}

من "أرض السلحفاة" إلى غزة: حين يكون التضامن كونيًا

أسامة إسبر أسامة إسبر 30 ديسمبر 2023
تغطيات من "أرض السلحفاة" إلى غزة: حين يكون التضامن كونيًا
الشاعر الكندي ديفيد جرولكس
لعلّ أكبر مأساة في التاريخ الحديث هي ما حدث للسكان الأصليين في كندا، وفي دول أخرى تقعُ داخل ما يُدعى بالعالم الجديد، فقد أُبيد معظمهم بشكل ممنهج، وقُلّد الذين ارتكبوا جرائم الإبادة الجماعية الأوسمة كأبطال وفاتحين، ومُجّدوا في سرديات وطنية وقومية وأيديولوجية زيّفت الحقيقة وصادرتْها لصالح خطاب القوة. من تبقوا من السكان الأصليين، كما هو معروف، هُجّروا من أراضيهم، وتم الزجّ بهم في مناطق خاصة معزولة تُدعى المحميات. وحدثت عملية تربوية ممنهجة لاقتلاعهم من جذورهم ثقافيًا عبر فرض التعليم الاستعماري عليهم، حرّكها دافعٌ ديني لنشر ديانة الفاتحين في العالم الجديد. أُحرقت مخطوطات الشعوب الأصلية وكتبها، وكل ما يمت بصلة إلى ثقافتها، وفُرضت عليها لغات المستعمر وطقوسه الدينية عن طريق كهنة متعصبين فاقوا القادة العسكريين إجرامًا بتبريرهم للجريمة، وفي قتلهم للكتب، كأنها أجساد بشرية، وقطع أعناقها ورميها في النار. لا يتّسع المجال هنا للاستفاضة في الحديث عن تاريخ دموي أسود لا تزال آثاره بادية حتى الآن، وعبّر عنه شعراء وروائيون وكتاب كبار ينحدرون من السكان الأصليين، يكتبون بالإنكليزية، لكنهم يشحنونها بأساطيرهم ونظرتهم للعالم، وتنبض بين سطورهم إيقاعات ثقافاتهم القديمة التي لم تمت إنما انبعثت في إنكليزية داخل الإنكليزية أعادت صياغتها وحررتها من الداخل بالمعنى الأدبي.
لم تكن حضارات الأمم الأصلية جاهلة، أو غير متحضرة وأمية، كما وصفها المؤرخون الرسميون المصاحبون للفاتحين كي يشيطنوها ويبرروا إبادتها كما يفعل الاستعمار دومًا. ألا يذكّر نعت سكان غزة بالحيوانات بهذا السياق الاستعماري الطويل وقاموسه الذي لا يتغير؟ إلا أن السرديات الكاذبة سرعان ما تتهاوى حين ينبري باحثون نزيهون وموضوعيون لرواية القصة الحقيقية عن طريق إعادة قراءة هذا التاريخ، فقد بيّنوا لنا أن تقنية صناعة الكتاب، على سبيل المثال، ازدهرت في أميركا قبل وصول كولومبوس بألف سنة. وحين فتح هرنان كورتيز المكسيك بدأت عملية حرق منظمة ومدروسة لمخطوطات وكتب المايا، وحدثت عملية إبادة جماعية ضد الكتب والثقافات المحلية. من أجل مزيد من المعلومات حول هذا الموضوع يُمكن العودة إلى كتاب "المكتبة، تاريخ مضطرب" الصادر مؤخرًا بالإنكليزية للباحث الأميركي ماثيو باتلز.
