}

الأخلاق والسياسة الكبرى: نيتشه من منظورٍ حداثويّ

فدوى العبود فدوى العبود 31 يوليه 2024
تغطيات الأخلاق والسياسة الكبرى: نيتشه من منظورٍ حداثويّ
آلان دو بنوا ونيتشه (Getty)
في نهاية القرن الخامس عشر رسم ليوناردو دافنشي لوحةً تجسّد التلاميذ الاثني عشر للمسيح مع معلمهم في العشاء الأخير، "تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح وابن الإنسان يُسلّم ليُصلب"*.  وهذه اللوحة التي تتموضع على جدران سانتا ماريـّا في ميلانو بإيطاليا ستثير الجدل في افتتاح دورة الألعاب الأولمبيّة في العاصمة الفرنسية باريس بعد أداء راقصين يمثّلون فئة المتحوّلين جنسيًّا دور المسيح وتلاميذه. فموضوع المثلية أصبح مادة للمتاجرة السياسية، وإذا كانت حركة المثليين لم تطلب إلاّ المساواة في الحقوق في بداية نشاطها، فهذا الأمر تحقق. آلان دوبنوا، مثلًا، زعيم اليمين الأوروبي والأب الروحي لليمين الجديد عالميًّا، يصرّح بأنه سواء كنت على اليمين أم اليسار فحقوق الإنسان وحقوق المواطنة محفوظة لكل الفئات. لكن الموضوع انتقل لما يسمّى تمييزًا إيجابيًا، كما يحلو لليسار تسميته، ولكنه عمليًّا ضدّ بقية فئات المجتمع، واعتبارهم أعلى من البقية ويحق لهم فرض شروطهم. وكمثال عند التقديم لوظيفة اليوم في فرنسا والمقارنة بين متنافسين، تُعطى علامات إضافية للمثليّ، فأين العدالة والمساواة؟

اليمين نبّه كثيرًا إلى خطر ذلك مجتمعيًّا، مما يولّد نتائج عكسيّة وكرهًا للمثليين، ويرى البعض أنه في "لوحة العشاء الأخير"، "إذا تكلّمنا بمنطق المساواة في الحقوق مثلًا، وباعتبار المثليين 5% من البشرية أو حتى 10%، فتمثيلهم ضمن اللوحة يجب أن يكون 1 من أصل 12، وليس كل اللوحة".

وبالعودة إلى لوحة دافنشي فالمتابع لتعليقات القرّاء العرب والمسلمين في وسائل الميديا يرى أن مواقفهم أقرب إلى اليمين. وإن لم يخلُ الأمر من الرأي المضاد طبعًا. وباعتبار غالبّية العرب مسلمين، كان النقد دفاعًا عن الأديان عامة، وليس الإسلام فقطـ بحيث لم يتم مهاجمته في اللوحة. أي أن هناك تعاطفًا ضمنيًّا بين الجمهور العربي وبين اليمين، سواء أكان اليمين مسيحيًا أم غير ديني.

هذا يجعل السؤال- برأي قسم التحرير في الدار الليبرالية- عن اليمين الأوروبي ضروريًا، لفهم مواقفه بعد أن كانت الترجمات العربية خلال خمسين أو ستين عامًا تركّز على اليسار، وهي تجربة أثبتت -برأي البعض- فشلها في العالم العربي.

وفي هذا الكتاب "الأخلاق والسياسة الكبرى: نيتشه" نتعرّف إلى تأويل جديد لنيتشه عبر أهم أعلام اليمين آلان دو بنوا*. وتأتي الترجمة كدعوة للقارئ لقطف الثمار الأكثر نضجًا سواء من اليمين أو اليسار، وتلقيحها مع تراثنا الفكري والفلسفي والعربي لإحداث نهضة حقيقيّة.

إن السؤال، لماذا يتقدّم اليمين اليوم في مواقع كثيرة، في مقابل تراجع اليسار هو سؤال ثقافي، لذلك فمن الضروري أن يتعرّف القارئ العربي على اليمين بعد أن تعرّف على اليسار عبر خيبات الآباء، خصوصًا - كما يرى مترجم الكتاب منتجب صقر- أن سوء فهم كبير تعرّض له اليمين عبر تشويه متعمّد من اليسار.

