}

"في أعماق السِّين": صرخةٌ ضدَّ وحشيةِ رأسِ المال

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 22 يونيو 2024
سينما "في أعماق السِّين": صرخةٌ ضدَّ وحشيةِ رأسِ المال
لقطة من فيلم "تحت نهر السين"
من فكرةٍ لِعالم الأحياء البريطاني تشارلز داروين (1809 ــ 1882) يرى فيها أن "بقاء النوع ليس للأذكى، أو للأقوى، بل للأكثر قابلية على التكيف مع المتغيّرات حوله"، يؤسّس الفيلم الفرنسي "تحت نهر السين"/ Sous la Seine (2024)، استهلاله على صعيد المعنى، كما لو أن مخرجه إكسافييه جون أراد منذ ما قبل دقيقة الفيلم الأولى أن يُبقينا متيقّظين لسرديّة الفيلم، لكي لا نقع أسرى اعتقادنا أنه مجرد فيلم حركة ورعب تشويقي بقالب دراميّ، كما هو تصنيفه في مواقع التقييم السينمائي.
يبدأ الفيلم الذي احترت أي اسم أختار له من بين الأسماء المتعددة التي يحملها بحسب الموقع الذي يكتب عنه، أو الجهة التي تعرضه: "تحت باريس" بحسب الترجمة الغربية الإنكليزية له Under Paris، "في أعماق النهر"، وهو الاسم الأكثر شيوعًا له رغم أنه الأقل دقّة، وربما، في رأيي، جعله يحمل اسم "في أعماق نهر السين"، أو "في أعماق السين" هو الأكثر اقترابًا من حدوتته وانسجامًا مع اسمه الفرنسي الأُم. المهم، ما علينا، أقول إن الفيلم يبدأ من تحذير عالمة الأحياء صوفيا (تؤدي دورها الممثلة الأرجنتينية الأصل بيرينيس بيجو) من مخاطر تغوّل البلاستيك على محيطات العالم، وآثار ذلك الكارثية على التنوّع البيئيّ، وعلى حياة كثير من أحياء البحار والمحيطات، وما قد يسبّبه كل ذلك من تدمير خطط التنمية المستدامة لعام 2030، وما يمكن أن يفضي إليه من تلوّث وخَراب.
تقول صوفيا يقابلها، حاملًا كاميرته، زوجها ورفيق رحلتها البحثية الاستكشافية خْوَان (إيناكي لارتيج): "وصلنا إلى شمال المحيط الهادئ، وتحديدًا ما أصبح يُطلق عليه "القارّة السابعة"، وهي عبارة عن دوامة من القُمامة التي تغطي ثلاثة ملايين كيلومتر مربع، أي ما يعادل خمسة أضعاف مساحة فرنسا. هنا، وفي قلب هذه الدوامة المُعادية للبيئة يَنفُق كل عام ما يقترب من مليون طائر ومئة ألف من الثدييات البحرية بسبب تناول البلاستيك. ولغايات البحث العلمي، فقد وسَمنا أنواع (فصائل) من أسماك القرش، ووضعنا عليها أجهزة تتبّعٍ ورصدٍ ومُراقبة، لدراسة نموّها وتطوّرها".
فهل نحن في طريقنا نحو ولوجِ عَوالم فيلم ذي موضوعٍ بيئيّ؟

سراديب الموت تحت باريس 

يتريّث الفيلم في الإجابة عن أسئلته وأسئلة الناس... يبني سرديّته على مهل التصاعد وصولًا لتحوّل البناء الخادع الذي ظل إكسافييه جون يحيط تلك السرديّة به، إلى صرخة احتجاج كبرى ضد عالمه كلّه: عالمه الغربيّ الاستعماريّ التوسعيّ الرأسماليّ المتوحّش!

