}

حيّ الشّجاعية: بوابة غزّة الشرقيّة العصيّة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 8 يونيو 2024
أمكنة حيّ الشّجاعية: بوابة غزّة الشرقيّة العصيّة
الشجاعية كابوس الصهاينة
من فوق تلّة المِنطار، يشهقُ حي الشجاعية (أو السّجاعية بالسّين) كما ينطقها أهله، مع إطلالةِ صباحِ كلِّ يومٍ جديد، بالبطولةِ والإباء. يقسم أهلُهُ الأُباةُ أنّهم عصيّون على الخضوع، رافضونَ الاستسلامَ، أو الهروبَ وترْكِ بلادِهم لأعدائِهم.
الشجاعيةُ اسمٌ على مُسمّى... فكما لو أنّ الشجاعةَ كلَّها وضعها الله في قلوب أهل الحي حرّاس البوابة الشرقيّة لِمدينة غزّة ولكلِّ أفياءِ القطاع. هم أهل النخوّةِ والجودِ والكَرَم والقضوَةِ والعطوَةِ والقيمِ العشائريّة. مختار الحي (مختار محلّة الشجاعية) أبو سليمان المُغني، وهو في الوقت نفسه رئيس الهيئة العليا لشؤون العشائر في المناطق الجنوبية، ابنه شهيد، فالشّهادة عندهم عطاءٌ وفِداءٌ وَوِجاء، هي ليست خيارًا، بل واجبٌ وطنيٌّ وعقائديٌّ وإنسانيٌّ رفيع.

مقبرةُ الغُزاة

ولأن الحيّ مقبرةٌ حقيقيةٌ لكلِّ من تسوّل له نفسه التطاولَ على عليهِ، أو على غزّة، ففيهِ مقبرة للجنودِ الإنْكليز والهنودِ والكنديينَ الذين قَضَوا هناك خلال الحرب العالمية الأولى (طبعًا بعضهم مُرْتزقة كما يجري في العدوان على غزّة هذه الأيام). مقبرةٌ ضخمة تصل مساحتها إلى زهاء أربعين دونمًا، وبما يعكس العدد المَهول لِلقتلى من الحلفاء المعتدين. يشرف على المقبرة منذ تأسيسها آل جَرادة بالتّوارث. ليس بعيدًا عن "مقبرة الإنكليز"، وداخل حُرْشٍ شجريٍّ كثيف، يوجد قبر جماعيٌّ لـ 184 تركيًّا وأربعة مصريين. قبرٌ لا شاهدَ له سوى تاريخ الحيِّ وَذاكرة أهلهِ الأقدمين.
وَاليوم يتجلّى الحيُّ بوصفهِ مقبرةَ غُزاةٍ للصهاينة الجُدُد المتجدّدين، هذه كانت حاله عندما حاول الجنود الصهاينة العبور منه إلى غزّة في عام 2014، فيومها قُتلَ مَن قُتل من لواء (جولاني)، وأُسِرَ مَن أُسِر (واسْألوا شاؤول أورون!). وهو ما كان عليه الأمرُ عندما حاولوا مرّة ثانية وألف، ففي الطوفان الذي انطلق في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عاد الحيّ ليجدّد عهودَهُ ووعودَه حول حقيقة أنه مقبرةٌ لا ترحم، وفي واحدة من أقسى عمليات الاستهداف التي تعرّض لها الجيش الصهيونيّ (مجازًا نقول إنه جيش، حيث الحقيقة أنهم عصاباتٌ ولصوصٌ ومُرتزقة)، حيث يبدو أن الكتيبة 13 من اللواء الذي يفخرون بِهِ ويعرْبدون، لم تدرك أن الرقم في حد ذاتهِ يجلبُ لهم الشُّؤْمَ، قتل أبطال المقاومة أكثر من 13 ضابطًا وجنديًّا بكمينٍ مركّبٍ، وهي العملية التي أفضت أولى نتائجها لِمغادرة الحيّ إلى غيرِ رجْعة، فالمكتوب فوق جبين الحيّ صار معلومًا لِلجميع: "إن عُدتم عُدْنا".




