}

جدوى الشعر في زمن الفجائع.. شهادات ورؤى (5/5)

أوس يعقوب 9 مارس 2020
هنا/الآن جدوى الشعر في زمن الفجائع.. شهادات ورؤى (5/5)
شعراء... الشعر وطن ومنفى في آنٍ (Getty)
في ظلِّ ما نعيشه اليوم من فجائع أصابت أوطاننا بعد أنْ واجه الطغاة شعوبهم المنتفضة بآلة القتل والترويع والبطش.. يوم غصت الشوارع الثائرة بالأحرار والحرائر في غير بلدٍ عربيّ، مطالبين حكامهم -الذين أسقطوا معادلة الشعب والحكم العادل-، بالحرّيّة والكرامة والعدالة، في ظلِّ ذلك يصبح السؤال ضرورياً وملحاً عن جدوى الشعر في راهننا العربيّ، وعن مكانة ودور الشاعر، الذي كان قديماً شرارة كل ثورة، خاصّة الآن ونحن نشهد مع الموجة الثانية من ثورات الربيع العربيّ، تحوّلات كبرى في مشهدنا العربيّ سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً...

"ضفة ثالثة" تفتح ملفاً خاصاً مع عدد من الشعراء والشاعرات من مشرق عالمنا العربيّ ومغربه، وممن اختاروا المنافي البعيدة أوطاناً مؤقتة لهم، سائلة إياهم: "ما جدوى الشعر في زمن الفجائع الذي نعيشه اليوم؟".
هنا الجزء الخامس والأخير:

 

طارق حمدان (فلسطين): سحر الشعر
الفجيعة خلقت معنا نحن البشر، لا تتعلق بزمنٍ محدد، ربما لهذا السبب بالتحديد كان الشعر من أقدم الفنون، الشعر يحوَّلنا من السالب الخاضع إلى الموجب المسيطر، يسمح لنا بالسيطرة على حدثٍ صادمٍ خضعنا إليه أو أثر بنا، والكتابة هي أداة مقاومة بالدرجة الأولى، كأن نقول للفاجعة: لن نسمح لك بسحقنا. الشعر يجعلنا نداً في وجه أيّ قوَّة مهما بلغ جبروتها، الشعر يطرد عنا شعور الهزيمة ويستبدله بالتحدي، وهنا سحر الشعر، هل هو وهم أم حقيقة؟ لا أعرف، وليس مهماً أنْ نعرف.

 حمدان: الشعر صرخة من الأعماق تقاوم مرور الوقت ولا تتلاشى ببساطة


















من ناحية أخرى، ربما يكون الشعر بمثابة علاج جماعي، للكاتب نفسه وللضحية، يُعبر الشعراء عن شعور أولي أو متطور يتردد صداه ويؤثر بعمق مع تجربة القراءة. هو شاهد متفرد أيضاً، يختلف عن شهادة التاريخ ـ التاريخ قد يكون مزيفاً أو مختلقاً وليس حقيقياً بالضرورة، أو شهادة الإعلام الكاذب أو البارد أو سهل التعامل معه.

الشعر هو صرخة من الأعماق تقاوم مرور الوقت ولا تتلاشى ببساطة، هو ما يبقى ليعكس الصورة الأعمق والأقرب، هو الأكثر جرأة، والأكثر قدرة على الوصف، يصور لنا الكارثة التي لا يمكن التصرف بها مع مرور الوقت؛ وهنا بالتحديد يتغلب الشعر على التاريخ، يعطي إحساساً بالكارثة يجعلنا نشعر بها، نتلمسها ونشم رائحتها، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فسيكون الشعر مجرد أمر مروع ويائس أو ما هو أسوأ، كارثة كالكوارث الأخرى. جدوى الشعر في زمن الفجائع، شهادة تاريخية ميزتها أنّها ذاتيّة تماماً.

كوثر دوزي (تونس): القوَّة الساحرة
لا أميل إلى المعاني الكبيرة ولا إلى القضايا الكبيرة رغم أنّ السؤال يبدو أنّه يتوجه إليها من خلال الإشارة إلى جدوى الشعر في زمن الفجائع. كما أنّ سؤال الجدوى يخيفني، ويجعلني أفكر كثيراً قبل الإجابة لأنّه للأسف اليوم هناك ميل لربط الأشياء بأسباب مباشرة وواضحة، سبب ثم نتيجة، ويتم تحديدها بشكلٍ حادٍ وقطعي.
ويتم البحث أحياناً كثيرة عن النتائج بشكلٍ "وظيفي". ويخضع ذلك لمنطق العرض والطلب. وعلى الأغلب تكون الانتظارات مادية أي تكون لها نتائج ملموسة بإمكان الأشخاص مسكها وقياسها. وهذا في اعتقادي يخالف الشعر وجوهره.

