}

الجدران إذا ما تكلمت

منذر مصري 22 يوليه 2024
إناسة الجدران إذا ما تكلمت
الجدران إذا ما تكلمت (بعدسة الكاتب)
(إلى باسل شحادة... لا سواه)

*

[الجدران إذا ما تكلمت تصرخ
الجدران إذا ما صرخت يكمّمون
أفواهها..]
(دفتر هلال) إصدار دار الأدهم ـ القاهرة ـ 2023.

***

غالبًا ما يلعب العنف الدور الأول في الثورات والتمردات الشعبية، وكأنه من طبيعة هذه الأمور أن يطفو الغضب كمظهر للعنف الشعوري، فوق ما عداه من المظاهر المادية والمعنوية المرافقة لخروج الناس من بيوتها إلى الشوارع والتظاهر كجماعات. الغاضبون أكثر، العنيفون أكثر، هم من يقودون المظاهرات، هم من يبرزون في مقدمتها. الصراخ، كمظهر للعنف اللفظي، تكسير واجهات المحلات، تكسير زجاج السيارات، تحطيم إشارات المرور، وصناديق سحب الرواتب! وكأن الشارع، شعوريًّا ولا شعوريًّا، يستدعي منهم العنف. كأن الظهور للعلن، حيث المتظاهر يعلم بأنه مراقب ومرصود، يستدعي منه القيام بما يوحي بالشجاعة! الحالة المركبة التي أظنها تتطلب مني شرحًا أكثر. فالشجاعة التي يبديها المتظاهر مصدرها، منبعها، هو ما يعد عمومًا عكسها، أو ضدها، ألا وهو الخوف! خوفه الذي عاشه طوال حياته وما يزال يتغلغل في داخله، ذلك لأن مسببه ما يزال قائمًا، الخوف ذاته الذي سبق وكتبت أنه العلة الأصل لانتفاض الناس وشقهم عصا الطاعة. فما بالك وأن المتظاهر في تلك اللحظة يعلم أنه بات مكشوفًا، أشبه بعار. ولكن، رغم فهمي لدوافع هذا العنف، فما أنا عليه من طبع، وما صرت إليه من تطبع، يجعلني أقف، من دون تردد يذكر، في صف المظاهر الأخرى غير العنفية للثورات، رغم ما تتضمن هذه العبارة من تناقضات، ومحبّذًا وداعيًا لها على حساب سواها، فقد أوليت كثيرًا من اهتمامي لكتابات الجدران التي رافقت بداية الحدث، وانتشرت، على ما أعتقد، في مدن سورية عديدة. حتى راحت توحي بأن هنالك حربًا أخرى تجري على هذه الجدران بموازاة الحرب التي كانت تجري في الشوارع. وأنها تصلح أن تكون ميزانًا للقوة والسيطرة! أي أن من يسيطر على الجدران هو من يسيطر على البلد! فكانت الحالة أن يقوم ثوار الجدران بالكتابة عليها في الليل، ويأتي الجنود أو دوريات المخابرات ويطلسونها في النهار! لا بل كان أهالي الحي أنفسهم، عندما يستيقظون صباحًا ويرونها على جدران بيوتهم، يقومون بطلسها، تحسبًا للعواقب التي قد تنجم عنها!
هذا الطلس العشوائي، بفرشاة عريضة مغمسة بالزفت الأسود الثقيل، غالبًا، ما كان يخلف لوحات تشكيلية مميزة بكل المعايير! لوحات تنتمي لمدرسة الفن التجريدي التعبيري، وذلك لحدة تباين الأسود والأبيض فيها، وللأشكال، وجوه وأجسام شخوص وحيوانات أقرب للوحوش، التي توحي بها، لدرجة أني عندما نشرت بعضها لم أعدم من يسألني ما إذا كانت من رسمي! وبماذا رسمتها؟ وما قياساتها، وما سعر هذه، أو تلك منها؟ حتى إنه خطر لي مرات أن أطبعها بقياسات كبيرة، وأقيم معرضًا لها، الأمر الذي لا أظنكم تعلمون صعوبته، داخل الحفرة! إلا أن ذلك لم يمنعني من الاحتفاظ بها كل تلك السنين، وتحضيرها لعرض بصري على أحد المواقع الثقافية الإلكترونية، مع شرح فني مختصر لبعض منها، أو لأغلبها، لا كلها، وذلك لأنها كأعمال تشكيلية لا تحتاج شرحًا، لا بل قد يفسد الشرح متعة تأملها من قبل المتلقي، وفرصته أن يرى بنفسه ما يمكن أن توحي به، على النحو الذي يحلو له:

1 ــ موناليزا اللاذقية:




أظن أحد عمال البناء الذين كانوا يعملون بالقرب من مقبرة المغربي هو من رسم هذه المرأة الباكية، التي تذكرني، بخطوطها السوداء العفوية، وبملامحها التعبيرية، برسوم الباكيات لبابلو بيكاسو، إلا أنها أكثر إنسانية منها، وفي الوقت ذاته، أقل تكلّفًا! لم أتردد كثيرًا في تسميتها موناليزا، ذلك لأنه يخيل لي أني ألمح ما يشبه الابتسامة على فمها! ولكن موناليزا من؟ موناليزا اللاذقية، وليس سواها، فمن لغير اللاذقية هاتان العينان الكبيرتان، وهذه الأهداب الطويلة، وهاتان الدمعتان الجاريتان على خدها الأيسر. عدت لمكان الرسم مرات، حتى إني فكرت لو أستطيع نزع طبقة السمنت التي عليها الرسم، والاحتفاظ به في بيتي! غير أني عندما عزمت على فعل ذلك، وجدت الجدار بكامله قد هدم.

2 ــ حجًا مبرورًا سعيًا مشكورًا:




في ذلك الصباح هبطت من بيتي في الطابق السابع لأجد عند مدخل البناية اثنين من جيراني يطلسان بالزفت كلمات خطها شخص لا ندري من هو، بالتأكيد ليس من سكان البناية! فوق العبارة التي كانت مكتوبة منذ زمن: "حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا". ويستطيع من يدقق جيدًا أن يرى آثارها الباقية تحت الطلس باللون الأحمر. حييتهم قائلًا: "يعطيكم العافية"، ومضيت من دون أن أسألهم شيئًا.

3 ــ صراع الديكة:

4 ــ صراع الجبابرة:


بانتظار الانقضاض. الكائن الأول على اليمين يصرخ. الثاني مقابله ينظر إليه من دون أدنى خشية، وهو بوجومه يبدو أكثر لؤمًا ووحشية. تشعر أنها لحظة ويبدأ الصراع.

5 ــ مواجهة غير متكافئة:

كتلة سوداء ملطخة بالأحمر، تهاجم كائنًا رقيقًا من دون ساعدين، وبساقين رفيعتين. وكأنه يوشك على الوقوع ولم تبدأ المعركة بعد.

6 ــ لطخة خضراء فوق سواد مجنح:


يا له من لون غير متوقع أفسد على السواد تحليقه! وكأنه لطخة أمل على يأس أسود، لمسة حياة على موت مجنح.

7 ــ غيمة سوداء بوجه وحش:


من لا يستطيع أن يرى الوجه الجانبي لهذا الوحش؟ حتى إننا نستطيع أن نرى أنيابه! مذكرًا بوحوش يوسف عبدلكي في فترة الثمانينيات القرن الماضي. ولا حاجة لنا أن نتخيل أي مطر يسقط من غيمة كهذه، فهي ترينا إياه!

8 ــ سورية بقرط لؤلؤي:


يظهر الشكل وجهًا جانبيًّا لفتاة، شعرت وقتها أنها تشبه سورية بفتوتها وإبائها، وحزنها. نعم، إنها سورية الفتاة بقرط لؤلؤي، لأنها رغم سوادها ذكرتني بلوحة يوهان فيرمير (1632 ــ 1975) الشهيرة: "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" (1665).

9 ــ آمال وأحلام موؤودة:
تواريخ الصور كافة تعود لما يزيد على عقد من السنين، وأظنها جميعها قد زالت الآن، حيث، من دون مساعدة أحد، تضافر الهواء والشمس والمطر على محوها، أو أنه تم طلسها بالطرش، وبات طلسًا فوق طلس، وخاصة ما كان على أسوار المدارس وجدران المؤسسات العامة، من قبل السلطات والناس على السواء! فبالنسبة لهم لا تعيد هذه اللطخ السوداء أي نوع من الذكريات السعيدة، بل ربما العكس، تعيد لهم ذكريات حزينة لآمال وئدت قبل أن تولد، وأحلام آلت إلى كوابيس. فيكون ما قام به هذا العرض هو تثبيت تلك اللحظة ومنع النسيان والعدم من الانتصار، وذلك عكس مجريات الزمن. ما أصدق أنه غاية الفن...

اللاذقية ــ سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.