يشكل أولمبياد فرنسا مثالًا واضحًا عن ضرورة فهم أفكار اليمين ويذهب هذا الرأي إلى مثال آخر، وهو قضية اللّاجئين وما يشاع حول اليمين من أنه يريد طردهم وهي - برأي مترجم الكتاب- حركة خبيثة من اليسار الأوروبي؛ هدفها كسب الأصوات في الانتخابات. وبالتالي يجب أن يفهم القارئ العربي كيف يفكر اليمين باعتبار الأخير هو الأقرب له.

ولكن ما علاقة نيتشه بكل ذلك؟

لو أخذنا التطبيق العملي لأفكار نيتشه في فترة الحكم النازي التي سبّبت الويلات للعالم نرى ضمنها جانبًا مضيئًا معترفًا به في الغرب اليوم، وهو مقاومة تفكيك الأسرة التي تعاكس مفهوم الإنسان الخارق الذي طرحه نيتشه.

كما أنه لا يمكن تصنيف نيتشه، فالفلاسفة الكبار كتبوا قبل هذه الانقسامات والكثير من اليساريين تبنّوا أفكار نيتشه ومثلهم من اليمين. وبما أن الواقع العربي الآن "واقع هزيمة"، يبدو فيلسوف المطرقة ضروريـًّا؛ لكونه لم يضرب على الأشياء لتحطيمها بل لسماع "جواب الفراغ الذي يندّد بدواخلها المنفوخة والفارغة، عندئذ، فالأشياء التي كانت تريد أن تبقى صامتة ستضطر إلى بدء الكلام".

ونيتشه الحداثي وفق قراءة دو بنوا هو خطوة متقدّمة على لاعقلانية شوبنهور، بحيث خضع شوبنهور ومنظوره للحياة إلى إعادة تقييم من نيتشه الذي لم يكن لاأخلاقيًّا بل معاديًا للأخلاق، وثمة فرق هنا، إنه يعادي أخلاق السائد والضعف ليحكّم إرادتنا الأخلاقيّة.

يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام، في الأول تطالعنا ثمانية فصول ويمكننا أن نستخدم كلمات مفتاحية هنا (البديهيات، رجل الدين، الشجرة التي تنبثق منها ثمار الأخلاق، القوة والضعف، الخطيئة والشرف). تسبقها مقدمة لفهم اليمين واليسار بعيون عربية، وفصل ختاميّ يبيّن الفرق الدقيق بين المصطلحين (يمين، يسار) تاريخيًّا عبر اليساري الإيطالي نوربرتو بيبيو.

إن تساؤل نيتشه ما قيمة هذا الدواء "الأكثر شهرة من بين كل الأدوية الذي نسميّه الأخلاق"، لم يكن لتهديمها؛ بل للكشف عن زيفها باعتبارها فعل سلطة صادر عن هؤلاء الذين يهيمنون على اللغة، "لقد ربطوا لغة معنية بالشيء، أو بالحدث، واستحوذوا بذلك عليها".


إذًا، ما نسمّيه أخلاقًا هو نموذج سلوكي، إن أتى من خارجنا فهو "إهانة لشخصيتنا". وهنا يجب أن نبحث عن المسؤول الأول والأخير، أي الفنان الحقيقي لمشاعر الخطيئة (رجل الدين)؛ فالشرح المسموم للألم الذي مارسه رجال الدين (تشويه الحب، تشويه العظمة، الحياة عقوبة، والثقة بالنفس كفرًا، والشغف شيطانًا)، يزرع فينا الضعف الذي يتّسم به الطوباويون ومثلهم الميتافيزيقيون، وهي الكائنات العاجزة التي ليس لديها "سوى العالم الآخر، كي تنتقم من هذا العالم" حيث يتخيل الإنسان أن هناك من يقود قدره نيابة عنه.

فهل الإنسان القوي هو إنسان "لا"؟

القوي بخلاف الضعيف المنقاد للقطيع مستقل، ليس تابعًا، إنه يعيش بإيقاعه الخاص. "هو من يتصرّف بدلًا من أن يُتصرَّف به".  لكن لا المطلقة سلبية هنا لكونها مرتبطة بنعم: "يوجد عند إنسان ‘لا‘ الزاهد الذي يلقي الشك في العالم، وهو المحتجّ الذي يلعن المجتمع، تناقض مذهل بين قدرته الخارقة على التدمير وعدم قدرته الكاملة على البناء". يتجاوز نيتشه بهذا الفهم العدميّة السلبية.

