}

عن المدرسة والتنشئة: مقاعد بروكرست؟

فدوى العبود فدوى العبود 20 مارس 2024
اجتماع عن المدرسة والتنشئة: مقاعد بروكرست؟
(علي شري)

يعثرُ القارئ في أغلب النصوص الروائيّة على صورة كابوسيّة للمدرسة، بل إنّ المظهر القاتم للبناء المدرسيّ بجدرانه الباهتة وصفوفه المعتِمة، يجعل التساؤل حول هذه النظرة التي تتكرر في أغلب الأعمال الأدبيّة -بوعي أو بدونه- مشروعـًا. خصوصًا إذا ما عرفنا أن أغلب المبدعين أخفقوا في التعامل مع هذه المؤسسة، بل إن القطيعة الإبستمولوجيّة والانعطافات المعرفيّة الكبرى في التاريخ أتت من خارجها، وقامت على تحطيم النسق المعرفي السائد أو غيّرت تاريخ العلم والفلسفة؛ إضافة لأهميـّة هذه المرحلة من حياتنا ودورها في نمو ملكاتنا الذهنيّة والنفسيّة وفي تعزيز الثقة بالذات، أو بالعكس: إحباطها وتشوّهها.

ومع أن منظرّي علم الاجتماع - وعلى غرار مربـّي النحل- يعتقدون أن القول حول هذه المؤسسة (التي ينقل فيها العقل الجمعي خبراته ومهاراته وفهمه للحياة للأجيال اللاحقة) مقتصر عليهم؛ إلا أنهم يخضَعون لآليات الهيمنة ذاتها التي تعمل وفق السائد وترفض المختلف، كما يحمل كل منّا ذكرى غير سعيدة، لتلك المرحلة وهي بالمجمل: حدثٌ مُحبط. وغالبًا يرتبط هذا الحدث بالسخرية من موقف أو سؤال طرحناه ببراءة ثبت لاحقًا أنـّه كان يشكل تهديدًا للمسلّمات المتعارف عليها.

وينبني النسق التعليميّ عمومًا إما من مسلمات هذا العقل الجمعي والتي لا يمكن الخروج عليها باعتبار أن واضعيها ينتمون لهذا السائد، أو وفق القواعد العامة المستمدة من علم النفس الذي يحدد سمات الذات الإنسانية حسب مسطرةٍ واحدة وعلى قياسٍ موحد.

وقبل أن نقرأ الكتاب المهم لـ جان جاك روسو حول أساليب التربية وفكرته عن العواقب الوخيمة لمصادرة الحرية: "إميل"؛ تعلمنا من خلال تجربتنا أن النظام التعليمي يقوم على الضدّ من فطرتنا، وأن التفكير النقدي والشك وإثارة الأسئلة قد تجلب الاستهجان على صاحبها من أساتذته قبل زملائه. والاختلاف قد يهدد صاحبه بالنبذ، كما أن التعليم عبر التلقين والاستظهار وظيفته تعطيل ملكات التفكير الحرة، وبناء المعرفة لصالح المسلمات المبنية سلطويـــًا، بل إن الفن والأدب ووسائل الإعلام تشارك في تعزيز هذا التوجّه.

وعبر تجريم كل ما يهدد البنيّة المعرفيّة المستقرة، يتبلّد العقل، وينشأ فرد مهزوم منفصل عن واقعه الإنساني والتاريخي. مؤمن بلا فاعليته أو على العكس متمرد ورافض دون أي مشروع فيتحوّل الشك إلى نار تحرق ولا تضيء.

وفي التعليم التقليديّ، لا يمكن تخيل صورة المدرس دون عصا، حيث الطرق البدائية من الحفظ والاستظهار، ويتقاطع فضاء المدرسة بأسواره البالية والعتيقة مع فضاءات السجون والثكنات. ومع أن العالم الحديث استبدل الطرق القديمة بجيش من المرشدين النفسيين، لكن هؤلاء على قناعة بأن البشرية مريضة. وأي اختلاف يجب مداواته حالًا كي لا يشذّ عن الخطوط التي رسمها لهم علم النفس الصناعي. حيث تقصُّ الأجنحة الزائدة ويعود العقل إلى وظيفته المثالية في السيطرة والتحكم.

