}

مدينة مونتيري الأميركية: حفرٌ في طبقات تاريخ منسي

أسامة إسبر أسامة إسبر 24 سبتمبر 2021
أمكنة مدينة مونتيري الأميركية: حفرٌ في طبقات تاريخ منسي
شاطئ مونتيري
وراء كل اسم في أميركا اسمٌ آخر منسيّ، أو مُتناسى، وإذا ما أزحتَ ستارة نوافذ الأسماء، ونظرتَ إلى أفق الماضي، تتبدّى لك أسماء أخرى لتاريخ آخر. لكن حركة التاريخ تندفع إلى الأمام كقطار تتجدد عرباتُه وسككه على الدوام، ومن ركبوا في المقصورات حين بدأ قطار الحداثة بالانطلاق على سككه الممتدة إلى المستوطنات الجديدة نزلوا في محطات النسيان فيما يجلس أحفادهم، أو أحفاد أحفادهم، أو أشخاص منهم ينحدرون من دماء عديدة، في المقصورات الجديدة لقطارات تندفع نحو مستقبل لا يعرف أحد عن ماذا سيتكشف عنه. هذه هي أميركا التي تتدفق ببشرها في نهر الحياة بقوة التنوع والاختلاف غزيرة كمياه نهر المسيسيبي، أو نهر ميسوري، أو متبدلة كمناظر الغروب التي ترتدي كل يوم حلة جديدة على شاطئ مونتيري، أو شاطئ أسيلومار، الكلمة التي تعني اللجوء في اللغة الإسبانية.

وكما كان لنهر المسيسيبي اسم آخر أطلقه عليه السكان الأصليون لأميركا هو "ميسي سيبي"، أي "أب المياه"، ولنهر ميسوري اسم آخر هو "موسوريت"، الكلمة التي تعني "شعب الزوارق المحفورة"، كان لمدينة مونتيري أسماء أخرى طواها الزمن، فقد جاء المستكشفون، رسل الفاتحين والتجار، وغيروا الأسماء القديمة، راسمين خرائط الفتح.
المدينة تختلف الآن عن تلك المدينة التي وصف جون شتاينبيك بعض أحيائها بأنها أحيانًا "قصيدة، أو لها رائحة كريهة وضوضاء مزعجة، فيها نوع من الضوء، إنها إيقاع، عادة، حنين إلى الماضي، حلم… إنها مطاعم وبيوت دعارة، سكانها، كما قال رجل مرة، عاهرات وقوادون ومقامرون وأولاد عاهرات، وكان يعني بهذا الجميع. ولو أن هذا الرجل نظر من خلال ثقب آخر في الباب لقال: إنهم قديسون وملائكة وشهداء ورجال مقدسون، وكان سيعني الأمر نفسه". لكن سكان مونتيري الآن مزيج كبير من البشر، من مختلف الأعراق، فهنالك عائلات من أصول طليانية تمتلك معظم عقارات المدينة، فيما يعيش عدد كبير من الفنانين والكتاب وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال المتقاعدين في شقق مطلة على المحيط، أما السواد الأعظم فهو من عابري الحدود المكسيكيين، والهاربين من بلدانهم الأميركية اللاتينية، وهؤلاء يسكنون في منطقة أكثر فقرًا تدعى سي سايد، أو "جانب البحر".

مقتطف من رواية "شارع السردين المعلب" لجون شتاينبيك معلقة في الشارع الذي تدور فيه أحداث الرواية في مونتيري


تاريخ منسي
قبل وقت طويل من وصول المستكشفين الإسبان، رسلُ الغزاة والفاتحين، كانت تسكن في مونتيري قبيلة من السكان الأصليين تدعى رومسين أوهلون. ولكن حين وصل المستكشف الإسباني سيباستيان فيزكينو في 1602، ورست سفينته في ما يعرف الآن باسم مرفأ مونتيري، أطلق على المنطقة اسم بويرتو دي مونتيري، على شرف كوندي دي مونتيري، الذي كان نائب ملك إسبانيا آنذاك. في ما بعد، صارت أول عاصمة لكاليفورنيا، بعد اقتطاعها من المكسيك، ووصلت المدينة إلى شكلها الحالي كمدينة سياحية، أو كمدينة للعجائز الأثرياء، كما يسميها بعضهم، إذ يأتي قسم منهم كي يمضي ما تبقى من حياته على أحد أجمل شواطئ العالم.




