}

عام أحزان استثنائية.. مبدعون غادرونا في 2020 (1-2)

دارين حوماني دارين حوماني 3 يناير 2021
هنا/الآن عام أحزان استثنائية.. مبدعون غادرونا في 2020 (1-2)
(آدم حنين)

كثيرة هي الخسارات التي تحاصرنا ونحاول الإفلات منها لكنها تظل تنبش فينا باستمرار، لا نريد أن نعدّها لكنها تظلّ على علاقة وطيدة معنا، تلك التي نسمّيها فقدان أفراد كانوا لنا بمثابة الضوء في عالمنا الجوّاني، وكانوا ذات يوم قادرين على تشكيل وجوهنا بالفرح أو بالحزن. ثمة خسارات مرتبطة بذلك العالم البرّاني، العالم الذي نسمّيه العالم العربي، الذي خسر وخسرنا معه مبدعين تناوبوا على منحنا سماء ملوّنة واحتمالات لحياة أخرى أقل تورّطًا مع الموت، قبل أن يرحلوا في السراب. 
عام 2020 كان عام أحزان استثنائية، ألقى بسطوته الرمادية على العالم كله، واختطف كثيرين ممّن قدّموا للعالم العربي عدسة نرى من خلالها الحياة بشكل أوسع وأعمق وأقل ظلمة. سنحكي هنا عن بعض الأسماء التي حفرت عميقًا فينا، وثمة مبدعون آخرون، جذورهم باقية في هواء العالم العربي، لكن سطور هذه المقالة لن تسعهم، منهم من صمت قبل رحيله بسنوات، ومنهم من فاجأه الموت وهو يحاول أن يقول شيئًا. سنحكي قليلًا عن المخرج السوري حاتم علي، الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد، النحات المصري آدم حنين، الشاعر اللبناني صلاح ستيتية، المخرجة المغربية ثريا جبران، الكاتب الفلسطيني رسمي أبو علي، الكاتب والناشر السوري رياض الريّس، الناقد المسرحي المصري حسن عطية، الروائي المصري رفعت سلام، الروائية المغربية نعيمة البزّاز، الكاتب المصري سعيد الكفراوي، الروائية العراقية ناصرة السعدون، المخرج السوري علاء الدين كوكش، الكاتب المصري نبيل فاروق، والشاعر المغربي حكيم عنكر.
هنا الجزء الأول:
"رفيق العرب"
لكن قبل أن نبدأ بالحديث عن سجّلات نفوسهم التي تركوها لنا إرثًا لعالم عربي يضع مبدعيه على الرفّ حتى من قبل أن يرحلوا، نريد أن نحكي عن رفيق العالم العربي، البريطاني- الإيرلندي، الذي كان صديقًا لفلسطين وللقضية الفلسطينية ولنا، ربما أكثر منا وأكثر مما كنا أصدقاء مع أنفسنا ومع بعضنا البعض، وهو روبرت فيسك، الذي رحل أيضًا في هذا العام الموسوم بالألم.
روبرت فيسك (1946) الصحافي والمراسل الحربي والكاتب والمؤرّخ. بدأ حياته المهنية في صحيفة صنداي إكسبرس، وفي عام 1972 انتقل إلى صحيفة التايمز البريطانية حيث تم تعيينه مراسلاً للشرق الأوسط في عام 1975، فقَدِم إلى لبنان مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية وكان شاهدًا على أبرز المعارك اللبنانية خلال الحرب، ومن هناك ثبّت العدسة على معاناة الفلسطينيين وكان شاهدًا حيًا على مجزرة صبرا وشاتيلا (1982). كان فيسك حاضرًا في إيران ليغطّي ثورتها على الشاه (1979) كما