}

حيُّ الدَّرَج: أوابدُ التاريخ تعانقُ مستقبلَ المَجْد

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 1 يونيو 2024
أمكنة حيُّ الدَّرَج: أوابدُ التاريخ تعانقُ مستقبلَ المَجْد
حقد صهيوني يستهدف منارات التاريخ
من تحت ركام العدوان الصهيونيّ الذي طاولَ في غزّة كلَّ شيء، ينهض كامل عجّور لِيعيد لِحي الدرج الغزّي أوردة الحياة، مفتتحًا مخبزَه من جديد، فالناس في الحي الكنعانيّ الأَقْدم من بين باقي أحياء غزّة وَحاراتها، لا يغادرون بيوتهم المطّعمة بعراقةٍ لا تخطئها عينٌ صافيةٌ المحادِق، بل ينهضون، في كلِّ مرّةٍ، من الموت، رائينَ أن القتل الموسوم بالغدرِ والجُبْن لا يمكن أن يصيبهم في مقتل.
بحدبٍ على أهل حيّه يشعل العجّوري نار الفرن، وبحدبٍ يوزّع الخبز والقِرْشلة وَباقي مخبوزات فرنه العريق، استلام ثمن ما يبيع آخر همّه، المهم أن يستعيد الناس في غزّة وَما حولها يوميّات ما قبل العدوان الآثِم، وأن يفعلوا ما كانوا يفعلونه كل صباح نَضير، يؤمّنون خبزَهم كفافَ يومهِم، يشترون الحمّص والفُول والفَلافل من مطعم "حارتنا" لصاحبهِ (أبو حسين ضبّان)، أو من مطعم "الصفدي"، أو مطعم الجسر، أو من غيرِهم، فالدُّقّة في البيت تنتظر، وكذا مخلّلات الحَداقةِ الطازجة، واللمّة العائليّة الصامدة الباقية رغم كل القتل والقهْرِ والتّدمير، جاهزة لأنْ تقول كلمتها في كيفَ تنتصرُ الحياةُ على الموت، وتُناطح الكفُّ المِخْرَز.
على ما تقدّم، وَبِأكثر منه وَأندى وَأوفى، لا يُعَدُّ حي الدّرج في قلب المدينة القديمة وسط غزّة، استثناء، فالإباءُ هو سِمَةُ أهل القطاع جميعهم، بمدنهِم وأحيائِهم ومخيماتِهم، وهُو، كما باقي أحياء غزة، وَباقي محافظات القطاع، يملك تلك القدرة المدهشة على التجاوُز، وكلّما أمعنَ المجرمون في القتل، أمعنَ الغزّيون في الصمودِ والتمسّكِ بِما تبقى لهم فوق أرض أجدادهم، فَبلادهم جميلة، وإِعْمارها لن يأخذ منهم طرفةَ عينٍ دامعةً بِالمعاني وَالمعالي والشّجن.
حيُّ الدّرج هنا هو شاهدٌ أوّل على جذور غزّة التاريخية التي تُعَدُّ من أقدم مدن العالم، وأسّسها الكنعانيون قُرابة الألفِ الثالثة قبلَ الميلاد.

أدراج بني عامر...