غير أن مونتيري الحالية، مثل مدن كثيرة، تلعب لعبة التجارة بذكاء، فهي تفهم أن الثقافة ابنة التجارة، وكما كانت جمعية أصدقاء دمشق تصنع صورة دمشق القديمة لتحويلها إلى تجارة (كان هذا قبل الحرب)، بحسب الباحثة الأميركية، كريستا سالاماندرا، فإن القائمين على السياحة في مونتيري يستثمرون تاريخها الثقافي للغرض نفسه، فإذا ما انحدرت من شارع المنارة باتجاه كانيري رو، أو رصيف الصيادين، سترى على سلك ممتد بين عمودين لافتة معلقة عليها صورة وتحت الصورة مقتطف للروائي جون شتاينبيك، الذي ارتبط اسمه بأدب الاحتجاج، والمقتطف من روايته "شارع السردين المعلب" التي تدور أحداثها في هذه المدينة. لقد استثمر جون شتاينبيك سياحيًا لأسطرة تاريخ المدينة، فهنا حيث كتب رواية "شارع السردين المعلب"، وتحدث عن عذابات العمال، لا نرى إلا ما يشير إلى هيمنة السياحة، وتحكم التجارة، حيث لا يستطيع أي عامل أن يستأجر شقة الآن ويسكن حيث كان يسكن في زمن الرواية، وحيث تتجاور مقابل الفنادق والمطاعم الكثيرة، ومحلات البقلاوة التركية ذات الواجهة الضخمة، مع محلات الشوكولاته المصنعة محليًا، وغير بعيد عنها هنالك محلات الحلويات والسكريات المستحدثة، حيث في وسعك مثلًا إذا كنت من النوع المغامر، ولا تقرف من مفرزات الجسد الإنساني، أن تتذوق مثلًا سكريات بطعم البول، وهذا لا يمكن تفسيره إلا بأن جنون الإنتاج يترافق مع جنون الاستهلاك، من أجل خلق احتياجات عجيبة.
لكن هذه المدينة تتباهى بأن لها قصب السبق في بناء أول مسرح، وأول مكتبة عامة، ومدرسة عامة، وأول مطبعة في الولايات المتحدة، كما أنها تحتوي على أقدم بناء مصمم معماريًا هو الرويال بريسيديو تشابل، والذي بنته الحكومة الإسبانية في 1794. ويحق لمونتيري أن تفخر بهذه الأشياء، التي تشير إلى أن هذه المدينة كانت في بعض المراحل التاريخية مدينة الثقافة والفنون، إلا أنها الآن مدينة السياحة والتجارة والعقارات، إذ إن إيجار البيوت والشقق، أو أثمانها، قد حلقت إلى ارتفاعات خيالية أثرت على حياة كثير من الأميركيين الذين بدأوا يسكنون في بيوت لها عجلات، أو في سياراتهم، وارتفعت نسبة المشردين بشكل غير مسبوق في ولاية كاليفورنيا.



أسماء لها رنين
يرتبط اسم مونتيري بأسماء أدباء أميركيين كبار، فقد عاش فيها على شاطئ "بيك سير"، روبنسون جيفرز، الشاعر الذي وقف ضد الحداثة، كما تجلت لدى إليوت، وعزرا باوند، واتهمها بالغموض وموت المعنى. وفي محاولة للصراع مع الزمن، خطرت له فكرة بناء منزل يكون بمثابة الملاذ له ولزوجته وولديه.