عمل على تغطية حرب الخليج الأولى (1980-1988). في عام 1989 انتقل إلى صحيفة الإندبندنت البريطانية فغطّى حرب الخليج الثانية (1990-1991)، وحرب البوسنة والهرسك (1992-1995) ثم حرب كوسوفو (1998-1999)، والحرب الأميركية في أفغانستان (2001)، والغزو الأميركي للعراق (2003)، وكذلك كان شاهدًا على مجازر الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين في غزة بين العامين 2008 و2009، كما غطّى الحرب الأهلية السورية منذ عام 2011، ولم يكن فيسك في كل ذلك مراسلًا عاديًا، كان يكتب من الأرض تقارير توثّق ارتعاشات القتلى وصلوات الموتى. حصل فيسك على دكتوراه في العلوم السياسية في عام 1983 لكن جامعات عديدة قدّمت له الدكتوراه الفخرية ومنها الجامعة الأميركية في بيروت، جامعة كوينز، جامعة لانكستر وغيرها من الجامعات. حصل فيسك أيضًا على عدد من الجوائز منها جائزة غودو للصحافة، جائزة مارثا غيلهورن للصحافة، جائزة منظمة العفو الدولية للإعلام، جائزة جايمس كاميرون، وجائزة جاكوب. أصدر فيسك مجلّدًا بعنوان "الحرب الكبرى في ذريعة الحضارة- غزو الشرق الأوسط" (2005) منتقدًا فيه السياسات الأميركية والبريطانية ودورها في الأزمات في الشرق الأوسط وتورّطهما فيها. كما أصدر كتابًا بعنوان "ويلات وطن- صراعات الشرق الأوسط وحروب لبنان" (2008) وهو سردية للحرب الأهلية اللبنانية بكل تفاصيلها بما فيها مذبحة صبرا وشاتيلا ومشرّحًا التدخّلات الأميركية- البريطانية- الفرنسية في لبنان.
أثار فيسك جدلًا واسعًا بسبب تصريحاته، فإثر انتفاضة اللبنانيين في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 علّق قائلًا: "ما يجري ليس نتيجة خدعة أميركية فحسب، بل الوضع الحالي هو نتيجة مباشرة لنظام الانتداب الاستعماري بعد الحرب العالمية الأولى والذي فصل لبنان عن سورية".
وإثر إعلان "صفقة القرن" صرّح فيسك قائلًا: "نها الخطة التي قالت وداعًا لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وداعًا للقدس عاصمة لفلسطين، وداعًا للأونروا، لكنها رحبّت بالاحتلال الإسرائيلي الدائم للضفة الغربية، والضمّ الكامل للمستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت هناك منتهكة القانون الدولي". كما علّق على تجريم كندا لمقاطعي إسرائيل: "قرار كندا تجريم مقاطعة إسرائيل مضحك". وقد أمضى فيسك حياته يتعرّض لهجمات اللوبي المؤيّد لإسرائيل في أميركا وبريطانيا بسبب نقده الدائم لانتهاكات إسرائيل الإنسانية. وعُرف عنه بأنه كان معجبًا بكتّاب إسرائيليين دافعوا عن حقوق الفلسطينيين كعميرة هس وجدعون ليفي.
في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2020 تعرّض فيسك لسكتة دماغية أودت بحياته، تاركًا صوته في سمائنا يغذّي ذاكرتنا دومًا بما يخصّنا ويخصّ فلسطين، قضية العرب.