طبعًا، تاريخ بطولات الحيّ لا يقتصر على عمليتيّ عاميّ 2014، و2023، فللحيّ تاريخٌ طويلٌ من العمليات النوعيّة، ففي السادس من تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1987، على سبيل المثال لا الحصر، قاد أبطال الحيّ مواجهة مسلحة أسفرت عن مقتل ضابط صهيونيٍّ، واستشهادِ أربعة من نشطاء حركة الجهاد الإسلامي، وحَمَلت المواجهة التي سبقت انتفاضة الحجارة بشهريْن اسم "معركة الشجاعية". في المقابل، كان ردّ العصابات الجبانةُ على العمليات البطولية ارتكاب المجازرِ تلوَ المجازر في حقّ الحيّ وأهلهِ، منها مجزرة الشجاعية في 20 تموز/ يوليو 2014، التي راح ضحيتها 74 شهيدًا من أهل الحيّ، نصفهم أطفالٌ ونساءٌ ومسنّون.

تلُّ الفَخار

يقيمُ (السّجاعيون) طقسَ القسمِ اليوميّ تحت شجّرة الجمّيز العجوز الشّامخةِ فوق تلّ المِنطار منذ مئات السّنين، فهناك فوق تلّهم الذي يرتفع عن سطح البحر زهاء 85 مترًا، قَتل أبطالُهُ مئات الجنود الفرنسيين عندما لاذ نابليون به يَنْشُدُ المَنَعة، جاهلًا أن تل المِنطار لا يمنحها إلّا لِأهلِ المكان وأصحابِ الأرض الأصليين. بروفةٌ أولى لهزيمتهِ الكبرى حول أسوار عكّا.
التلُّ هو الدرع الأول، السدُّ المنيع في مواجهة الأشرار. وهو عَلَمٌ تلتفُّ تحت رايتهِ القبائل العربية جميعها وتنعقدُ راياتُهم. عزّز صلاح الدين مكانته، واكتشف نابليون، متأخّرًا، صلابتَهُ بعد أن وقع، وجيشُهُ، صيدًا سهلًا لِبسالة المقسمين من أبنائِهِ تحت الجمّيزة العتيقة. يقسم التلُّ الحيَّ إلى قمسيْن رئيسيين: الشّجاعية الشمالي (الجديْدة، أو الأكراد)، والجنوبي (التركمان).
فوق التل، وفي يوم الخميس الذي يسبق عيد الفصح المجيد من كل عام، كانت تحتشد القبائل العربية جميعُها بفرسانِها وخيلِها وراياتِها وقسمِها الجامعِ وعزيمتِها الراسخة، إنه "موسم المِنطار" الذي يمثّلُ هيبةَ الحيّ وزهوَ تاريخِه العريق، ووحدةَ صفِّ البواسلِ داخل حدود مَنَعتِهِ التي ألْجمَت الأعداء وحيّرت الأعْدقاء.

تفاصيل...

حي الشّجاعية هو الحي الأكبر والأكثف سكانًا من بين باقي أحياء غزّة التسعة: التفاح، الدرج، الزيتون، الشيخ رضوان، الصبرة، تل الهوى، النصر، الشيخ عجلين والرّمال. لا يفوقه، ربّما، كثافة في مدينة غزّة إلّا مخيم الشاطئ الذي لا يعد حيًّا، عمليًّا، أو ربما رسميًّا، من أحياء غزّة بقدرِ ما هو تجمّعٌ (معسكر خيام) للاجئين من مدن فلسطين المحتلّة وقُراها. وبِما أن معظم الإحصائيات المتعلّقة بعدد سكّان غزّة المدينة والقطاع مرّ على آخرها زهاء ثمانية أعوام، فإن مسألة تحديد المنطقة الأكثر كثافة تبقى مجرّد تخمين؛ فالمخيّم، على سبيل المثال، وبحسب إحصاء جرى في عام 2006، بلغ عدد اللاجئين المقيمين فيه زهاء 87 ألف نسمة، وبالتالي فإن العدد المتوقع لهم اليوم، وفق نسبة التزايد السريعة في غزّة، قد يفوق الـ 120 ألف نسمة. أما حي الشجاعية فإن آخر إحصائية تخصّه تتحدث عن عدد سكّان قد يصل إلى 100 ألف نسمة.
الزراعة هي مهنة أهل الحيّ الأولى والأقدم. وقديمًا كانوا يزرعون القمح والشعير والذُّرة البيضاء الصغيرة القديمة والصّفراء (السّنونية). طول الحي خمسة كيلومترات وعرضه ثلاثة. يُقال إن سكانَه هم من سكان غزّة الأصليين الذين يُطلق عليهم لقب (غزازوَة)، حيث عدد اللاجئين إليه من مدن فلسطين وقراها بعد نكبة فلسطين في عام 1948، قليل جدًّا. وعليْه، فإن لهجة أهله هي اللهجة الغزّاويّة الأصليّة، والفُلفُل الحار هو رفيق وجباتِهِم جميعُها. مسجد ابن عثمان من أهم معالم الحيّ... بُنِيَ في العهد المملوكيّ عام 1430 ميلاديّة. بناه رجل الدين والتاجر الكرديّ شهاب الدين بن أحمد بن عثمان.