إن الإنسان، وفق الفهم الحداثوي لنيتشه، لا ينقاد لأخلاق تأتي من خارجه، بل يدرك أنها "فعل سلطة صادر عن هؤلاء الذين يهيمنون"، لذا يستمدّ من ذاته قيمه الأخلاقية، ليصبح الفعل الأخلاقي فعلًا حرًا صادرًا عن ذات واعية لا مقلّدة ولا هادفة للأخذ بالثأر. لذلك فالتمييز ضروري هنا بين أخلاق الخطيئة المستندة للضمير الجمعي، حيث يخسر الإنسان حيويته وهو بنظر نيتشه "رجل الضمير السيء"؛ بخلاف أخلاق الشرف فالضمير فيها هو المحكمة "حيث لا يمثُلُ أحد فيها إلاّ مقابل ذاته".

وإن قراءة جديدة لنيتشه تساعدنا على فهم الحدث الأخلاقي متعدّدًا. "في هذه الحالة لا توجد حقائق إنما تأويلات"، هذا يعني أن العادات والمؤسسات والأفعال، "تتغير وتغيّر من اتجاهها ومعناها"، فلا تصبح للأخلاق بحدّ ذاتها قيمة بعيدة عن الإرادة التي تنتجها في سياق ما. فالعدل واللاعدل لا قيمة للحديث عنهما، "فالانتهاك، والتجريد، والتدمير بحدّ ذاته لا يمكن أن يكونوا أبدًا أشياء غير عادلة. لأن الحياة تتم عبر المخالفات والانتهاك والتدمير، ولا يمكننا أن نتخيل حدوث ذلك بطريقة أخرى".

إذًا، يؤسّس نيتشه الأخلاق على الحياة المتغيّرة، كما يقول دو بنوا ويضيف: "هل تتذكرون القرن التاسع عشر والصراخ والبحث عن إلغاء استغلال الإنسان للإنسان، اليوم نتحدث عن سلام عالمي... هذا كلام فارغ بالنسبة لنيتشه، إنّ عالمًا بدون توترات هو عالم خارج التاريخ، لأن التوترات الكامنة وراء التطور هي من تولِّد الأحداث. لكن وسط هذا كله فالاستقلالية مقدّسة لأنها القدرة على الإجابة من الذات وعلى إثبات الذات أيضًا".

في القسم الثاني من الكتاب نتعرّف إلى نيتشه السياسيّ، الذي يقرأ مستقبلًا هو حاضرنا الآن؛ إنه يتنبأ بغياب صوت العقل "ومنذ تلك اللحظة التي يصبح فيها كل شيء يساوي كل شيء". ومن هذه التقاطعات يبشّر بموت العقل النقدي، لكنه لا يقبل الفوضى بل يرفض الفوضوي لأن الأخير "مقيّد بجهله الخاص".

والمثالي ليس هو السوبرمان بل "الذي يستطيع أن يتجاوز نفسه لكي يفعل". إن لديه إرادة القوة "فالبطل النيتشوي ليس المتعالي بالمعنى الزرادشتي، ولا الضعيف بالمعنى الديني، ولا العدمي بمعنى شوبنهور، فالعدمي لن يكون مؤسسًّا".

وإنّ نوعيّة الدولة هي نوعيّة الرجال الذين يخدمونها، فالدولة القديمة تمتّعت بالحيوية والإرادة لمن شيّدوها، أما الحديثة فهي صورة لمن يستخدمونها. إنها ثقيلة وضعيفة وتهتزّ تحت رحمة الفضائح. وهمّها منافع اجتماعية واعتبارات تجارية "ليست دولة بل مجموعة من التجار".

وهي تعكس صورة إنسان هذه المرحلة، أي التاجر رجل الأملاك المادية "ستصبح الأرض أكثر ضيقًا، وسيقفز الرجل الأخير فوقها ويقلّل من شأن كل شيء".