برج النسر كما هو الآن


اختار موضعًا للبناء هو ساحل بيك سير، كارمل، الذي يقع إلى الجنوب من شبه جزيرة مونتيري. وعلى مرتفع مطل على البحر، مستخدمًا صخورًا غرانيتية نقلها عن الشاطئ الصخري لخليج كارمل. بنى جيفرز المنزل الذي سماه "منزل تور"، وألحق به ما دعاه "برج النسر"، وفي هذا المكان ألف أعماله الشعرية الرئيسة. خطط بنفسه لبناء المنزل، وشرع في بنائه في 1918، وتم جرّ الصخور الغرانيتية بالأحصنة. عمل روبنسون في البناء مع متعاقد بناء، وتعلم ما دعاه فن "عشق الحجر للحجر". في 1920، بدأ العمل على بناء ما سماه برج النسر، وهو مكان خاص له ولزوجته، ومكان سحري لولديه. تردد على منزل روبنسون جيفرز في تلك الأيام ضيوف من الأدباء الأميركيين الكبار، مثل سنكلير لويس، ولانغستون هيوز، وشارلي شابلن، وروبرت بلاي، وتشيسواف ميوش، وإدوارد آبي. وتحول المنزل بعد وفاة روبنسون جيفرز إلى ما يشبه متحف للزوار من كل أنحاء العالم، فيه حديقة زرعت فيها ورود من مختلف الأنواع، وعرضت قطع أثرية اشتراها جيفرز، من بينها شمعدان جداري نحاسي جميل نقشت عليه عبارة "من جبل لبنان" باللغة العربية، وقطع أثرية تعود إلى قبائل السكان الأصليين.


حيث لا شيء يحدث
غير بعيد عن منزل روبنسون جيفرز، ثمة مكتبة تذكارية تحمل اسم هنري ميلر، ذلك أن هذا الروائي الأميركي العظيم، الذي لم يطق أميركا، أو ثقافتها، وعدها بلادًا تعبد النقود، وتحتقر قيم الروح، وخاض معارك طويلة فيها مع الرقابة التي منعت كتبه التي هربها قراؤه وتداولوها في ما بينهم، والذي قال مرة "إن كل ما هو أميركي سينتهي يومًا ما"، جاء كي يعيش في المنطقة، واختار لنفسه منطقة بجمال بدائي يتعانق فيها الجبل والأودية مع الوهج المترامي للمحيط الهادي. وهناك كتب مذكراته المشهورة "بيك سير وبرتقالات هيرونيموش بوش".




في 1939، غادر هنري ميلر فرنسا، وسافر إلي اليونان، حيث بقي حتى 1940، وفي 1942 جاء إلى كاليفورنيا، حيث عاش في بيفرلي جلين، وفي 1944 انتقل إلى بيك سير، حيث تزوج زوجته الثالثة، مارثا ليبسكا.