كان الاستعمار الاستيطاني لا يعرف الرحمة، وجلب الفاتحون معهم أمراض العالم القديم الأوروبي وأوبئته إلى العالم الجديد. وشُنت حرب إبادة لا ترحم ارتكبتها جيوش الجراثيم والأوبئة الأوروبية، إلى جانب الجيوش العسكرية. يقول الصحافي والكاتب الأميركي الحاصل على جائزة بوليتزر، كريس هيدجيز، في مقالة نشرها مؤخرًا بعنوان "موت إسرائيل": إن الدول الاستعمارية الاستيطانية التي استمرت، وبينها الولايات المتحدة، أبادت معظم سكانها الأصليين عن طريق الأمراض والعنف. وقتلت أوبئة العالم القديم التي أحضرها المستعمرون إلى الأميركيتين، كالجدري، ما يُقدر بستة وخمسين مليونًا من السكان الأصليين على مدى مئة عام في جنوب ووسط وشمال أميركا. وفي عام 1600 بقي أقل من عشر السكان الأصليين.
أنجبت هذه المآسي التاريخية شعراء كبارًا في الولايات المتحدة، وكندا، وأميركا اللاتينية، ينحدرون من الأمم الأصلية. ويمكن القول إن هنالك نتاجًا شعريًا عظيمًا باللغتين الإنكليزية والإسبانية، وفي بعض اللغات المحلية التي صمدت في العالم الجديد. وولّدتْ التجربة المريرة للاستعمار الاستيطاني وويلاته وعيًا متجاوزًا للحدود القومية عبّر عن نفسه في قصائد وروايات ومسرحيات وأفلام سينمائية عزفتْ على وتر التجربة المشتركة. وفي سياق هذا التوجه، ألّف الشاعر الكندي المنحدر من السكان الأصليين، ديفيد جرولكس، ديوانًا صدر بعنوان "من جزيرة السلحفاة إلى غزة"، استند إلى وعي تاريخي قاده إلى الاطلاع على تجارب الشعوب الأخرى، وخاصة الشعب الفلسطيني، ودفعه إلى إعلان تضامنه مع غزة من خلال قصائد عميقة وجهها إلى شعراء فلسطينيين.




أما جزيرة السلحفاة، تيرتل لاند، فهو اسم الأرض، أو اسم أميركا الشمالية لدى السكان الأصليين. ويأتي الاسم من قصة الخلق الشائعة بين كثير من السكان الأصليين في كندا، وأميركا الشمالية. ويؤمن شعب لينابي أنه قبل الخلق لم يكن هنالك أي شيء سوى فضاء مظلم أسود، وفي هذا الفراغ انوجدت روح الخالق كيشيلاماكانك، ونام الخالق في ذلك الفراغ، وأثناء نومه حلم بالعالم كما نعرفه الآن، بالأرض وجبالها وغاباتها وحيواناتها. حلم أيضًا بالإنسان، وشاهد الطقوس التي سيؤديها. ثم استيقظ من حلمه على العدم نفسه الذي كان يعيش فيه من قبل، وبدأ بخلق الأرض كما حلم بها، ثم توالت القصة حتى اكتمل خلق العالم. وفي سلسلة من القصائد القصيرة العميقة والغنائية، يتغلغل شعر ديفيد جرولكس في العوالم المشتركة للسكان الأصليين في غزة وللسكان الأصليين في كندا، مشيرًا إلى أن صغر حجم فلسطين هو الذي منع دولة إسرائيل الاستيطانية من حجز الفلسطينيين في محميات كي يكرروا تجربة أخوتهم السكان الأصليين في كندا. يقول الشاعر في قصيدة موجهة إلى سلمى الخضراء الجيوسي:
يا سلمى،
لو كانت فلسطين بحجم كندا
لزجّوا بكم في محميات
عميقًا، وبعيدًا بين الأدغال
كي لا يضطروا لرؤيتكم
أو رؤية أطفالكم وهم ينتحرون
ففي النهاية هم سمر.
سيتركونكم تموتون
وسط القذارة والفقر
دون ماء نظيف للشرب أو الاستحمام
ثم سيقولون: لا تنظروا إلى أولئك الفلسطينيين القذرين.
الأرض التي وهبها الله لكم
الأرض التي وهبها الله لنا
يقولون إن الله وعدهم بها
كما لو أن الله كتبٌ ورصاص فحسب.