فالأزمة الحديثة ليست أزمة بلد لكنها أزمة حضارة كتب نيتشه: "إن أوروبا ستكون مجتمعًا فائقًا من وجهة نظر تكنولوجية لكن فقيرة بالعقول الحرة". 

وبالعودة إلى "لوحة العشاء الأخير"، وقبلها الرسومات المسيئة للأديان وحوادث غيرها، يتّضح أن مغالاة الأديان واعتبار أي حدث مؤشرًا أخلاقيًا يتقابل بروح ثأرية الآن. و"المخرج المتاح هو تأويل نيتشه من جديد عبر عدميّة إيجابية ليست إحياء للغة العقل بل للغة الحياة".

وفي المنحى ذاته، وصف الروائي شادي بطرس مشهد "لوحة العشاء الأخير" بأنه مشهد "معالج بكيتش عالٍ أقرب إلى أسلوب الباروديا، سخرية من الأيقونة ومن الأيقنة، مجرد إعادة إنتاج لأيقونات هزلية بروح معاصرة، متهكمة ملتبسة ومشوشة وصادمة للذوق المتحفظ. ثمة شيء حزين في الكيتش العالي، ففي خضم لهوه وإفراطه تتبدى عدمية دافعها اليائس، ليس لدينا أيقونات للحاضر ولا أيقونات للغد، كل ما هنالك هو التكرار واللعب والتسلية العابرة".

وربما يكون هذا هو الحدّ الضروري لنفهم نحن العرب الفارق بين أخلاق تتأسّس على الخطيئة وأخرى على الشرف، بين الهدم لأجل الهدم وبين البناء. ما يفتح الباب للقارئ العربي والمثقف بأن يسائل ثقافته ليس من موقع عدميّ بل من موقع الحياة ذاتها. لذا تأتي هذه القراءة تمثلًا لعبارته: يجب "أن نغيّر رؤيتنا في النظر كي نصل، ربما بوقت متأخر جدًا لأن نغيّر طريقتنا بالإحساس".

ويذكر الكاتب جورج برشيني في مقدّمته للكتاب أن أهمية الكتاب في أنه الأول ضمن أعمال دو بنوا الكاملة التي تتجاوز الـ100 كتاب لفيلسوف معاصر يعتبر الأهم في تيار اليمين العالمي، ويقدّم أفكار اليمين واليسار في كتاباته بحيادية، وأن قراءة كتبه ستصدم قارئها في المرة الأولى وستكشف اليمين الجديد (وليس اليمين المتطرف)، كما يذكر أن دو بنوا يعتبر أوروبا والعالم العربي في خندق واحد ومصالح مشتركة في كتابه "أوروبا والعالم الثالث: المعركة ذاتها"، وهو يرفض الطغيان الثقافي الأميركي الذي يحاول القضاء على الهوية الوطنية والخصوصية في أوروبا والعالم الثالث في كتابه "ضد الليبرالية"، وكتابه "الشر الأميركي" وهو يدافع عن التعدّدية الثقافية والخصوصية وعن حق المسلمين بممارسة دينهم عبر دفاعه (اي دو بنوا) عن الحجاب الإسلامي في كتابه "كيف نكون وثنيين"، وهو ليس ضد العرب ولا المهاجرين. وفي كتابه الأخير "نحن والآخرون"، الصادر منذ أشهر، دعوة للاندماج وتكوين دولة تعدّدية من الجميع لكن يطلب من المهاجرين الاندماج الفعلي في سوق العمل، والدعوة للعمل والتفاني والإخلاص في خدمة المجتمع من روح الدين الإسلامي ولا تعارضه. 


إحالات:

- آلان دو بنوا، الأخلاق والسياسة الكبرى: نيتشه، ترجمة منتجب صقر، الدار الليبرالية، 2024.
- إنجيل متى 26، الآية 2.
- آلان دو بنوا، صحافي فرنسي وباحث سياسي وُلد بتاريخ 11 أيلول/ ديسمبر عام 1943، وهو عضو مؤسس في حركة اليمين الجديد السياسية، ألف دراسة "ما يراه اليمين"، وهو يتعامل بشكل خاص مع الزرادشتية النيتشوية.
- شادي لويس بطرس، أولمبياد باريس: الكيتش العالي، موقع المدن.
- فريق تحرير الدار الليبرالية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.