تل المنطار وفوقه الجميزة العتيقة 


عبر زقاقٍ ضيّق يتفرّع من شارع بغداد الرئيسيّ وسط الحيّ في البلدة القديمة، يوجد قصر اسمه قصر "حَتْحَتْ"، الذي شيّد بالتزامن مع تشييد "سباط العلمي" في حيّ الدّرج. عمارة القصر الذي يزيد عمره على 400 عام، تتضمّن الأقواس، بعضها أقواس شبابيك مفتوحة، وبعضها أقواس مغلقة، قد يكون جرى إغلاقها لاحقًا. تعود ملكيّة القصر لشخصٍ كرديٍّ اسمه إبراهيم الحلبيّ آل حَتْحَت. وفي عمارته أيضًا شبابيك خشبية، وأدراجٌ حجريّةٌ داخليّة. في الطابق الأرضيّ سبع غرف ومطبخان وإيوَان، وأمّا الطابق الثاني الذي يتضمّن غرف النوم، ففيه فضاء مفتوح للسّهر والتّعاليل، وهو يكشف ساحة القصر وفضائِهِ الداخليّ.
وَكما هي حال بلادنا العربية جميعها، فإن أسماء العواصم العربيّة، وحتى العشائر التي تحمل اسم عاصمة، أو دولة عربية، تنتشر بغزارة؛ فلا تكاد دولة عربية تخلو من شارع في أحد مدنها يحمل اسم بغداد، على سبيل المثال، أو القاهرة، أو مكّة المكرّمة، أو المدينة المنوّرة، أو القدس. وهو الأمر الذي ينطبقُ على أسماء العشائر: تجد عائلة عراقية تحمل اسم السوداني، حتى رئيس الوزراء الحالي ينتمي إلى عشيرة السوداني، ولا ننسى صديقنا الكاتب العراقي المقيم في عمّان علي السوداني. وفي فلسطين هنالك عائلة السوداني. أما عائلة المصري فحدّث ولا حرج؛ في فلسطين والأردن وسورية ولبنان، وهلمّ جرًّا. أخذني الحديث بشجونِهِ إلى هذه المطارِح، بسبب وجود شارع في حي الشجاعية يحمل اسم شارع بغداد، ووجود قصر يحمل بانيه اسم إبراهيم الحلبي، وبسبب غياب هذا البعد العربي العروبي القومي ممّا يجري في غزّة هذه الأيام، على الأقل على الصعيد الرسمي، فأنا لا أشك قط من حقيقة مشاعر الشعوب العربية المغلوب على أمرِ معظمها، ومن عمق عشقها لفلسطين، واستعدادها لأن تكون جميعها في مسيرة عودةٍ مُفترضة.

يوميّات

يغريني الخوض في يوميّات المكان، أكثر من التعريج على الرفيق google، وجلب معلومة من مثلِ أن سبب تسمية الحي تعود إلى القائد الأيوبي شجاع الدين عثمان الكردي، وما إلى ذلك من المعلومات التي قد يستخدمها بعض الزملاء على طريقة النسخ واللصق. يغريني أن أعرف ما هي أحوال الدكتور رمزي بارود، ابن مخيم النصيرات هذه الأيام، الذي كتب ذات مجد عن حيّ الشجاعية قائلًا إنه "ليس مجرّد حي بل هو إرث". وأن أسأل هل أخبار ابن الحي هيثم فضل محيسن بخير؟ وهو الذي أعلن ذات فزعة على صفحة تحمل اسم "حي الشجاعية بوابة غزة الشرقية 2"، قائلًا: "لأهلنا في الجنوب... أي شخص بدو ينقل عائلته من رفح لأي مكان ولا يملك فلوس ومش لاقي مواصلة، يوفّرلي غاز مسافة الطريق وأنا جاهز من دون مقابل"، ثم يضع تحت الإعلان نوع سيارته، ورقم تلفونه.