شاطئ كارمل وبيك سير على الخط نفسه


في هذه المنطقة، ألف هنري ميلر كتاب مذكراته الذي أخذ عنوانه من الفنان الهولندي من القرن الخامس عشر (هيرونيموس بوش) "حديقة المتع الأرضية"، وصدرت بعنوان "بيك سير وبرتقالات هيرونيموش بوش"، حيث ترمز البرتقالات والثمار الأخرى لمتع الفردوس. يتحدث ميلر في الكتاب عن منطقة بيك سير، ويصف سكانها، بمن فيهم الكتاب والمتصوفون، وولداه توني وفال، كما يتحدث عن فوائد العزلة والأحداث السابقة التي جرت في ماضيه.
تتميز منطقة بيك سير بجمالها الخلاب، فهي منطقة مرتفعة مطلة على المحيط الهادي، حيث للضوء روح وهاجة، كما لو أنك تشعر أن هذا الوهج يعود بك إلى بداية الخليقة.
ولقد وصف هنري ميلر هذا المكان الذي عاش فيه قائلًا:
"سماوات زرقاء صافية وجدران من الضباب تتحرك داخلة وخارجة من الأودية بأقدام لا مرئية، هضاب في الشتاء من الأخضر الزمردي، وفي الصيف جبل فوق جبل من الذهب الخالص. وهناك دومًا الصمت الذي لا يُسبر للغابة، الاتساع الهائل الملتهب للمحيط الهادي، أيام مغسولة بالشمس وليال متوهجة بالنجوم".
تتموضع الآن في بيك سير مكتبة هنري ميلر التذكارية، كما يتموضع منزل روبنسون جيفرز في كارمل، ومنزل جون شتاينبيك في ساليناس، كصروح تدل على حياة كتاب عاشوا هنا، وكان لهم ذكريات وقصص وحب وأصدقاء، وأحيوا حفلات صاخبة، وفي النهاية كان هناك ذلك السرير الذي وضعه روبنسون جيفرز قرب نافذة مطلة على المحيط، حيث قرر أن يموت فيه ومات كي يسدل الستار على حياة موارة بالإبداع والحضور.


جون شتاينبيك

صورة لجون شتاينبيك معلقة في شارع كانيري رو


كانت الأراضي الواقعة بين جبال جاليبان والمحيط الهادي تفور بالقصص التي روى بعضها جون شتاينبيك، وقيل إنه حوّل وادي ساليناس إلى "واد للعالم". حصل شتاينبيك على جائزة نوبل في 1962، وتحتوي كل أعماله على شخصيات عاشت في مونتيري. كان أول عمل روائي لفت الانتباه هو "شقة التورتيا"، التي تركز على سكان مونتيري المنحدرين من أصل إسباني. كما أنه استلهم أعماله الروائية حين عمل في المزارع التي تدعى "روايات كاليفورنيا"، وتدور أحداثها في فترة الكساد، وكان بينها "رجال وفئران"، و"عناقيد الغضب".




جمعت شتاينبيك صداقة مع عالم البيولوجيا البحرية، إيد ريكيتس، كانت الأساس لروايتيه "شارع السردين المعلب"، و"الثلاثاء العذب"، وكلتاهما تستخدم كخلفية لها صناعة تعليب المأكولات البحرية في مونتيري. افتتح متحف ومركز شتاينبيك الوطني في ساليناس كتقدير لحياته وأعماله، وينظم المتحف رحلات على الأقدام في الأماكن التي عاش فيها المؤلف. وكانت هذه المدينة حين عاش فيها شتاينبيك، الذي جاء إليها في 1930 مدينة مصانع لتعليب السردين، حيث يعيش الناس على هذه الصناعة التي انهارت في الخمسينيات، وتحولت كل هذه المنشآت إلى مقاه ومطاعم وفنادق ومحلات لبيع الأنتيكات.
حين كان في مونتيري كتب شتاينبيك كتابه المشهور "غجر الحصاد"، وهو سلسلة من سبع مقالات وثقت لحيوات العمال المهاجرين في كاليفونيا. ففي الثلاثينيات، دفعت عشرات الآلاف من العائلات من أوكلاهوما ونبراسكا وتكساس إلى كاليفورنيا، في ما يدعى بالثلاثينيات القذرة، أو "قصعة الغبار"، وهي مدة الجفاف التي ضربت الولايات المتحدة، وامتدت من تكساس إلى نبراسكا. وقد فاز كتابه هذا بجائزة الكتاب الوطنية، وجائزة بوليتزر.