يروي الشاعر ديفيد جرولكس في مقدمة الديوان أنه بدأ بتأليف ديوانه في 2016، لكن الفكرة خطرت له قبل ذلك بسنوات. وكان مرة في أمسية شعرية يلقي الشعر للجمهور في مدينة تورنتو من ديوانه "جمال مُتعب". وفي إحدى القصائد التي تحمل عنوان "توسيع الطريق السريع إلى المحمية"، وردت هذه السطور:
والآن تصبح هذه الأرض
فلسطيننا
بعد أن تحطم جذعها وأعضاؤها
بسبب هذا الإعدام الذي استمرّ طويلًا.
بعد القراءة، انضم إليه فلسطيني متقدم في العمر كي يدخن معه في الخارج، وقال له إنه أحبّ هذه القصيدة كثيرًا. أضاف أن حديثًا قصيرًا بينهما كان كافيًا كي يفهما أنهما تعرضا لعملية الإعدام نفسها التي استمرت طويلًا، وأن المسافة والدين والتعليم لم يستطيعوا أن يحطموا ما هو مشترك بينهما.



أضاف الشاعر الكندي الذي ينحدر من ناحية الأم من شعب الأوجيبوي الأصلي، ومن أب كندي من أصل فرنسي، أن الاستعمار تجربة مشتركة، وأنه كان دومًا يعرف ذلك، وأن السكان الأصليين في "أرض السلحفاة" ـ تيرتل لاند ـ لم يكونوا الوحيدين الذين عانوا من هذا الإعدام الذي استمر طويلًا. قرر أن يجعل ما جرّبه شعبه والشعب الفلسطيني معروفًا للعالم، منطلقًا من إيمانه بأن مشاركة القصص أكثر قوة من القنابل والرصاص، أو الدين.
معظم قصائد الديوان موجهة إلى الشعراء الفلسطينيين: محمود درويش، ومريد البرغوثي، وسهير حماد، وراشد حسين، وسلمى الخضراء الجيوسي، وسميح القاسم، وأنطون شماس، وفدوى طوقان، وإبراهيم طوقان.
وينطلق الشاعر من فكرة أن الشعر على المستوى العميق رسالة للتضامن بين الشعوب التي تستمد العزاء من معرفة أنها ليست وحدها تحت نير الاستعمار الاستيطاني. ويعبّر الديوان عن تجربة اقتلاع مشتركة ذاق ويلاتها الفلسطينيون والسكان الأصليون في كندا، يقول الشاعر في قصيدة موجهة إلى أنطون شماس:
فُرض عليَّ
أن أغادر أرضي
كما أُجبرت على الرحيل من أرضك
يا أنطون شماس
ربما نستطيع أن نغادر معًا
كملكين مقدسين.
يضيف في قصيدة أخرى:
أصبحنا غرباء 
نكرات
أجانب
مجهولين في أرضنا
أصبحنا آخرَ.
وفي قصيدة موجهة إلى سميح القاسم تعبّر عن قوة الانتماء إلى الأرض، يقول:
يا سميح
هذه التربة مقدسة
كالماء.
أرضي مقدسة
أيضًا
ولا يمكن
أن يبتروني عنها.
يرى ديفيد جرولكس في حوارٍ أُجْري معه أن الشعر يسبق الأدب والشكل الفني المكتوب. كان الشعر فيما مضى صوتًا إيقاعيًا قبل أن يولد الشكل الأدبي، وكان سابقًا للتاريخ، وهذا يمكّنه من أن يصل إلى الكون كله، ويعبر الزمن. أضاف أنه يريد أن يخطف الشعر من الأكاديميين الذين يقومون بقتله في مخابرهم الجامعية ويعيده إلى أصحابه الحقيقيين حيث يكون مفيدًا ونافعًا.




