}

الالتزام في الفن التشكيلي.. ازدواجية وتناقض

أسعد عرابي 1 أبريل 2020
تشكيل الالتزام في الفن التشكيلي.. ازدواجية وتناقض
لوحة "حمامة السلام" للتشكيلي سليمان منصور
لا شك في أن الحدود غائمة بين الواقعية الاشتراكية من جهة، والالتزام الطبقي (إلى جانب النضال الإبداعي الفلسطيني) من جهة أخرى، أي أن هناك خلطا (فيما يوسم بالالتزام) بين شهادة الواقع ومطلق الانحياز الطبقي أو الجغرافي. فمثلاً يتحدث روجيه غارودي عندما كان ماركسياً في أعقاب الحرب العالمية الثانية عن «واقعية بلا ضفاف» (أشهر كتبه في النقد الفني) معتبراً بيكاسو وجياكوميتي ضمن هذه القائمة. وإذا كان معلم اليسار المصري حامد عويس بصم بتقدميته الشمولية أسلوب وموضوعات طلابه الذين درسهم في كلية فنون الإسكندرية (على مثال غسان السباعي خلال الوحدة بين القطرين) فإن الطابع «الليبرالي» لمدرسة الإسكندرية المتوسطية (للأخوة وانلي) اجتاح مقاماته اللونية وألوان تلامذته. بل إننا سنلاحظ بأن الموفدين العرب لدراسة الفنون التشكيلية في الاتحاد السوفييتي (ما بين معهدي موسكو وبطرسبورغ) ينقسمون مثل واقع الحال لديهم إلى فنانين متينين ترسخت موهبتهم في الرسم خلال دراستهم الأكاديمية الواقعية وتمتنت قدرتهم التقنية والتربوية بعد عودتهم والتدريس في الكليات الجامعية المحلية (من أبلغ الأمثلة علي شمس في لبنان (المعهد الأول)، ونزار صابور المدرس في كلية فنون دمشق) مقابل الغوغائية الحزبية المتخلفة تشكيلياً. هم الذين ظلوا بمستوى الهواة المرتبكين. لذلك لا نعرف أسماءهم على كثرة عددهم.
 منى حاطوم ـ الكرسي 


















ربما كان هذا الخلط والتشويش يسيطر على تاريخ التصوير والموسيقى في أصول التوجيه ضمن عاصمتي القيصرية والبلشفية المذكورتين. وهنا نستحضر السؤال الشرعي اليوم: لماذا احتكر العهد القيصري شوامخ المبدعين في التصوير مثل المعلم الأكبر المخضرم ريبين والأرمني ساروفين والسينمائي المبكر إزنشتاين وعملاقي الرواية دستويفسكي وتولستوي وخاصة مبدع موسيقى الباليه وفيض الألحان الشعبية بيتر تشايكوفسكي وتلامذته الخماسي الكبار مثل بورودين ثم موسورسكي وكورساكوف مدرب إيغور استرافنسكي على نظام الهارموني، ثم أعظم عازفي البيانو في تاريخ الموسيقى رحمانينوف، وبالمقابل فإن العديد من هؤلاء العباقرة المتأخرين هاجروا بسبب الثورة البلشفية خاصة مع سيطرة لينين عام 1917م، وكان الوضع إبداعياً أشد سوءاً مع ميغالومانية ستالين.

علينا أن ننتظر خروتشوف الأشد تحرراً في القيادة الشيوعية، والأشد تشجيعاً للفنون رغم استمرار نظام وحدة اللباس وتخلف الرقابة (الالتزام بالطبقة العاملة والحزبية الدهمائية والبروباغنده الديماغوجية). تحضرني في هذه المناسبة الرسائل المتبادلة بين خروتشوف محاولاً استمالة إيغور استرافنسكي بالعودة بعد انفجار شهرته في الولايات المتحدة. يرفض الموسيقار العودة معتذراً بأنه لا يحب أن تكون حالته مثل محنة تشوستاكوفيتش الذي عاد وعانى الأمرين من كابوس الرقابة والتدخل في موسيقاه وحذف العديد من المقاطع، ويختم رسالته بتوقيع حرف الـS   بداية اسمه، معدلاً هذا الحرف إلى إشارة الدولار كنوع من الاستفزاز. إذا انتقلنا إلى المصور المثقف واسيلي كاندينسكي الذي لجأ إلى ألمانيا بعد احتلال محترفه من دهماء الثورة في روسيا، وكان على رأس «الفارس الأزرق» إلى جانب بول كليه، فيعتبر تنظيره التربوي 1910 انعطافاً حاسماً في الحداثة بعد اكتشافه التجريد عام 1908م ثم يفقد عمودي الجماعة اللذين قتلا على الجبهة: فرانز مارك وماك. سيكون له شأن المؤسس في مدرسة الباوهاوس، وسيكون لزوجته عازفة البيانو دور بنيوي في التوليف بين تجريداته الشمولية والكتابة الموسيقية، يقول في كتابه المذكور: «سيأتي يوم قرب أم بعد ستتحول فيه اللوحة إلى كتابه نوطاتية قابلة للتأويل من قبل أكثر من مصور». ألا تثبت هذه الأمثلة المهاجرة أنها أشد نخبوية والتزاماً بعمودية التعبير الفني؟