فقمة على شاطئ مونتيري

شاطئ أسيلومار الذي ألهم فنانين من كل أنحاء العالم

طقوس السيارات
تتذكر مدينة مونتيري وأجيالها الحديثة السيارات القديمة وتحتفي بها أكثر مما تتذكر الكتاب القدامى، كما يتجلى ذلك في معرض السيارات الكلاسيكية السنوي، وتمتلك هذه المدينة قدرة عجيبة على تحويل كل شيء إلى مصدر للدخل، حتى ذكريات الكتاب الذين عاشوا فيها، وتضفي طابعًا أسطوريًا وفنيًا على السيارات، والتي من المفترض أنها ليست أعمالًا فنية، بالمعنى الجمالي، على عكس ما حاول رولان بارت أن يثبته حين تحدث عن جماليات سيارة الستروين الفرنسية في كتابه "أساطير". وفي كل صيف في شهر آب/ أغسطس، تفتتح المدينة معرض السيارات القديمة، والتي تتسم بفخامة أرستقراطية، بحيث تبدو إلى جانبها السيارات الحديثة كأنها تنتمي إلى لحظة تكنولوجية مستنسخة سرعان ما ستحل مكانها لحظة أخرى بشكل معدني جديد. ويخيل إليك وأنت ترى السيارات القديمة من مختلف الأنواع أنك تقرأ تاريخ هذه الآلة العجيبة، التي صارت جزءًا لا يتجزأ من الحياة، بل فردًا من العائلة، حيث لها غرفتها الخاصة، كأي شخص في الأسرة. وتتنوع أشكال السيارات القديمة بتنوع ثروات أصحابها، وينتابك لوهلة شعور غريب بأن الأزمنة القديمة ما تزال موجودة، وأن سائقي هذه السيارات يأتون على طرق سريعة تصل بين عوالم متوازية، غير أن هذا التصور سرعان ما يتبخر من ذهنك وأنت في طريقك إلى "نقطة العشاق"، وهي حديقة متاخمة للبحر، يلتقي فيها العشاق والمتنزهون، وتتصاعد منها روائح الشواء، فيما تتنقل النوارس لالتقاط بقايا المأكولات، وتقف السناجب على قوائمها الخلفية كي تتلقف الطعام من أيدي السياح، الذين يبدأ قسم منهم بتسلق جرف صخري عال صار تسلقه نوعًا من الرياضة اليومية في مونتيري. وفي سفوح هذا الجرف، شاطئ رملي ترى عليه متشمسين وسباحين رغم برودة مياه المحيط، فما أن تشرق الشمس في "باسيفيك جروف" المشهورة بضبابها العجيب الذي يحجب الشمس لشهور طويلة، حتى يسرع الجميع إلى الشاطئ كي يستقبلوا الشمس في طقس جماعي.




ويتميز شاطئ مونتيري بكونه يشكل محمية لحيوانات بحرية، بينها الفقمات، والتي تأتي في أعداد غفيرة كي تتشمس على الصخور، وتبتسم بوجوهها السمحة لأصوات عدسات الكاميرات التي لا تتوقف على مدار الساعة، وكل عدسة تريد أن تلتقط ذكرى من مدينة الذكريات العابرة، والتي تتموضع على ساحل محيط تهدر جوقاته وفرقه عازفة موسيقى المد والجزر، مد الزمن وجزره على شاطئ مدينة التناقضات.

رسامة على شاطئ المدينة

 

مدينة الفن
جذبت مونتيري منذ بداية القرن العشرين عددًا كبيرًا من الرسامين بسبب جمال شاطئها الساحر، ولقد جاء إليها فنانون من كل أنحاء الولايات المتحدة، ومن كل بقاع العالم، كي يرسموا أو يلتقطوا روح الخط الشاطئي الدرامي، أو كي يؤولوا، كل منهم بطريقته الخاصة، الجمال الطبيعي للمنطقة. رسم مئات الفنانين آلاف اللوحات لهذا الشاطئ الذي لا يستقر جماله في لوحة، بل يظل يطلب مزيدًا، وهذا المزيد لا يحتويه.




