنفسه لقب "خالق الموضة المعادية". هو الذي انتشرت أزياؤه لتناقض النظرة السائدة للأناقة المفرطة، البعيدة عن الواقع المريح الشفاف والمتنافر أحيانًا، وهو الذي تعلّق بعروض الرقص معتبرًا أن الجسد يعني "أشياء مختلفة حسب كيفية استخدامه للتّعبير".

اختار ياماماتو عطرًا يحمل مصطلح "حب" بكل ما تعنيه هذه الكلمة، التي اعتبرها "شعورًا مختلفًا وغير نهائيّ وسيبقى ملازمًا للإنسان في كل الأزمنة وعلى امتداد العصور".

وتبقى أجمل عبارة قالها الرجل ذو الملامح اليابانية غير مدرك لشعريته: "أريدُ أن أعود إلى ذلك الوقت، عندما لم يكن النّاس قادرين على شراء أيّ شيء. أحب تصميم الوقت، إنّه جميل جدًّا".

ليته يُفصّل وقتًا إضافيًا للأرواح النازحة من الحروب والبيوت والطائرات المُعادية، أو يستبدلها بطائرات وزوارق ورقية ملونة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.