على شاكلةِ أدراجِ العاصمة الأردنية عمّان، تنتشر الأدراجُ في حيِّ الدرج، وتتوزّع معظم مناطقِهِ وشوارعِه، فالحيّ يشكّل جزءًا رئيسيًا من التلِّ القديم الذي كان كلّه غزّة، أو الذي كانت غزّة هو فقط. التل الذي بعده الوادي (وادي غزّة). أمّا أهمُّ أدراجهِ فلعلّها درجاتُ ساقيةِ "الرّفاعية" الموجودة فيه منذ أيام العثمانيين، والواقعةُ في الجزء الشرقي منه. أمّا قصة أن تسميته بحيّ الدّرج تعود لمظهره وكأنّ المتّجه إليه يصعد إلى درج، أو يبدو للناظر إليه من بعيدٍ كالسّلم، فهي الرواية الأضعف، قياسًا مع رفاعيّة الاسم وسُقيا الماء فيه.
اسمه الأقدم الذي سبق التسمية العثمانية هو "حي بني عامر"، نسبة لقبيلة بني عامر العربية التي سكنته مع بداية الفتح الإسلامي.
لاحقًا، وفي العصر المملوكي، وحتى بداية العصر العثماني، كان يطلق عليه "حي البرْجلية" نسبةً لِأولئك الذين كانوا يدافعون عن الأبراج الموجودة بالقربِ من سور المدينة الشرقي، وآثروا، بالتالي، الإقامة في الحيّ، حيث الأبْراج التي كُلِّفوا بِالدفاع عنها.
وَلو أراد أحدهم أن يطلق على "الدرج" اسم حيّ الفواخير ما لامَه أحد، فصنّاع الفخّار لهم في الحيّ مكان (حارة الفواخير غربي الحي)، ولهم فيه مكانةٌ تاريخيةٌ وجماليّةٌ ووظيفيّة، وهم هناك ورِثوا تلك المهنة كابرًا عن كابر، وحتى يومنا هذا يصنعون الفخّاريات، وإنْ لاستخدامات قد تختلف عن استخدام الفخّار أيّام زمان. على كل حال، حتى وإن تغيّرت استخدامات الأواني الفخّارية، وقلّت وتناقصَت، فإن الزبْديّة الفخّارية لِعيون السَلَطة الغزّاوية بِالفلفل باقية ما بقيت حارة الفواخير، وإن كنتم في شكٍّ من ادّعائي فاسألوا أولاد الحاج محمود عطا الله، صاحب أقدم مصنع فخّاريات في حي الدّرج، خصوصًا ابنه عيسى، الذي يتولّى هذه الأيام شؤون المصنع ومُنتجاته.
على كل حال، لم يحذِف أهل الحي اسم (بني عامر) من قاموس تسمياتِه نهائيًا، فحتى يومنا هذا هنالك منطقة في الحيّ اسمها منطقة بني عامر، ويسكنها، بخاصّةٍ، أبناءُ حَمولة الغُصيْن.
ولأن الشباب هم روح غزّة كلّها، فقد بادر متطوّعون شباب من أبناء الحيِّ لتلوينِ معظم أدراجِ بني عامر، خصوصًا الدرج المؤدي لمسجد السيد هاشم، بعد صيانته في عام 2021، وكذلك تلوين بعض جدران بيوتهِ القديمةِ العريقة بألوانٍ تضجّ بالحياة والفَرح.

يوميّات دَرَجيّة

وَهيب، الفتى الشُّجاع، يصعد شجرة السّدرة (شجرة معمّرة تتوسط الحي، ويقال إن عمرها ألف عام، وتسمّى، أيضًا، شجرة التمّير، أو النَّبَك)، يصعدها في موسم إثمارِها واشْتداد الجوع في أمعاءِ أطفال الحيِّ وكلّ غزّة، يبدأ بِجدِّ الثّمر (ثمر التمّير) وإلقائِهِ نحوَ الأفواهِ الجائعة، يبدأ الصغار بالتّراكض والْتقاط ما جادتْ بهِ شجرة أجدادِهم المَبْروكة التي يقال إنها عصيّة على القطع، أو الإزالة (شأْن غزّة وأهلها أجمعين). وهيب يقطفُ ويُطعم، والأطفالُ يأكلونَ ويمرحونَ ويواصلونَ المُناداة عليه (وهيب... يا وهيب إلينا بالتمّير... فتمّير سِدرتنا غير)... يا الله كيف أخذتَ أحلى ما في اسمك يا ولدي من نصيب: وهيب من الوهْب والعطاء؛ وهيب الذي وهَبَ نفسَه لإسعاد أهل حيّه رغم أنّه ليس أشبعَهم، ولا أملأهُم بَطْنا.
في العودة إلى الشجرة التي صار لها دوّار يحمل اسمها "دوار السّدرة"، وشارعٌ يحمل اسمها "شارع السّدرة"، فقد نسج أهل حي الدرج، وكلّ غزة، قصصًا وحكايات حول رسوخِ جذورِها...