وبعد زلزال سان فرانسيسكو المدمر في 1906، امتلأت مونتيري بالموسيقيين والرسامين والنحاتين الذي أسسوا ما يشبه مستعمرة فنية، وكان من أبرز الفنانين في تلك الفترة أرمين هانسين، وهو في الأساس من مواليد سان فرانسيسكو، ومن أشهر لوحاته عن شاطئ مونتيري لوحة "البحر العاصف"، وهي لوحة تصور سفينة تصارع الأمواج العاتية. ومن الفنانين الكبار، أيضًا، ماري دي نيل مورغا، المولودة في سان فرانسيسكو في 1868، وكارل أوسكار بورغ، من السويد، وهو معروف بلوحاته الطبيعية عن مونتيري، وخاصة عن شجرة السرو في المدينة، التي كانت موضوعًا أيقونيًا مفضلًا لدى الفنانين.
ومر في مونتيري، أيضًا، الفنان المولود في النمسا، فرانز بيستشوف، المعروف بلوحاته عن الحياة الساكنة في هذه المدينة. ويقود فنانون في منطقة كارمل حركة فنية نشطة من أبرز فنانيها في الوقت الحالي دينيس دوهني، وهو فنان معروف، وحاصل على جوائز، ومعظم لوحاته مستلهمة من الجمال المشهدي للمنطقة. رسم دوهني لوحات عبرت عن الجمال المهيب لمحمية بوينت لوبوس، والجمال الهادىء لأبرشية مونتيري فجرًا. كما يجب ألا ننسى أن المدينة جذبت الفنان الكبير، سلفادور دالي، الذي عاش فيها وأبدع هو وزوجته غالا سنينًا طويلة، بعد أن هربا من جحيم الحرب في أوروبا.

مرفأ مونتيري


ويبدو أن جمال المدينة المشهدي الخارق موضوع مشترك للفنانين، وهم محقون في هذا، إذ إن جمالها الواقعي مثّل تحديًا لهم، ودفعهم إلى استلهام مستويات أعلى للجمال من داخل المشهد الجميل، فأنت حين ترسم لا تنسخ ولا تصور، بل تقبض على روح الجمال الهاربة دومًا، وتأسرها في لوحتك إلى حين، أو تتوهم ذلك، إلى أن تهرب منها إلى لوحة أخرى، وهكذا هو الفن، إنه سفر عبر الأشكال والمصائر بحثًا عن اللامرئي الذي لا يتحقق أبدًا.
ويمكن القول إن المواضيع الرئيسة للفن التشكيلي المتمحور حول مونتيري لأكثر من 100 سنة هو مشاهد الشاطئ الصخري، والأمواج الصاخبة، وأشجار السرو المتموجة.
وفي تاريخ مونتيري جماليات متضاربة، بعيدة عن عوالم التجريد، مستمدة من حياة العمال والفلاحين البسطاء، كما في روايات جون شتاينبيك، والشخصيات القلقة الباحثة عن تحققها الفردي، والتي تحول اللحظة إلى فرصة لاقتناص الفرح العابر، كما لدى هنري ميلر، وجماليات الشخصيات الشعرية الملحمية المعادية للحرب، التي دفعتها الحرب إلى الكفر بالإنسان، مفضلة جمال الطبيعة على الجمال البشري القابل للتوظيف، كما لدى روبنسون جيفرز، وهنالك الشخصيات التي تدير التجارة في المدينة التي تعيش على الاستثمار في العقارات والأنتيكات والسيارات القديمة، فيما يوظف أبناؤها أموالهم في سوق البورصة، التي تعلو أسهمها وتنخفض خاطفة الأنفاس، محولة فقير أمس إلى غني اليوم، وغني اليوم إلى فقير غد، في مدّ من التحولات التي تصنع أميركا التي تقود قطار الحداثة جارة خلفها المقصورات الأوروبية على سكة الطريق السريع للمجهول.


* الصور بعدسة الكاتب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.