في يوميات أهل الحي، يقسم أحدهم أنّهم سوف (يحلّون) بعد أن تنتهي الحرب "كنافة نابلسية من عند أبو الغلابة، وأبو سعود، وساق الله، وعرفات"، فيردّ عليه شجاعيٌّ آخر: "وراح ناكل شاورما من بالميرا، والتيلندي، والتركي، والأمير، والمشاوي جرجاوي، ونبردها كولا كلوب متلجة". ثالث يردّ بمخيلةٍ أوسع: "راح نمشي على الكورنيش، ونتسلّى بترمس وفول باللمون والكمون، وراح ناكل الذرة المشوية، ونشرب براد وبوظة من عند كاظم والجرجاوي وأبو زيتونة". أما الرابع فيواصل أمنيات انتهاء الحرب بالقول: "راح نقعد على البحر والمينا وعلى الرمل نكتب أسامينا والغدا سمك سردينا". الخامس يقول:" راح نفطر حمص من الخزندار، وفلافل من السوسي وعكيلة وعم أبو طلال".
في اليوميات، يمكننا أن نتوجّه إلى محمد شاكر، ومصعب أبو ضلفة، ونسألهما عن حقيقة ما تناقله الأقارب حول سلامة جثمان الخال فؤاد حمدي أبو ضلفة، الذي كان مدفونًا في المقبرة التونسية داخل حي الشجاعية، وهل صحيح أنه عندما جرى نقله إلى المقبرة الشرقية بعد 30 عامًا من دفنه في المقبرة التونسية وجدوه كما هو؟ وهل المعلومة لمجرّد تعزيز مكانةِ المعلم، لأن الخال كان حتى رحيله معلمًا؟
في اليوميات، نسأل عن أحوال آل أبو هين، وباقي عشائر الحي: حتحت، الظاظا، الجعبري، الكردي، الدهدار، محيسن، حلّس، كسّاب، زريتلي، الواديّة، شلّح، أبو جبل، أبو عجوة، أبو العطا، المُغني، دويمة، وغيرها من العشائر والحمايل، علمًا أن لبعضها، أو لمعظمها من باب الدقّة، امتدادًا في المكان يعود لِمئات السنين في دحرٍ لِمقولة "أرض بلا شعب".
في اليوميات، أؤْثِرُ أن أربّت على كتف أحمد زياد، أحد أبناء الحيّ، الذي كتب يقول: "بينما يتجهّز الحجّاج لارتداء ملابس الإحرام، لبس أبناء القطاع الأكفان؛ لبيك اللهم إنِّا متعبون فاجبرنا"، وأن أشدّ من أزرهِ على أن أنقل معلومات فاقدة الروح. وأن أترحّم على المصوّر الصحافي حسونة سليم ابن الحي الذي استشهد في استهداف صهيونيٍّ جبان بعد الطوفان.
في اليوميات، نودّ أن نطمئنّ على موظف شركة الكهرباء أحمد يحيى كسّاب (أبو يحيى)، ونسأله بعد الاطمئنان عليه: هل تنار بيوت الحيّ كما ينبغي بعد كل هذا القطع والقتْل والظّلام الصهيونيّ الوضيع؟

قصر حتحت بأقواسه وجمالياته 


ونتذكّر بحزن أحد أعلام الحي، الناقد والأكاديمي الراحل أ. د. كمال حامد الديب، الذي مثّل الحي وغزة وفلسطين خير تمثيل بدماثتهِ وحُسْنِ أخلاقهِ ومسيرتهِ المهنيّة في جامعة الأزهر الغزّية.
تغريني اليوميات، يغريني صوت الفتى الشجاعيّ الذي ينشد بصوتٍ جهوريٍّ مشعٍ بالقوّة والحيوية والتحدّي أين منه أصوات أعلام كثيرة لا ندري من (علّمها علينا)، ينشد ويقول: "في الطيارات إحنا ذقنا طعم الموت... غارة برية وبحرية... سدّوا المعابر بالجوع الناس تموت... شنّوا هالحرب النازية... والدبابات اضلّ تدمّر حتى تفوت مناطق غزّة الشرقية... والبطل قاتل بالعبوة وبالبارود واستشهد جوّا الشجاعية... اشهد يا عالم علينا وهدموا بيوت والعرب بنومة هنية... واللي ما شاف بالغربال غزّة تموت أعمى بعيون أميركية... اسمع يا نتنياهو يا هلفوت... تخزا (أو تخسا) يا ابن اليهودية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.