وحين سلّموا أنها باقيةٌ ضاربةٌ جذورَها بعيدًا وعميقًا في أرض الحيّ، أحاطوها بدوارٍ وتركوها تعانق سماء غزّة وعنفوانَها المستحيل... واحدةٌ من قصص الشجرة أن الشيخ محمد بن محي الدين الخرّوبي مدفونٌ تحتها، وهُو بحسب هذه الحكاية المتداولةِ بين أهالي حي الدرج رجلٌ صالح، والشّجرة، بالتالي، تحفظ مَقام وجودِهِ تحتَها، وربّما تمْنحه جذورُها وجودًا متجددًا يمتدُّ في الزمان والمكان... كما أن الدرجيينَ (نسبة إلى حي الدّرج) يتبرّكون بها ويسْتخدمون وَرَقَها لِلعلاج.
وخلالَ يوميّات الحيِّ ومرورِنا به، يلجُ الرّاغب معرض العشّي (ألو)... يقف هنيهةً أمام ورشةِ هنيّة... يعاينُ المعروض في محلات الحاج أبو حسن السنْداوي من الماركات العالمية، فقد سمع من أصدقائه أنها تبيع أرقى الملابس الأوروبية والماركات العالمية والأحذية والألعاب والشُّنط والشراشِف... وأنها تَعِدُ كلَّ يوم بِجديد. يملأُ وجهَهُ الأَسى، فالعدوان الحاقد أفقدَ الناسَ القُدْرَةَ على الشراء والرَّغبة به. يواصلُ سيرَه فيقرأُ المكتوبَ على السُّور المُحاذي لأحدِ أدْراج الحي: "متطوّعون بلا حدود"... وقُربها عبارةُ "بيتكم عامر"... وبعدَها شِعار بلدية غزّة مطبوعًا فوق السّور.
تُدهشه الشبابيكُ المقوّسةُ والمحمولةُ جنباتُها بأعمدةٍ حجريةٍ جميلة، المحميّةُ بحديدٍ بهيّ التفاصيل... يحتار هل يتناول غداءَه في مطعم "اخليّل 1"، أم "اخليّل 2"، أم يذهبْ من فورهِ إلى مطعم "الشيخ إخوان" في منطقة زهرة الجبل خلف مَنجره العشّي؟...
لا أحد يعرف على وجه التحديد هل زائر الحيّ هذا عاشقٌ، أم باحثٌ عن صورتهِ في مرآة الوطن؟
يواصل المسير، فشوارع الحيّ القديم ضيّقة، حتى الوسيعُ منها، فهو يغصّ بِالفوضى والحياةِ والبَشَر، وبالتالي فإن المسيرَ يسيرٌ، وهُو أوْفى للتملّي من أمجادِ الحيِّ وتاريخهِ الضاربةُ جذورُهُ في أرض المكان؛ يصل سوق الزاوية الشعبية، يحاولُ أن يرصدَ أيَّ تطويرٍ فيها، فهو قد سمع عن نيّة لجنةِ الحيِّ تطويرَها، حيث دَعَت في مطالع 2023، ولغايات هذا التطوير، أبناءَ الحيِّ إلى لقاءٍ تشاوريٍّ في "مركز هولست الثقافي" الكائن في ساحة الشوّا... يبدو أن العدوان يرصد كلَّ محاولةِ نُهوض، وكلَّ مَساعي تطوير... يبتسمُ من شدّة جهلِ العدوِّ الصهيونيّ بطبائعِ الناس هنا، فهم إن قالوا إننا سنطوّر فهم حتمًا سيفعلونَ وإنْ بَعْدَ حين... وَكما قال المثل: "من يضحك أخيرًا يضحك كثيرا"... يَدَعُ السوقَّ لتطلّعاتِ أهلها، ويصعدُ شمالًا باتجاه سوق "القيسارية"، أو "سوق الذهب"، يفكّر أن يَلِجَ محلاتهِ الأربعةِ والأرْبعين كلّها، فَطالما أن الجيبَ فارغٌ فلا خشيةَ أن يُغريه الّلمعان... يتأمّل العمارة المملوكية الطالعة من تصميم السوق بممرّهِا الضيّق المُغطى بسقفٍ مُقَبَّب، وعلى جانبيهِ محلاتُهُ بهندسِتها المميّزة على شكلِ غرفٍ صغيرةٍ ملْفوفة.