وبالعودة إلى الأدب وفي سيرته "تقرير إلى غريكو" فإن الصورة التي يرسمها نيكوس كازانتزاكيس لأساتذته تؤكد هذا المنحى، وتعرض معاناة التلاميذ في الحصص بينما "أفكارنا كانت هناك خارجًا في الشمس". وتشكل هذه المنظومة المكان المثالي لوأد السؤال وحرية الفكر، فلا يتذكر سوى أستاذ التاريخ وهو يصرخ: "كم مرة قلت لكم يجب ألا تتكلموا". وكنا نجيب بصوت واحد: "لكننا لا نفهم يا سيدي"، ويقول: "هذه أفعال الله، وليس من المفترض أن تفهموها، فهذه خطيئة"... ولم يحظ الكاتب اليوناني الأبرز بأي ذكريات سعيدة عن هذه المرحلة بل وصفها بطريقة محبطة وسوداوية.

ويذهب فرانز كافكا في روايته "القصر" بعيدًا في اللوحة السرياليّة التي رسمها للمكان، بحيث يختار أن يعمل بطله خادمًا مؤقتًّا للمدرسة في انتظار أن يأتي قبوله من القصر كمسَّاحٍ للأراضي. فالمدرسة هي هذا البناء الطويل المنخفض والذي يجمع على نحو عجيب بين صفة البناء المؤقت والبناء القديم العتيق؛ كما يصف بلادة المعلمة وعنفها وقذارة الصف المدرسي وآلات التربية البدنية التي تزيّن الحجرات المدرسية كإشارة لضمور المعرفة.

إن الغرابة التي اتـّسمت بها هذه الصورة حيث نجد على طاولة التعليم بقايا القهوة وزيت السردين، لا تقل عن غرائبيّة تبديل البطل لثيابه في غرفة الصف تحت أنظار التلاميذ الذين يصلون مبكرين؛ ما يذكرنا بافتتاحية رواية "المحاكمة" التي يستيقظ بطلها ليجد محققين يقفان فوق سريره وهو بثياب النوم الخاصة أيضًا. هذه الرمزية عند كافكا، التي تهدف لإظهار أساليب انتهاك الحياة الخاصة والداخلية للفرد، تشير في رواية "القصر" إلى ضياع الاستقلالية، بحيث تتحوّل المدرسة إلى مكان عجائبي يقتل الفرديّة التي كان يفترض به أن ينميّها.

إن الفروق الذاتيّة بين الأفراد في مواهبهم واختلافاتهم تُلغى لصالح النظام والقواعد العامة وفضيلة التشابه، مراعاة لاعتبارات ليس أولها الواقع السياسي ولا آخرها سوق العمل في النظم الحديثة المبرمجة وفقًا لحاجات الاستهلاك. والتنميط هنا يتم على مستوى أخطر تحدث عنه ماركيوز في مؤلفه المهم "الإنسان ذو البعد الواحد". كما أن انفصال المدرسة عن الحياة يظهر حين نقف وجهًا لوجه مع أفكارنا الزائفة وغير الواقعية عن الحياة وندرك الفجوة بين المنطق الذي درسناه وبين تدفقها. بين التاريخ الذي درسناه في الكتب - والذي وصف نيكوس الناس في حكاياته بأنهم "يعبرون البحر دون أن تبتلّ أقدامهم"- وبين التاريخ الحقيقي.

إن النظم التعليمية بمعظمها تصنع منّا نماذج متشابهة، ما يذكّرنا بأسطورة الحدّاد اليوناني الذي يدعى بروكرست، والذي كان يدعو الناس إلى المبيت عنده؛ ثم يضعهم على سرير في بيته، فمن زاد طوله عن السرير بترَ الزائد منه، ومن كان أقصر مدّ أطرافه حتى تتمزق. والشخص الوحيد الذي ينجو منه هو الذي يناسب مقاس جسمه مقاس السرير.

وهذه النظرة لا تخصّ المدرسة في البلدان المتأخرة والتي تبرع في قتل الفرادة والابتكار، بل تنطبق على العالم المتقدم؛ والذي ينجح في تخريج دفعات من الطيور وهي وإن كانت بأجنحة لكن بلون واحد، كما أنها تحلق بطريقةٍ واحدة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.