}

رسوم تتجاوز إمكانات الكاميرا

بلال خبيز 30 يونيو 2024
تشكيل رسوم تتجاوز إمكانات الكاميرا
(منصور الهبر)
عن معرض "أعمال على الورق" لمنصور الهبر

منذ زمن يراودني تساؤل يتعلق بتموضع الموديل أمام الرسام. هل كانت هذه المرأة مستعدة للجلوس عارية أمام رسام غير مشهور، لساعات طويلة، إذا لم تكن تنتظر أجرًا لقاء جلوسها كل هذا الوقت؟ ربما بعض المتحمسات والمتحمسين قد يفعلون ذلك. لكن الفطرة السليمة تقول إن هذا غير ممكن عمومًا.
هذا التساؤل يعقبه سؤال آخر: هل يمكن أن تكون المرأة المرسومة في اللوحة، وهي تظهر في أشد لحظات وعيها بجسمها حدة، قادرة على المحافظة على وعيها بجسمها طوال هذا الوقت الذي استغرقه الرسم؟ الأرجح أن هذا مستحيل. قدرتنا على الاستمرار بمراقبة أجسامنا وتصدير زواياها الأجمل والأكثر إثارة إلى الناظر لوقت طويل ليست من المهارات الممكنة التحقق. في حياتنا اليومية استعضنا عن هذا التطلب بمراقبة الجسم في غدوه ورواحه، إلى أن تحين منه لحظة تفتح مثيرة، نقوم بتركيزها في أدمغتنا وحفظها كصورة للجسم في كل حالاته.
والحال، من هي المرأة (أو الرجل) التي يمكن أن تجعل جسمها قادرًا على أن يتموضع للتصوير والرسم، على نحو ما تفعل النساء (والرجال) اليوم حين يعمدن إلى أخذ صورة.
في زمن بدايات التصوير الفوتوغرافي، لم تكن تظهر الابتسامات على الوجوه إلا صدفة. الواقف أمام الكاميرا كان يجدر به أن يقف بلا حراك لمدة طويلة، أثناء هذا التجمد الإرادي، يفقد كل قدرة على التحكم بتفاصيله. شرط الابتسامة أنها قصيرة الأمد. تولد وتموت في لحظة خاطفة، وهي في ذلك تشبه لمعة الإغواء. حين تطول مدتها تصبح تكشيرة، وفي أحيان كثيرة تبدو استعدادًا لالتهام المنظور إليه. ذلك أن القلق البشري الأزلي دائمًا ما ارتبط بالخوف من الالتهام. وشرط العري ليكون مثيرًا أن يمر أمام العين بلحظة خاطفة، العري المستمر هو تعبير عن الجوع والفاقة والعوز، ذلك أن عري الجائع، أو الجائعة، مع أنه يظهر كل تفاصيل الجسم، لكنه لا يحيل أبدًا إلى الإغواء، ذلك أن العري المغوي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت ذكرى الثياب، أو الأثاث، ما زالت عالقة على جلد العاري، أو العارية.
إذًا، لماذا يجدر بالمرأة المرسومة ــ والتركيز على جسد المرأة له علاقة بتاريخ الرسم الذي بوأ جسدها مكانة أساسية في موضوعاته ومشاهده ــ أن تبقي جسمها في قمة استعداده للغواية لساعات طوال، قد تكون جاعت خلالها وعطشت أو تعبت وقررت أن تستلقي بهدوء ومن دون أي ادعاء على أريكة الرسام؟ إنه مخيال الرجل. الرجل الذي يريدها أن تبقى على هذه الصورة دائمًا. الخيال الذكوري الذي لا يطيق تصور كل وظائف المرأة غير المثيرة، من التهام الطعام، إلى التعرق، إلى قضاء الحاجات، أو الاستسلام لطبيعة وظائف الجسم.
الرسم، بمعظمه، كما التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، يبدو لي بهذا المعنى تأريخ سوبراني للجسم البشري. يصور الجسم في أقل حالاته دوامًا، ويراد للمشاهدين أن يصدقوا أن الجسم البشري، على الأقل أجسام هؤلاء المتموضعين أمام الرسامين والمصورين، ساحر ومتألق إلى الحد الذي ينزع عنه كل طبائعه الدنيوية.