 جامع السيد هاشم 

لماذا لم يمرّ على المسجد العمريّ لصقَ الجدار الجنوبيّ لِسوق الذهب؟ لأنه، على ما يبدو، ما عاد يطيق مشاهد الدمار التي تقصّد العدوان أن يخصّ فيها، على وجه الخصوص، الآثار والحواضر الدرجيّة والغزيّة، وفي كل أرجاء القطاع، الأكثر عراقة وقِدَمًا ومعنى في وجدان الناس هناك.
في حارة السيد هاشم، حاولَ أن يتحاشى النظر إلى التدمير الجزئيّ الذي تعرّض له مسجد السيد هاشم، كان قد قطع مسافة كيلومتر تفصلُ المسجديْن: هاشم والعمري عن بعضهما، فآثرَ أن يستريح قليلًا تحت قِباب رُدهات المسجد المملوكيّ العريق... أخذتهُ ذاكرتُه إلى ما طالَعه حولَ دمارٍ سابقٍ تعرّض له المسجدان جَراء استهدافٍ من مدفعيةٍ بريطانية إبّان الحرب العالمية الأولى، تساءَل: هل يريدوننا أن نتّهمهم بالكراهية لِديننا ورموزِهِ وتجلّياته؟ هل يُعقل هذا في أزمان يفترض أن الحروب القائمة على الدافعية الدينية ولّت وأصبحت من قصص الماضي؟؟ كاد أن يتراجع عن أسئلته الحيْرى تلك حين تذكّر أنّ الصهاينة تعمّدوا تدمير كنيسة جباليا بالكامل، وتدمير كنيسة حي الزيتون بشكل جزئي، فهذه الحقائق زادت من فرضيّته حول الكراهيةِ الطالعةِ من أعْتى ظلماتِ الخُرافة، حين يتعلّق الأمر بالصهاينةِ وممارساتِهم في بلادنا فلسطين.
لم ينسَ زيارة "متحف قصر الباشا"، أو ما تبقّى منه، فالمتحفُ تعرَّضَ لعدوانٍ أينَ منه عدوان عام 1917 من المدفعية البريطانية، أو الحريق المتعمّد من بعض المستوطنين في ثمانينيات القرن الماضي، حيث قصفت طائرات العدو الصهيونيّ في كانون الأول/ ديسمبر 2023، المتحف، ما أدّى إلى تدميرِ أجزاءٍ كبيرةٍ منه، وتحوّلِهِ إلى خرابٍ لم يشهدْه منذُ تشييدِهِ قبلَ سبعةِ قُرون.
للمتحفِ، أحدُ معالمِ الحيِّ الرئيسية، اسمٌ آخَر، هو "قصر آل رضوان"، نسبة إلى أسرة رضوان التي حكمت غزّة، ومعظمَ فلسطين، قرنًا ونصفَ القرْن ما بين 1530 و1681. يعود تاريخ المتحف للعهدِ المملوكيّ، حيث كان مقر حاكم غزّة في الفترة المملوكية، ومن بعدِها العثمانية... وفيه حوصر نابليون أربعة أيام وثلاث ليال... البريطانيون أيام انتدابهم الاستعماري على فلسطين استخدموه مركزًا للشرطة، وحوّلوا غرفتيْن صغيرتيْن كانتا في قبوِهِ إلى سجن؛ خصصوا الأولى للنساء، والأُخرى للرجال، تخيّلوا يا رعاكم الله!
في عام 2010، اعتُمد المبنى متحفًا يحتفظُ داخلَ ردهاتهِ بآثارِ معظم الأمُم والحَضارات التي كان لها ذاتَ تاريخٍ وجودًا في غزّة: آثار رومانية، أغريقية، فارسية، فينيقية (كنعانية)، ومصرية، وغيرها، إضافة، طبعًا، لِآثارٍ أمويّة، وأيوبيّة، ومملوكيّة، وعثمانيّة.
لاحظَ المشّاءُ العابرُ بِنعالٍ من ريح أن حيَّ الدرج يجمع في مواصفاتهِ المعماريةِ العمرانيةِ بين القديم وَالجديد... وأنّه، كما كلُّ مناطقِ القِطاع ومخيّماته، يستخدم الناس جدرانَه موقعًا للتواصل الاجتماعي ودعواتِ الأعراس والتّعازي والتّهاني والإعلانات... وتُلاقيكَ فيه، كما في غيرِه، دائمًا عبارة فُضلى: "أهلًا وسهلًا" مكتوبةً على الحيطان الجديدة وَالقديمة... محفورةً في وجْدان الأطايبِ الكِرام من أهل الدَّرج وغزّة القديمة والجديدةِ والقطاعِ جميعِه.
يسألُ المشّاء نفسَه: هل ما يزال (حافظ عجور)، الذي قرأ اسمه على واحدة من جدارياتِ الحي، على قيد الحياة؟ يقول في نفسِهِ أيضًا: له منّا السلام، حيًّا كان يسمعُنا، أو حيًّا شهيدًا... لهنّ وَلهم نساءُ الحيِّ ورجالهُ مِنّا السلام: أبو كريم... أبو مالك... والعريس الغالي علاء...
يصرّ على تخصيص وقتٍ كافٍ لحارةِ قرقش، ففيها كان يقيم الشهيد الأسير المحرّر صلاح شحادة ابن بيت حانون، وفي واحدٍ من مبانيها ولياليها اُستشهد في الثاني والعشرين من تموز/ يوليو من عام 2002، يعجبه أن الناس أطلقوا على عملية الاغتيال الجَبَانة التي راح ضحيتها عشرات المدنيين من الأطفال والنّساء والشُّيوخ، "جريمة حيّ الدرج".