 ماكس بيكمان ـ التعذيب 

















الازدواجية في مفهوم «الالتزام»
يمثل سوء التفاهم بين بيكاسو وهنري ماتيس هذا التناقض بين الإلزام القسري والالتزام بالبعد الروحي الحر في اللوحة، ويسجّل ماتيس موقفه المعارض لمن كان يسرق من لوحاته الأشكال المغتبطة بأن: «في الحياة نعاني الكثير من المشاكل ولا يجب إضافة واحدة منها إلى اللوحة». يبتدئ التناقض في مسلك الالتزام من انتساب بيكاسو المتناقض للحزب الشيوعي الفرنسي بصفته كان على رأس المعارضة لفاشية فرانكو (يعود إليه فضل تحول أنطوني تابييس من الموالاة إلى صفوف المعارضة)، ولو عرف أعز أصدقائه استرافنسكي بعلاقة بيكاسو العاطفية بستالين لقطع علاقته معه، على ما يحمل الاثنان من تقدير وحميمية متبادلة، ولعلّ أجمل ما رسم بيكاسو من مجموعات بورتريه كانت تمثل استرافنسكي والأخير بدوره كلفه بتصميم ديكورات وأزياء باليه دياغيليف الأخيرة.

لم تتمكن محترفات أوروبا الشرقية من منافسة ريادة العالم الليبرالي الأوروبي- الأميركي في مفهوم الحداثة والمعاصرة، واقتصرت على استثمار تراث بول سيزان باعتباره رمزاً للجدلية المادية في الغرب (إلى جانب التعبيري الشيوعي الوحيد في فرنسا: غرومير)، ولم تكن على مستوى إدراك أهمية تعديلات رفيقهم الأيديولوجي بيكاسو لتكعيبية سيزان واختراع براك للملصقات والتحول من التحليلية الواقعية إلى التركيبية التي أعادت تشريح المرئي بحساسية سحرية مأزومة. لكن هذا الحكم السلبي ليس عاماً، ففي الوقت الذي اكتشف فيه كاندينسكي في ألمانيا التجريد من لوحة مائية مقلوبة، كانت الاتجاهات التجريدية المتزامنة في موسكو تعاني من العزلة والحصار على مثال تصعيدية مالفتش وإشعاعية لاريونوف وسواهما، إذا راجع مجهرنا التحليلي من جديد محترف فالوريز للسيراميك ومجاورة بيكاسو لمحترف باية محي الدين وتأثره المعلن بمنحوتاتها الغضارية البريئة والشطحية في آن واحد. أقول إن غريزة وحدسية تخييلات باية السحرية الجزائرية جعلتها رمزاً أشد أبدية في ثقافة الثورة من المجاهدة جميلة بوحيرد نفسها، والشاهد الطابع الذي أشرف على طباعته أحد رموز الثورة الجزائرية الفنية: إبن خدّة، يختار موتيفاً لدودة شطحية التخييل لباية فيصبح هذا الطابع البريدي رمزاً لثورة المليون شهيد. إن جنيات باية المؤسلبة أثبتت أن الالتزام في الفن التشكيلي ليس حكراً على الموقف السياسي وإنما على الاستمداد الخرافي من اللاوعي الجمعي في الصور والحكايا الشعبية الدارجة. لعلّ ما أثار حفيظة بيكاسو هو هذا الكمون السحري بالذات الذي خفت صوته في الفن الملتزم، وعاد ليشع في تيارات ما بعد الحداثة ابتداءً من وفاته.

 أوتو ديكس- الحرب 


















الالتزام وما بعد الحداثة
مع العبور إلى تيارات ما بعد الحداثة منذ ما بعد السبعينيات في أوروبا تعدل بصيغة نهائية مفهوم الالتزام، وترسخ هذا الانعطاف مع تفتت الاتحاد السوفييتي وعودة روسيا وأوكرانيا وسواهما إلى حضن الليبرالية في الفن والاقتصاد العولمي. قاومت محترفات في الشرق المتوسط العربي هذا الانقلاب وأمعن فن الخطاب الملتزم في نشر عدواه بين مريديه، لن نجد لهذا العناد أي مناظر نهضوي في المحترفات الأوروبية (التي وفد منها أصلاً فن اللوحة والمحفورة والمنحوتة) ولا تتعدى الأمثلة الماركسية واحدا في فرنسا: غرومير وواحدا في نيويورك: بن شان اليهودي الأصيل المهاجر من تونس.