كل هذه التساؤلات لم تأخذني إلى الاعتقاد بضرورة أن يغير الرسام أو المصور أساليبه التصويرية. كأن يرسم، أو يصور ما تلتقطه عينه في لحظة عابرة. وهذا يفترض أن يخطئ في اللون، وفي الشكل، وفي الملامح. لكن معرض منصور الهبر في غاليري "آرت أون 56" في بيروت جعلني أدرك أن حيل الرسامين كثيرة. وأنه في الإمكان أن يدرب أصابعه وريشته على التماهي مع عينه ومشاعره على نحو بالغ الدقة. الذين كتبوا عن أعمال الهبر الورقية أشاروا، في معظمهم، إلى تنفيذ رسومه على عجل، لأن المشهد الذي يرسمه متحرك وسريع ويشبه الحياة الحديثة. لكن أشخاصه في الرسومات المعروضة ساكنة، وغالبًا ما تكون في لحظة من لحظات الاسترخاء الكسل، الذي حين يلجأ إليه المرء يكون قد نسي كل ما حوله ومن حوله. استرخاء امرأة عائدة من عملها في عربة مترو، لا تفكر إلا بالوصول إلى وجهتها، ونزع الخارج عن جسدها، لتبقى مع عريها البدائي وحيدة ومتعبة. استرخاء رجل أمضى سحابة أسبوعه يعمل بجهد، ويريد أن يجلس بلا أمل نهار الأحد كله. هكذا قدرت أن المشهد الذي يرسمه الهبر ليس عابرًا، هو مشهد مقيم، لكنه المشهد الذي كان يفترض بالرسم وتاريخه أن يهتم به، مشهد حقيقة الجسم، لا فكرتنا عنه التي تغذي رغباتنا به.
منصور الهبر يستعجل في رسمه لأنه، على الأرجح، وها أنا أقوّله ما لم يقله، يريد أن يعطي للرسم بعدًا لا تستطيع أن تصل إليه كاميرات التصوير. تلك الكاميرات التي ما إن أصبحت متقدمة التقنية حتى سارع نقاد كثيرون للقول إنها ترث الرسم الذي يحتضر. يرسم الهبر متعجلًا أجسامًا في حالات استرخائها المديدة ليقول لنا إن الريشة تهتم بأوضاع هؤلاء، معاناتهم، تعبهم، قلقهم، لا جلودهم النضرة وأجسامهم الرشيقة. وأن الرسم على عجل هو بالتحديد ما لا تستطيع الكاميرا أن تتنطح لتحقيقه إلا إذا واتتها مصادفات لا تحصى.
منصور الهبر يرسم أحوال الناس في لحظات غفلتها عما حولها ومن حولها. ولأن هذه الرسوم ليست مما يمكن أن يندرج في إطار الإغواء الرخيص والسريع الذي نشاهده على قنوات تيك توك، ويوتيوب، فإن المعادلة تصبح مقلوبة تمامًا. عارضة تيك توك تجهز نفسها جيدًا وطويلًا لتنشر بضع ثوان من اندفاع جسمها نحو قمة إثارته. عارضات وعارضو الهبر يقيمون أمام ناظريه طويلًا في أقل أوضاعهم تحفزًا وانتباهًا، وهو يرسم هذه الأوضاع على عجل. منصور الهبر يرسم أحوالنا، تلك التي بتنا لا نعرف كيف نعبر عنها بوجوهنا وأجسامنا التي لفرط ما داخلها من مستحضرات التجميل وبيوت الأزياء باتت غريبة عنا، وبتنا لا نعرفها إلا حين نشيخ.
عرض منصور الهبر أعماله في غاليري "أرت أون 56" في بيروت من 7 حزيران/ يونيو وحتى 29 منه. وضمت الأعمال المعروضة رسومًا على الورق تم تنفيذها بين 2016 و2023.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.