يصبح سيرُهُ مثل البنْدول، فمرّة تراه في سوق فراس، وفي أُخرى تجدهُ يقصد "صيدلية الأسرة"، متجاوزًا السوق المكتظة أمامها، يريد ما يوقفُ وَجَعَ النّسيان، وفي ثالثةٍ يعودُ أدراجَه إلى حيث السّدرة وما حولها، قاطعًا نحو شارع الوحدة، ثم متجاوزًا تقاطع جباليا نحو شارع فهمي بيك المرتبط اسمه بفهمي الحسيني، أحد من أداروا قبل الاحتلال شؤون مدينة غزّة، وهو الذي غيّر اسم "شارع جمال باشا" إلى اسم "شارع عمر المختار"، الذي يمرّ من ثلاثة أحياء غزّيّة: الرِّمال والزَّيتون والدَّرج.
من نافورةِ عبد الحميد العامة، التي بنيت في القرن السادس عشر الميلادي، وجدّدها السلطان عبد الحميد عام 1893، إلى ميدان فلسطين، من دون أن ينسى المرور على مراكز الرعاية الأولية والمراكز الصحية جميعها: مركز شهداء الدرج الصحي، مركز رعاية الأسرة التابع لجمعيةِ اتحاد الكنائس، مستشفى الخدمة العامة التابع لجمعيةِ الخدمة العامة، مركز الأطراف الصناعية التابع لبلديةِ غزّة، مجمّع الصحابة الطبي التابع لجمعيةِ الصحابة، مركز سان جون لطبِّ وجراحةِ العُيون التابع لجمعيةِ مار يوحنا للعيونِ، ومركز الرضوان التابع لجمعيةِ الأيدي الرحيمة. من هناك، شدَّ الرحال إلى بعض أسْبِطَةِ المدينة (جمع سِباط، وهُو غرفةٌ بين منزليْن فيها نوافذ مطلّة، وتحْتها ممرٌّ مسْقوف)، خصوصًا "سِباط العلمي". حتى الزَّوايا لم تَسْلَمْ من مسيرهِ الملهوف، فزار "الزاوية الأحمدية"، و"زاوية أبو شهلا"، والتقى هناك بالفاضلِ فتحي الشقرا، الذي بادرَه بكلمةِ السرِّ الغزّية: "أهلًا وسهلًا"، وأخبرَهُ أنّه مزروعٌ هنا منذ أجدادهِ الأوّلين، ودعاهُ إلى أكْلةِ سمّاقيّة غزّاوية غارقة بالسمّاق موجّبة بلحمِ الضَّأن. في طريقهِما لتلبيةِ دعوة الشقرا، لفتَ انتباهَه مشهدُ البيوتِ القديمةِ المتراصّة، وأدْهشته عراقةُ بيتِ الدّاعي وزخارفُه وعمارتُهُ الهندسيّة التي تغلبُ عليها الجُدران الإسمنتيّة السّميكة (يتراوح سُمْك الجدار ما بين 80 سنتيمترًا إلى مترٍ).