  دوزي: الشعر– عاطفة، عاطفة كبيرة (حسب تعبير بورخيس)


















أميل إلى رؤية الشعر أكثر قرباً من حياتنا اليومية وتفاصيلنا الصغيرة، كأن أعتبر الشعر مثل ابتلاع ريقنا كي نستمر بعد انقطاع النفس. أو أن أعتبره مثل تربيتة على كتف البشريّة أو الأشخاص الحقيقيين هنا كي نقول لهم لا بأس، ما زال العالم بخير.. هو كذلك بريق عينين لم تجف دموعهما بعد. للقول: ما زال هناك أمل في مكان ما..
كما أنّه في ظلِّ كلّ الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة أصبح هناك تهديد مباشر وغير مباشر لوجود الأشخاص وتعاملهم مع ذاتهم والآخر. وأصبح هناك تهديد حتى لأحلامهم الصغيرة.
أيضاً في اعتقادي هناك أزمة في إنتاج المعاني عامة. فقد تراجع دور الدين والفلسفة والمعاني التي كان تقدمها سابقاً أو على الأقل تراجعت هذه الأنساق عن القيام بدورها أو هي في أحسن الأحوال تعيش أزمة حادة يجعل منها في أغلب الأحيان لا تنتج المعاني التي قد تخفف من وطأة الفجائع التي تحدث. مما يجعل دور الشعر يتعاظم كلّ يوم. إذ أنّنا نحتاجه لترميم هذا العالم والتخفيف من وقع فجائعه على وجدان الأشخاص وذواتهم.

وأعتقد أنّ الشعر اليوم يشتغل في مناطق أخرى مختلفة قليلة على الأقل عن الفترات السابقة، مثل زمن أمل دنقل ونازك الملائكة حيث كانوا يتحدثون باسم الشعوب وأزماتهم، وكذلك كان درويش رمزاً للقضية الفلسطينية.
اليوم في ظلِّ انتشار التكنولوجيا وتعبير كلّ الأشخاص عن أزماتهم ومشاكلهم بطرقهم وعن طريق تمثلاتهم وتصوراتهم، فإنّ الشعر ينوط له الاشتغال أكثر عن تلك التعقيدات و"ضياع المعنى" والأزمات الاجتماعية والانحدار الثقافيّ والسياسيّ وحتى الاقتصادي الذي تشهده المجتمعات. والبحث أكثر عن المساحات المركبة في مشاعر وأحاسيس الأشخاص.
لكن ليس لدي طريقة جاهزة ولا يمكن لأحد تقديم وصفة جاهزة. والشعر نفسه لا يعرف الطريقة. وذلك أصلا ما يجعله شعراً.
سأكون مادية جداً وسأقول إنّ الشعر لا يملك أسلحة متطورة ولا سيارات مفخخة وليس له مكان وسط تلك التفجيرات المنتشرة في كلّ مكان.  لكنه -أي الشعر– عاطفة: عاطفة كبيرة (حسب تعبير بورخيس). إنّه تلك القوَّة الساحرة التي تمتلك قدرتها ومنطقها الخاص كي تدخل أعماق الأشخاص. في اعتقادي هذه العاطفة قادرة أنْ تجعل العيون تبتسم رغم كلّ شيء.

 

حسن بولهويشات (المغرب): تقاعس القصيدة عن الدور المنوط بها
تواترت الفجائع على إنسان الألفية الثالثة من كلّ صوب وحدب، وتعدّدت فجائع الذات والعوائل، وخسارات الأوطان فضلاً عن جشع الحكام واستمرار التضييق على الحريات، وأساليب التهجير والقتل المادي والرمزي حتى صارت الأوطان مقابر حقيقية في شرق الكرة الأرضية.
أوطانٌ لا تنام على فجيعة إلا لتستيقظ على أخرى أمّا الذين ينامون على الطوى وبمغصات الخذلان والخيبة ومع ذلك يكابرون ويترفعون عن إشهار آلامهم فهم أكبر من أنْ يُحصوا. ولا نملك مع هذا المعطى السلبي إلّا أنْ نتساءلَ بإلحاح عن دور الكتابة الإبداعيّة، وعن جدوى الشعر بالتحديد في زمن سيء بالمرّة.