 مارسيل غرومير ـ الحرب  

















تقودنا هذه الأمثلة (إضافة إلى دومييه وبيكاسو نفسه) إلى درجة تطوّر فن الكرافيك والطباعة لدى الفنانين الملتزمين خاصة العرب منهم وذلك لارتباطهم بالتبشير بديمقراطية المنتج الفني وتعددية النسخ الطباعية وصولاً حتى الشيوع الصحافي المناقض لندرة الفنون النخبوية، وللعناية بالذات بمضمون العمل الفني. من الأمثلة البليغة ضياء العزاوي (وكتبه البورتفوليو وطباعاته عن القضية الفلسطينية وموروث جواد سليم) كذلك الأمر مع فتاح الترك وعلي طالب وعبد الكريم رسن، ثم نمو فن الحفر في دمشق ابتداءً من غياث الأخرس وبرهان كركوتلي ومروان ونذير نبعة وانتهاءً بيوسف عبدلكي وياسر صافي وماهر بارودي، ثم الروّاد الجدد الشباب في المهجر السوري، الذين انتقلوا من المحنة الذاتية إلى المحنة السورية، أي الالتزام بالسيرة الذاتية ابتداءً من منيف عجاج وعمران يونس وانتهاءً بنور عسلية التي تتراوح بين المفاهيمية والإنشاءات، ثم العديد من نحاتي ما بعد الحداثة على رأسهم محمد عمران، ثم إميل منعم (لبنان) وكمال بلاطة والحلاج وسلامة (فلسطين) ونعواش (الأردن) وهكذا.

لا بدّ في النهاية من تقصي التحول الشمولي الكوني في مفهوم الالتزام، التحول في المكان والزمان على رحابة مشاكل الكوكب الأرضي الأيكولوجية مثل التصحر وفساد الطقس وارتفاع درجة الحرارة وتلوث المحيطات وتمزق غلاف الأوزون والتلوث الذري والبترولي وسواه، وكأننا نستبدل مجهر العالم الصغيري المحلي المرتبط بالالتزام بالخصائص الثقافية والذاكرة المحلية (سواء القومية أم الروحية أم اللغوية أو مشاكل التحرر من عبودية الاستعمار والاجتياح العولمي) بالعالم الكبير. ابتدأت شمولية هذه الظاهرة مبكرة منذ السبعينيات في تيار إيطالي هو الآر بوفيرا وذلك بمراجعة تشكيل عناصر الكون الأولى من التربة إلى الفلزات إلى الصخور وأثرياتها وترسباتها أو الالتزام بتوثيق السيرة الذاتية مثل فن الجسد (بادي آرت)، شاركت فيه عناصر نسائية عربية ابتداءً من آمال عبد النور في باريس التي تستخدم شبحية جسدها في آلة الفوتوكوبي، أو اعتماد واسطة الفيديو تأكيداً على إعادة توحيد أنواع الفنون مثال منى حاطوم في لندن، وتوثيقها الصامت لعزلة الأنا في حصار الاحتلال. وهكذا تعتمد أغلب تيارات ما بعد الحداثة على توليفات وسائطها بين أنواع الفنون، يسيطر على حساسيتها الفنية الهاجس الأيكولوجي (حماية عناصر الطبيعية والكوكب الأرضي)، متمثلة في دعوة الناقد المتنور جان مارتان من خلال تظاهرته الانعطافية في مركز بومبيدو: «سحرة الأرض» معتبراً أن أوروبا والولايات المتحدة لا تستقطبان مفهوم ما بعد الحداثة لأنه استبدل هذا التعبير بالفن الراهن من القطب إلى المدار.

بن شان، الولايات المتحدة ـ نزوح 


















نعثر في باريس على تجارب أيكولوجية رائدة تستخدم مصطلحات جديدة مثل «الشعشعة»، وغواديللو اختص بصدع الإشعاع الذري لكرافيزم الغابة العذراء (الأمازون)، وحذا دومينيك تينو حذوه في معالجة أغصان هذه الغابة وهي متفحمة، ويدعى هذا التيار بالبيئية. إن تأمل تنظيم الأغصان غير المتماثل يحيل إلى نزعة «الفراكتالية» وهو برنامج عضوي متحول، طبق منذ بداية الثمانين ضمن «فيزياء الشعث»، من ممثلية اللبناني نبيل نحاس، أول فراكتاليست عربي.
سأختم هذه السياحة بمعادل الآر بوفيرا الإيطالي في الولايات المتحدة وهو الفن المتصحر (لاند آرت) ونموذجه الأكبر النحات الأميركي هايزر، يعالج بمقالع عملاقة حديثة صخرة هائلة من جوف صحراء نيفادا،

يختمها معدنياً من أطرافها الأربعة ويعيدها إلى حفرتها، ثم يطوقها بعدد من كاميرات الفيديو الحديثة التي تعمل على مدى زمان عام من الفصول الأربعة موثقة تحولات النحت وتغير الطقس والرطوبة والعواصف والحرارة وغيرها، ثم يقتني متحف المتروبوليتان مثلاً مونتاجا مختزلا لهذه التوثيقات الصورية. ونلاحظ بأن أغلب تيارات فنون البيئة تتمركز في الولايات المتحدة لأنها مكلفة.
ويمثل هايزر مفهوما مستقبلياً لوجدانية الالتزام والشهادة الحية التي تستخدم التقدم التقني بموازاة الفراكتالية المعلوماتية.

 سليمان منصور ـ حمامة السلام 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.