تحوّلات مَهمة عادية
خلال مَهمة عادية تقوم بها شمال المحيط الهادئ منظمة تطلق على نفسها اسم: "أوشن أورويجينز"، ضمن مشروع من مشاريعها يحمل اسم "نشوء"، تحدث مفاجآت تحبس الأنفاس، إنها المفاجآت نفسها التي قد توحي أننا ذاهبون باتجاه فيلم جديد من أفلام سمك القرش/ shark movies.
فبعد المقدمة التي أشرنا إليها سالفًا على لسان صوفيا، وصوّرها لها رفيق رحلتها، تركض إحدى مساعداتها نحْوها لتخبرها أنها ظهرت، ليتبيّن، لنا أن المقصودة هنا هي أنثى فصيل من سمك القرش يسمّى (ماكو)، تتابعها صوفيا منذ سنوات، من خلال جهاز التتّبع المثّبت عليها. أول مفاجأة عندما يبلغها الغواصون الذين نزلوا للاقتراب منها وجمع المعلومات، أن طولها ما بين ستة إلى سبعة أمتار، علمًا أن آخر مرّة رصدتها فيها لم يكن طولها يتعدّى المترين ونصف المتر! ثاني مفاجأة عندما تكشف أنثى القرش المفزوعة عن سلوك عدوانيٍّ، وما هي سوى لحظات حتى تكون التهمت، أو قطّعت أوصال الغواصين الأربعة وقتلتهم جميعهم!
مع وصولنا إلى هذا التفصيل، في إمكاننا أن نقول إن الفيلم انتهى هذه النهاية المأساوية، التي جعلت صوفيا تتوقف عن المَهمة والمشروع، وتغادر المنظمة إلى غير عودة، يرافقها فقدها وحزنها وإحساس ندمٍ قاتلٍ أنها وأبحاثها من تسبّبا بموت أربعة، من بينهم زوجها.
لكن مفاجأة من العيار الأثقل من كل ما مضى تتمثّل بظهور (ليليت) أنثى القرش التي تعرفها صوفيا حق المعرفة في نهر السين الباريسيّ! هذا بخصوص مفاجأة المكان، أما بخصوص فاجعة الزمان، فهي أن هذه المعلومات بدأ تناقلها داخل (عاصمة النور) قبيل انطلاق دورة الألعاب الأولمبية 2024، بأيام قليلة، وهي الدورة التي من المعلوم أنها ستقام هناك في قلب باريس!
تحوّلات متتالية سوف تصبح في باقي دقائق الفيلم البالغة (103) دقائق حجر الرحى في سبك أحداثه، ورصد سياقات تطوّرها الدراميّ، ومآلاتها الموضوعية.

مقذوفات البحر
بعد القطع الأول الذي انتهى بمأساة موت الغواصين في أقاصي الشمال الغارق بالتلوّث، ينفتح المشهد على شابين باريسيين يمارسان الصيد باستخدام المغناطيس، حين يعْلَق بصنّارتهم المغناطيسية شيءٌ ثقيلٌ يتبيّن لهما بعد تمكّنهم من رفعه أنه قذيفة قديمة من بقايا الحروب الأوروبية الدامية، نائمة لحين موعد في أعماق النهر الذي ترتبط باريس به ويرتبط بها. مرّة ثانية ينبت سؤال جديد: هل تريدنا رسائل الشريط أن نذهب باتجاه ملوّث آخر من ملوّثات البيئة والطبيعة، وخطر آخر من مخاطر الحياة والوجود، له علاقة، هذه المرّة، بالألغام المنسية، والمقذوفات التي لم تنفجر؟
على كل حال، هذه المقذوفات التي مرّت عليها شرطة باريس مرور الكرام بسبب انشغالها بالسباق الثلاثيّ الذي قررت عمدة العاصمة (آن ماريفين) أن يتجلّى بوصفه افتتاح دورة الألعاب الأولمبية، سيكون لها القول الفصل في قفلة أحداث الفيلم.

سراديب الجماجم
تفصيلة أخرى يمرّ عليها الفيلم من دون تعليق، تاركًا أثرها علينا لنا؛ نحدده نحن بالطريقة التي نريدها، والتكييف الذي ترشدنا إليه معارفنا؛ إنها التفصيلة المتعلّقة بأقْبية الجماجم (سراديب الموتى) Catacombes de Paris تحت نهر السين وفي أنفاق باريس التحتية. ولمن لا يعرف قصة هذه السراديب، فإنها أقبية/ مقابر تحتفظ بجماجم وعظام ستة ملايين إنسان بعضهم من مشاهير فرنسا، من بينهم ماكسيميليان روبسبير (1758 ــ 1794) محامي الثورة الفرنسية وخطيبها، والمهندس المعماري سالومون دي بروس، الذي صمّم قصر لوكسمبورغ الفخم في باريس، وأديبا قصص الخيال والخرافات شارل بيرو، وجان دي لافونتين، والرسام سيمون فوييه، وغيرهم.




سراديب تحفظ عظام ضحايا المقصلة الفرنسية التي أَعدمت آلاف الفرنسيين ممّن ثاروا على النظم الملكية والإمبراطورية، حوّلها رأس المال الفرنسي المعاصر إلى محجٍّ سياحيٍّ يدرّ المال لصالح خزينة الدولة، إذ يتعدّى عدد زوّار السراديب الـ 300 ألف زائر سنويًّا! قصة السراديب هذه تذكرنا بجماجم قادة الثورة الجزائرية الذين تحتفظ فرنسا منذ القرن التاسع عشر، بعظام 36 منهم في "متحف الإنسان" رافضة الاعتذار، ومانعة عودتهم إلى وطنهم الجزائر، أو، في أحسن تقدير، مماطلة في مسألة العودة تلك!