  بولهويشات:  يخيل إليّ أنّ هناك تحاملاً جماعيّاً على الشعر تشارك فيه المؤسّسات الثقافيّة ودور النشر والقرّاء، وأيضاً الشعراء أنفسهم


















إنّ السؤال عن دور الشعر في فترتنا المعاصرة يشي في حدّ ذاته بتقاعس القصيدة عن الدور المنوط بها، وبعدم قدرتها على مجاراة هموم الإنسان وتطلعات المرحلة، على الأقل في هذه المنطقة. ومن باب الأمانة أنْ نتساءلَ عن من الذي أخرج شعوب شمال أفريقيا والشرق الأوسط في ثورات احتجاجية جارفة عصفت بأعتى الأنظمة؟ هل الشّعراء وقصائدهم أم وسائل "السوشيال ميديا" وما طلعت علينا به من فداحة وغزارة الصورة؟
أحياناً يخيل إليّ أنّ هناك تحاملاً جماعيّاً على الشعر تشارك فيه المؤسّسات الثقافيّة ودور النشر والقرّاء، وأيضاً الشعراء أنفسهم عندما لاذوا بأبراجهم العالية وجلسوا يكتبون قصيدة مكتظة بالاستعارات والمجازات، ومترفعة عن الواقع.

قصيدةٌ غيبّت المخاطبَ الوحيد الذي هو الإنسان. من يفهم الآن ربع ما كتبه أدونيس وهو الذي نذر نفسه للشعر؟ وكم يبيع سعدي يوسف من ديوان شعري في السنة؟ وكم عدد الجوائز المرصودة للشعر مقابل الرواية مثلاً؟
وأريد أنْ أنقل لكم بإخلاص تأفف تلاميذ أقسام الإعدادي والثانوي بالمغرب من الشعر قديمه وحديثه. لا يحبّونه مادةً للدرس ولا موضوعاً في الامتحان بل يتعاملون معه على مضض كما لو أنّهم يتناولون صحناً من القطاني في صيف قائظ. ومع ذلك لا أحد يستحضر هذا المعطى السلبي، ولا الشعراء أنفسهم أدركوا الهوة التي وصلت إليها القصيدة.
شخصيّاً أصبحتُ لا أطمئن إلى الشعر. أجده لا يجاري فجائعي الشخصية وضيّقاً عن أنْ يحتوي ما أريد قوله. لقد قمتُ بتصفية تركتي معه نهائياً بعدما كتبتُ ديوانين وهذا يكفي ولا أريد أنْ أفتح فمي وأكون ثرثاراً وثقيلاً أكثر من اللازم. وبالمناسبة لقد حملتُ كتابيّ الشعريّ الجديد إلى مكتبات العاصمة الرباط قبل يومين وتألمتُ من استخفاف أرباب المكاتب من بضاعتي الجديدة، اعتذروا عن تسلم النسخ وأكثرهم عطفاً عليّ وعلى المتنبي تسلّم منّي نسخاً لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. ماذا تريدون منّي بعد هذه المهزلة الشخصية؟ هل أستمر في كتابة الشّعر بدعوى الوفاء الأبدي للقصيدة؟ وهل أكتفي بالكتابة لقارئٍ وحيد هو أنا بذريعة أنّ الشّعر علاجٌ. أراهن حاليّاً على قصصي القصيرة وعلى رواياتي التي لم أكتبها.
مات الشّعر يا أصدقاء وبقيَّ الشّعراء وحدهم يهيمون في وديانٍ عامرة بأسماك ميتة!