جماليات حي الدرج 

في بيت فتحي الشّقرا، التقى بالناشطِ بشير أبو الشعر، أحدِ ساردِي قصص الحيّ، فَسأله من فورِه ما هي (الفرْشوخة، أو الفرْشوخ)، يُخبره بشير أن الفرشوخ هو ساندويش الشاورما الكبير. يحدثهُ السَّارد عن مشروع تطوير المنطقة غرب شارع النَّفق (شارع أحمد الجعبري) بجوارِ بِرْكة الشيخ رضوان، ويخبرهُ أنّ كثيرًا من أبناء عائلة الأيوبي يقْطنون شارع المعامل وسط الحي، في حين يقْطن معظمُ أبناء عائلة الطَباطيبي في منطقة السّدرة. يرافقه بشير بعد أن يودّعا شاكريْن فتحي صاحب الدعوة الكريمة، يعرّفه على صديقه علي جبر العيلة، صاحب معرض العيلة للاتصالات في شارع السّدرة، ثم يأخذه إلى شارع الصحابة ليعرفّه على أصدقائه أصحاب محلات القصّاص وزهرة للسّخانات الشمسيّة والكهربائيّة. وفي الطريق، يحدّثه عن التاريخِ الرياضيّ لِلحي، وعن أمجاد نادي "بَرجا" الرياضي، وعن الشهيد الكابتن زاهر أبو حصيرة. يخبرهُ أن شارعَ خليل الوزير يحمل اسم أحد رموز حيّ الدرج، القائد الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، فهُو وصلاح خلف (أبو إياد) من أبناء الحي.
يحدّثه عن الأحلام والآلامِ وَالآمال، والعَمار والدّمار، والحُروب والكُروب، والصُّمود، والطفلِ العَنيد والصبيّةِ العَنود. يحدّثه عن مرمرِ التّراب، وعليلِ الماء، وأشرعةِ الهواء، ومنازلِ النَّار، وعن طوفانٍ أعادَ تصويبَ بوصلاتِهم.
ثم مع ابتسامةٍ مُشْبَعَةٍ بالدَّلالات، قال بشير للمشّاء، إنه، في نهاية المطاف، بشير، وإن أهل حيّه، وكل أحياء غزّة، لا يمانعون لو ناموا على حَصيرة، أو عاشوا في بيوت الشّعر، المهم أن يفعلوا ذلك وهُم كرماء شرفاء أحرار لا يلوّث هناءةَ عيشهِم معتدٍ، ولا ينغّص أيامَهم أبشعُ احْتلال. وأخيرًا، وليس آخرًا، ومع مَنْحِ صوتِهِ بعضَ الهيْبة والرَّكازة، قال له إننا في حيِّ الدّرج نستلهم من أوابدِ الماضي روافعَ مُستقبل المجد، وعناوينَ الانتصار.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.