جشع رأس المال
ترفض عمدة باريس كل تحذيرات شرطتها حول خطورة سمكة القرش التي تسرح وتمرح في نهر السين متحوّلة إلى عاشقة للمياه العذبة بعدما كيّفت نفسها مع ظروف عيشها الجديدة. المبلغ المرصود لإقامة الأولمبياد لا يسمح بمجرّد طرح فكرة التراجع عن إقامته. وحين تلتهم السمكة (الشريرة) 12 شرطيًّا لا ترضخ لمنطق الأشياء، بل تتهم الشرطة بالتقصير، وتقرر الاستعانة بالجيش لتأمين مسابقة الافتتاح، وباقي أيام الأولمبياد، حتى أنها لا تتوقف عن تناول وجبتها خلال استماعها للحدث المروّع الذي راح ضحيته شرطة مدينتها من جنسيات ومرجعيات متعددة، ومن بينهم أفارقة وعرب!
يبدو أن الأمر ليس مجرّد تنافس رياضيّ، بل مشروع رأسماليّ وشركات واستثمارات وعلاقات عامة ودعاية وإعلام وعمل منزوع الوجدان. هذا ما يمكن أن يستنتجه أي مشاهد لهذا الجزء من الفيلم.
تصر العمدة على المضيّ قدمًا من دون أي تغيير في جدول أعمال استثمار فرنسا في الأولمبياد، ومن دون أن تُطْلع الرأي العام على حقيقة ما يسبح تحت ماء النهر القديم.
تتضافر الأحداث إلى أن تنفجر أخيرًا الكارثة، التي مثّلت صرخة الفيلم والقائمين عليه، حين يُغرقون باريس جميعها، وتتجاور رموزها الكبرى، من البرج إلى كنيسة نوتردام إلى... إلى... مع السراديب والمقذوفات!
لا أحرق نهاية الفيلم، بل أثبّتها لأشكل حافزًا لمشاهدة الفيلم الغاضب، الذي لا تسير وتيرته الإيقاعية بأسلوبية تشويقية تشجع على متابعته لغير المتخصصين بفن السينما. لكنها، في مختلف الأحوال، وتيرة تصاعدية تصل بنا إلى القفلة/ الصرخة، بأقل الموسيقى، وبعض المؤثرات، والضروري من الحوارات، والموظّف من كوادر الكاميرا وزواياها وتبْئيرها.

ديمقراطية مجتزأة
لا بأس، على ما يبدو، أن يقْلب مخرج الفيلم باريس رأسًا على عقب، إن كان مصدر غضبه سمكة عذّبها البشر ففقدت هويتها وتحوّلت إلى وحش يأكل البلاستيك والناس ويكبر بسرعة مفزعة ويتكاثر عذريًا (السمكة القِرْشية ليليت تحوّلت إلى ذاتية التكاثر وأنجبت داخل سراديب الموتى آلاف الفراخ المتحفزة للقتل مثلها). لكن الويل، كل الويل، له، لو فكّر أن يعبّر عن غضبه أن الأولمبياد سيستقبل الوفد (الإسرائيلي) غير ملتفت لكل الاحتجاجات الرافضة مشاركة دولة متّهمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، قتل جنودها الصهاينة عشرات آلاف الضحايا المدنيين من بينهم زهاء 20 ألف طفل شهيد ومفقود!



ديمقراطيةٌ مجْتزأة تنظر بعين العطف إلى المحيطات وكل الكائنات، باستثناء من لا ترى أنهم وصلوا، حتى، إلى مرتبة كائنات!! بل إن الديمقراطية الفرنسية ترسل السلاح إلى الجيش المجرم الذي يرتكب فعل الإبادة، بحسب ما تتداوله محكمة العدل الدولية.
ولكي تظهر ديمقراطية الفيلم أكثر إقناعًا لا بأس بجعل أحد أبطاله من أصول عربية (رقيب الشرطة الجزائري الأصل عادل، أدّى دوره الممثل ولاعب (الكيك بوكسنغ) الجزائريّ الأصل نسيم لِيس).
كان لافتًا، على كل حال، أن لا ينجو من مجزرة نهاية الفيلم إلا صوفيا وعادل، وأن يجلسا، أخيرًا، وقد غَرِقَ كل شيء، فوق قبّة معبد لا توضح الصورة لأيِّ دين يتبع. كان لافتًا، أيضًا، وأيضًا، أن لا ينحو مِزاج الفيلم ولا حتى دقيقة واحدة نحو أي كوميديا، أو فكاهة تخفف وطء أحداثه، فالأحداث حولنا جسام، والانسجام الكونيّ في أشدّ حالاته استعصاءً، وأحْرجها انقلابًا على كل شيء، والتخلي عن كل تناغم ممكن، والخروج من كلِّ عِقْد تعايش كان.
بقي أن أقول إن مصداقية الغرب، كما هي حال ديمقراطيّته، فقدت كل بريقها، وتبيّن زيفها، حين لا يمنح مقيّمو مواقع السينما على الشبكة الحلزونية الفيلم التقييمَ الذي يستحقه، ويراوح تقييمه في مختلف المواقع حول خمسة من عشرة! فهو رغم بعض الوهن في المبنى، إلا أنه يصعد بالمعنى إلى أعالي المواجهة التي لا بد منها، والجميع بانتظارها، بين الغرب الرسميّ والغربِ الشعبيّ الوجدانيّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.