 

حبيبة محمدي (الجزائر): نحتمي بالشعر كفعل مقاومة
الشعر نداء من داخل روحك، يغويك باجتياح السماء بالفرح، رغم حزنك.. الشعر رئتي الثالثة التي أتنفس بها عندما يخنقني الواقع.. الشعر ميلاد آخر، عندما يحوَّلنا الواقع إلى جثث باردة، لا نبض فيها للحياة.. الشعر حالة -عندي- بين الفرح والحزن أسميه، الشجن النبيل.
الشعر انفجار الروح بمواجعها، ولا شيء يجعلنا كباراً، سوى ألم كبير.. من رحم المعاناة، تخلق الروح الصلبة.. من قسوة الحياة، تطير حمائم البهجة حول أرواح الناس لتنشر بينها السعادة والسلام.. الشعر حال محبة، ومقام هوى.. الشعر "استطيقا" الحياة كلّها، الشعر هو ما يجمل حياتنا من زيفها وقبحها.. الشعر جمال الروح.. الشعر ما يعلو بمشاعرنا، ويسمو بها إلى علياء وأعلى.. الشعر فعلُ مقاومة في الحياة ضدّ القبح والظلم والذل والفساد، والهوان.. الشعر بطاقة الحب التي نقدمها معايدة لمن نحب.. الشعر قبسٌ من ضياء الروح.. الشعر جسرنا إلى الآخرين.. الشعر روح الحياة، لأنّ الوجود روح ومادة.. الشعر هودج ذكريات تتمايل في صحراء الروح، فنشرب حبره بنعناع المحبة ثم نواصل السير.

 محمدي:  لا أكتب إلّا ما أعرف أو أذوق أو أحيا.. ومن ذاق عرف

















أقول في ديواني «وقت في العراء»: "أنْ تكتب ما تعرف، هو نعناع يزكي ما يشربه حبرك من محبة"، لذلك أنا لا أكتب إلّا ما أعرف أو أذوق أو أحيا.. ومن ذاق عرف، لأنّ التجربة الشعريّة، تشبه حالة تصوف بعد عزلة، فهي تجربة فردية وجدانيّة بين صروح الوجود، وأعالي الحرّيّة، وصهيل الروح للمعرفة.. لا أحب التصنع في الكتابة ولا "الفذلكة"، صدقوني كلّ ما نكتبه بصدق ومحبة، هو: شعر.

العالم بوصفه ظاهرة جماليّة فنيّة، بفعل الشعر.. الشعر طفولتنا، لا تغادرنا.. الشعر براءتنا في مواجهة العالم، ودهشتنا الباقية.. الشعر ما يبقى فينا، من طهر، بعدما تكون الحياة قد شوهت أرواحنا أو جزءاً كبيراً منها.. الشعر عمل انقلابي تقوده الروح.. الشعر تمرد على واقع، لا نريده بوجهه القبيح.. الشعر تطلع ووثبة.. الشعر بوتقة احترق فيها كلّ شيء قبيح وقاتم، ليولد من جديد، كلّ ضوء ولون جميل..  الشعر أنْ تقول: "لا" حينما الكل يقول: "نعم" إرضاءً للقطيع..
الشعر حالك أنت نفسك، حين لا تشبه أحداً.. الشعر كلّ هذا وأكثر في زمن الفجائع، الشعر سلاح أرواحنا في وجه الظلم والظالم معاً.. الشعر قافية ننسجها، لنؤجل موتنا ليلة أخرى، ونحمي أنفسنا من سيف "مسرور".. "مسرور" هذا، حاكم ظالم، وسياسيٌّ يمارس العهر، لا ضمير له، والعالم أصم وأبكم.

الشعر في زمن الفجائع زمن الطغيان والموت والدم.. ربما نكتب لمنع ضلالة فاسد أو صد ظلم أو فساد أو الذود عن أبرياء.. الفظائع في زماننا كثيرة: حروب ومجازر، وتهجير وموت.. نحتمي بالشعر كفعل مقاومة.. حينما يصمت الحكام ويتآمر الساسة، يكون وحده الشاعر أمير الكلمة الذي يستل سيفه من غمد الروح، ويكتب لنا ما يؤازر الروح المجروحة.. الشعر رئتي الثالثة مرة أخرى.. الشعر اشتياق الروح إلى برزخ الجمال، هرباً من حياة لا تطاق، كثر فيها المزيفون والفاسدون والحاقدون والمتآمرون والظالمون.. الشعر هو الحياة عندي.. هو ميلاد آخر ربما لحياة أجمل.. أنا دائماً في حالة انتظار لقصيدة أجمل، قد أكتبها وقد أموت دونها.. لكن في كلّ الحالات.. أتحايل على الحياة ببيت أو قصيدة.. أكتب الشعر لأقترف ذنب الحلم.. الشعر وطن ومنفى في آنٍ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.