}

نهاية التاريخ أم انفجار الأنين؟

بلال خبيز 19 يونيو 2024
اجتماع نهاية التاريخ أم انفجار الأنين؟
(Getty)


حين كتب فرنسيس فوكوياما مبشّرًا بنهاية التاريخ، كان يحسب أن التاريخ هو تاريخ الصراعات، وأن الحقبة التي تلت انهيار الإمبراطورية السوفياتية وضعت حدًا نهائيًا للصراعات، وبات بوسع البشرية أن تعيش بلا صراعات مدمرة. كانت اللحظة مناسبة لمثل هذا الحكم. ذلك أن تلك الصراعات العنيفة كانت توحي للفكر والفلسفة وعلم الاجتماع على حدّ سواء، أن نهاية الرحلة البشرية ستكون بسبب قنابلها المتكاثرة والتي تفيض قوة انفجارها عن قدرة الأرض على التحمل. قبله بعقود أطلق تي. أس. إليوت حكمًا أكثر رجاحة حين قال: هذا الكون لن تكون نهايته بانفجار، بل بالأنين. والحق، أن أنين البشرية صار مسموعًا على نطاق واسع وليس ثمة ما يخفيه عن آذاننا غير انشغالنا بيومياتنا المنهكة والمكلفة في آن.

يكتب أولريش بيك محذرًا من أننا نسير حثيثًا نحو دفن الاجتماع، بما يتضمن من علاقات تكافل وتضامن. جاراه في مسعاه هذا كتاب وفلاسفة كبار أيضًا، من آلان تورين الفرنسي، إلى زيغمونت باومان اليهودي البولندي. وحين يتحقق باتريك دينين من فشل الليبرالية على النحو الذي يوثّقه في كتابه "لماذا فشلت الليبرالية؟" فإنه لا يقترح على العالم، المتقدم منه والمتأخر، ما يمكن أن يكون قابلًا للتحقق. العالم لا يستطيع العودة إلى الوراء. والتاريخ لا يتكرر، لا على شكل مأساة ولا على شكل ملهاة. هذه خرافة يجدر بنا أن نقلع عنها لأنها لا تطحن قمحًا ولا تدير طواحين. من جهته، يرى ريتشارد سينيت أن أحد المخارج التي يمكن للبشرية أن تسلكها للفرار من مصيرها المعتم، قد يكون في إعادة الاعتبار مجدّدًا للحرفية، في مواجهة الصناعة المؤتمتة. ذلك أن الحرفي يترك شيئًا من نفسه في كل منتج ينتجه، بعكس الآلات التي تفرض علينا منطقها وتجبرنا على تغيير سلوكنا بما يتناسب مع أدائها. ولكن مثل هذا التمني لا يعدو كونه مخرجًا متعجلًا لانسداد آفاق هذه الفكرة.

ما تقدّم لا يشير إلى شيء أكثر من إشارته إلى واقع أن أنبياء الحداثة باتوا على يقين من أن البشرية تسير نحو انفجارها النهائي. بعض المتفكرين في الشأن العالمي رأوا أن كل ما أنجزته الثقافات المختلفة كان ناقصًا ومتواطئًا، برونو لاتور يرى كل أفكارنا متواطئة مع السلطات على اختلافها، ومصالحها، ويعتقد أن التخصيص الذي حظي بأناشيد لا تحصى من المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع، لا يفعل سوى جعل هذا العالم غير معقول على أي نحو. أكنا نرى العالم بوصفه مقسومًا إلى طبقات، أو إلى نطاقات اجتماعية، أو إلى قوميات ومذاهب وأديان، أو إلى مهارات واختصاصات.

خلف هذا اليأس كله، ثمة شعور عام بضرورة تهديم ما أنجزته البشرية على رأس البشر أنفسهم. علينا البدء من جديد، بل يذهب كاتب "وجه غايا المتلاشي"، جيمس لفلوك إلى القطع بأن الطبيعة الأم بدأت مسيرتها نحو إعادة توازنها الذي اختل بسبب النشاط البشري. وبصرف النظر عن دقة ما يقوله هؤلاء وصحته، إلا إن كل ما تقدم لا يعدو كونه دعوة إلى تهديم ما تم بناؤه وتخريب ما تمت قوننته وعقله. علينا أن نبدأ من جديد، لكننا لن نبدأ معًا وجميعًا. ثمة من سيبدأون وثمة من سيموتون. والموتى سيكونون الكثرة الكاثرة. والحال، فإن كل ما تقدم يشي بأن عقول البشرية المتنورة باتت أقرب ما تكون إلى إنفاق إنجازاتها بددًا وهدرًا. والبدء من ًجديد، كحيوانات بدائية وجدت نفسها في محيط معاد.

هذا الصخب كله يتعالى في بلاد "متقدمة". بلاد اختبرت الأمل بإنشاء جنة على الأرض، واختبرت منازلة الآلهة والزعم أن العقل البشري قادر على تحويل الأرض كلها إلى مصنع للسعادة والأمان، وحسبت لوقت طويل أن الخضوع للقانون يلغي العنف ويمنعه من الانتشار، لأنه يجعل المرء الذي من طبعه الحذر والخوف وتشغيل آليات الدفاع عن نفسه كلما صادف أحدًا أو حدثا، لا يعود مجبرًا على اختبار الخوف لأن القانون يعلمه ويعلم غيره الخضوع.

يحصل هذا كله في هذه البلاد التي استثمرت في موارد الأرض إلى حد بات استثمارها لثروات الطبيعة يهدد بانفجار الأرض نفسها. ولا يجد هؤلاء حلًا إلا بالتبشير بنهاية الأرض وبقاء جزر متناثرة قد تشكل ملجأ لمن سيبقى حيًا. ومن "عجائب المصادفات" وقوع هذه الجزر في كنف هذه الدول نفسها. ذلك أن الدول التي لم يسعفها حظها في اختبار كل ما سبقت الإشارة إليه، غير مؤهلة لأن تصمد أمام انفجار كوني كالذي يتم تبشيرنا به كل وقت.

لقد استهلكت الدول المتقدمة حصتها من الأرض وحصة غيرها. ثمة شعوب كثيرة ما زالت تعيش في إطار علاقات القرون الماضية، وثمة دول كثيرة لا تستطيع أمام التحديات الهائلة التي تواجه العالم، وسبل الاحتياط المكلفة التي تعتمدها الدول المتقدمة، أن تواصل تقدمها. وها هي تقبع في الظل والنسيان، أو تضاء بالحروب والمجازر. كما لو أن حقيقة ما يجري اليوم لا يعدو كونه تطهيرًا كاملًا لكل الشعوب التي باتت فائضة عن حاجة الأرض ومن سينجو من أهلها.

التاريخ الحديث برمته يبدو اليوم مناقضًا لمساره السابق. لقد جهد استعمار الدول المتقدمة كل جهده في التعرف إلى الشعوب التي كانت منسية ومنزوية في أقاصي الكرة الأرضية وأدانيها، وأخضع قارات برمتها للدخول في مسار التحديث الذي لم يكن يعني لهذه القارات الخاضعة أكثر من طريقة جديدة في الاستعباد. لكنه اليوم يبذل كل جهوده العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية لإجبار هذه الشعوب التي دعاها من قبل إلى معاينة الضوء، إلى العودة إلى العتم. لم يعد العالم متسعًا لكل أهله، وباتت القسمة بين الدول والشعوب والأمم محشورة بين حدين: ناجون وهالكون. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.