يؤمن ديفيد جرولكس أن الشاعر يجب أن يكون شاهدًا في شعره على الحياة التي حوله، وعلى ما يتنفس ويتعرق وينزف في بلاده، لأن الحياة متوحشة، ولا نظام فيها، ولها طريقتها الخاصة التي لا نستطيع فهمها. لهذا يجب أن يكون للشعر معنى وهدف داخل وحشية الحياة. وكشاعر يعيش في كندا يشعر دومًا أن عليه أن يقاتل ضد العنصرية والصور النمطية التي تشوه الآخر.
اشترى ديفيد جرولكس في إحدى المرات ديوان محمود درويش "أثر الفراشة"، لأنه أراد دومًا أن يستقصي الصلة بين ما واجهه السكان الأصليون في كندا وفي العالم الثالث، لأن الشعوب عاشت الأوضاع نفسها. فالتجربة نفسها تتكرر حين يحتل أحد ما أرضك ولهذا يكتسب التضامن العابر للحدود أهمية استثنائية، وهذا ما دفع الشاعر لتأليف ديوان "من أرض السلحفاة إلى غزة"، مطورًا وعيًا ينقل التضامن من إطاره المحلي، ويوسّعه كي يتخذ طابعًا كونيًا. وهكذا يكون النضال ضد الظلم والاستعمار والسياسات الاستيطانية في مكان واحد نضالًا ضدها في الأمكنة كلها. كما أن الشاعر، كي يكون شاعرًا حقيقيًا، يجب أن تكون له قراءته الخاصة للشعر وتاريخه وللتقاليد الشعرية المهيمنة، وأن يخرج من هذا كله باحثًا عن صوته الخاص الخالق لعوالمه الشعرية. ولهذا يحرر جرولكس نفسه من التقاليد الأدبية الغربية، ويتخذ موقفًا نقديًا منها، ويبحث في تراث شعبه الشفوي والمدوّن عما يلهمه. وحين سئل عن المؤثرات الأدبية في شعره لم يقل إنه تأثر بشعر الغربيين، وخاصة الشعر الذي يولد في مطابخ الجامعات والمنح الأدبية، لأنه شعر منعزل عن الحياة، ويعيش في عالم اغترابه الأكاديمي.



إن ما يجعل الشعر شعرًا في النهاية هو أنه يعبّر عن قصة الشاعر الخاصة بلغته الخاصة وصوته المتفرد، ضمن سياق واقع لا يخضع فيه المرء لرواية واحدة تحقن بها السلطة ذهنه بما تروّج له كحقيقة. ويروي الشاعر أنه حين كان طفلًا كانت هنالك نسختان عن القصة نفسها، النسخة الكندية والفرنسية، والنسخة الخاصة بالسكان الأصليين. وكانت القصة الرسمية تعمل بشكل منظم على محو القصة الحقيقية. وحين ذهب الشاعر إلى المدرسة، مدرسة الاستعمار الاستيطاني، لم يسمع القصة الحقيقية، لم يسمع إلا القصة الكاذبة المفبركة، ولهذا قرر أن ينطلق كي يرويها لنفسه، كي ينقب عنها وراء حجاب الخطابات الرسمية، ولهذا فإن البحث عن التجارب المشتركة، كتجربة الفلسطينيين في غزة، تولّد وعيًا كونيًا جديدًا، وروحًا تضامنية متجاوزة للحدود تشدّ من أزر المناضلين ضد الاستعمار الاستيطاني وتلهمهم على امتداد الجغرافية العالمية، كي يعملوا معًا خاصة حين يتوحش المستعمرون كي يرسخوا احتلالهم للأرض بإبادة سكانها وتهجيرهم، وعبّر الشاعر عن هذا بعمق حين قال في قصيدة موجهة إلى محمود درويش:
يا محمود،
سيستعمل هؤلاء البشر أي شيء
كي يستولوا على أرضنا:
المدافع والقنابل والسيوف، لكنهم
سيستعملون أكثر من هذا كله:
كلمات الله المحرّفة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.