حاتم علي
حاتم علي (1962) "أمير المخرجين" والممثل الذي بنى لنا ذاكرة بصرية ضرورية لأوجاعنا بالقدر الذي أتيح له ماديًا ورقابيًا؛ لم ينتهِ عام 2020 دون أن يحدث فينا الحزن حتى آخر نفس، فعاجله بالموت قبل أن يكمل مشروعه الفكري.
ولد مخرج "التغريبة الفلسطينية" في الجولان السوري المحتلّ في مدينة فيق، التابعة لمحافظة القنيطرة المطلة على بحيرة طبريا، ونشأ فيها حتى عمر الخمس سنوات حين حلّت النكسة، فارتحل مع أهله قسرًا إلى مخيم اليرموك؛ هذا الارتحال سيعلق في ذاكرة حاتم علي الدفينة والذي انعكس كالوجه فوق ماء البحيرة في مسلسل "التغريبة الفلسطينية". يقول علي عن المسلسل: "لم أعتبره مجرد عمل، بل ترقّبته كالإنجاز الأهم في حياتي، لسبب بسيط هو أنّه جزء من ذاكرة مؤلفه الكاتب الفلسطيني وليد سيف وذاكرتي أيضًا. أحسستُ بأنه يخصّني أكثر من أي عمل آخر". وفي مخيم اليرموك ستكبر مخيلة علي وهو يتبادل مجلدات "حمزة البهلوان" مع رفاقه، وهي سيرة شعبية فيها من الخيال ما فيها من الواقع التاريخي.
هو الأخ الأكبر في عائلة من ثمانية أخوة. عاش طفولة حزينة وهو يعمل في مهن شاقة جنبًا إلى جنب مع استكمال دراسته. أنهى دراسته الجامعية في الفلسفة ثم التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية وتخرّج في عام 1986. أول أعماله في التمثيل كان في مسلسل "دائرة النار" (1988) بشخصية "عبدو أجير الفران"، وتوالت الأعمال التمثيلية إلى أكثر من ثلاثين عملًا مع أهم المخرجين السوريين، منها "هجرة القلوب إلى القلوب" لهيثم حقي (1990)، "الخشخاش" لبسام الملا (1992)، "الجوارح" (1994) لنجدة إسماعيل أنزور، "الغريب والنهر" (1996) لهشام شربتجي. في عام 1995 سيضع توقيعه على أول عمل من إخراجه منفردًا "فارس في المدينة" دون أن يتوقف عن التمثيل، بعد أن وقف مساعدًا للمخرج هيثم حقي لسنوات.
درجة درجة كان حاتم علي يبني عمارته المتينة القائمة على طرح أكثر القضايا إشكالية بدقة تصويرية عالية مستعينًا بأبرز كتاب السيناريست منهم زوجته دلع الرحبي في مسلسل "الفصول الأربعة" مع ريم حنا (1999-2002)، ممدوح عدوان في مسلسل "الزير سالم" (2000)، أمل حنا في "أحلام كبيرة" (2004)، ووليد سيف في "صلاح الدين الأيوبي" (2001) والثلاثية الأندلسية: "صقر قريش" (2002)، "ربيع قرطبة" (2003)، و"ملوك الطوائف" (2005) وآخرين. تمكّن حاتم علي من تحويل نصوصهم إلى بصمات على جدار عالم عربي متنافر، أضاء له الأمكنة بشحنات بصرية توثيقية وفكرية مضادّة لكل ما يستخفّ بعقول الجمهور، فكان له أكثر من خمسة وعشرين مسلسلًا وثلاث مسرحيات وعدد من الأفلام. تربّعت أعمال حاتم علي على عرش الدراما العربية، أعمال ستبقى راسخة في ذاكرتنا منها "التغريبة الفلسطينية" (2004)، "الملك فاروق" (2007)، "قلم حمرة" (2014)، "العراب" (2014)، و"كأنه مبارح" (2018). ودرجة فوق درجة دعس حاتم علي بخطوات واثقة وصار أكثر جرأة في تشريح معاناة بلاده وبلادنا العربية ما تسبّب في فصله من نقابة الفنانين في سورية عام 2015، فيرحل صوب مصر ويستقر هناك، رغم حصوله على تأشيرة الهجرة إلى كندا. قدّم علي أيضًا عددًا من الأفلام أبرزها "شغف" (2005) و"سيلينا" (2009). كما كتب السيناريو لعدد من الأفلام والمسلسلات منها فيلم "زائر الليل" ومسلسل "القلاع". وكتب للمسرح عددًا من المسرحيات منها "الحصار"- ثلاث مسرحيات فلسطينية (1982)، وكان بدأ حياته ككاتب، فبعد "الحصار" كتب قصصا قصيرة "موت مدرّس التاريخ العجوز" (1985) و"ما حدث وما لم يحدث" (1994)، كذلك كتب قصصًا للأطفال منها "رحلة إلى الفضاء" (1985). كان علي يظن أنه سيصير كاتبًا: "كنتُ أحلم بقصص حب لم أجرؤ على تحويلها إلى واقع". ومع كل ما أنجزه، عمل أيضًا في الدوبلاج، وكان منتجًا لعدد من الأعمال. وقد فاز بأكثر من سبع عشرة جائزة محلية وعربية ودولية، كانت أولها مباشرة بعد انطلاقته في الإخراج عن فيلم "آخر الليل"، وهي جائزة أفضل مخرج من مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون في عام 1996.
في 29 كانون الأول/ ديسمبر سيرحل أمير الإخراج والخجول الممتلئ بالعاطفة الذي كان يعدّ أنفاس الممثلين ويرتّبها بحب على مقاس زوايا الصورة وبدقة وعناية. ترك الكثير رسائلهم له لكنه هذه المرة لن يسمعها ولن يعدّها، سيرحل خائفًا على "الدراما السورية التي تكاد أن تختفي".


هارون هاشم رشيد
من فلسطين كان هارون هاشم رشيد (1927) يحرس العودة إليها منذ التهجير الأول للفلسطينيين في عام 1948 حين كان مقيمًا في غزة قبل أن تلتقطها أصابع الاحتلال الاسرائيلي في عام 1967 فيُجبر على الخروج منها صوب مصر. في عام 1954 بدأ رشيد بنشر دواوينه الشعرية التي بلغت عشرين ديوانًا واتسمّت بالثورة والارتباط المقدّس بالأرض وبالعودة حتى سمّي "شاعر العودة" وكانت قصيدته "راجعون" نشيدًا يوميًا في المدارس في غزة قبل النكبة، يقول فيها: "عائدون عائدون، إننا لعائدون، الحدود لن تكون، والقلاع والحصون، فاهتفوا يا لاجئين إننا لعائدون". ومن دواوينه "الغرباء" (1954)، "حتى يعود شعبنا" (1965)، "فدائيون" (1970)، "يوميات الصمود والحزن" (1983)، "ثورة الحجارة" (1991)، "وردة على جبين القدس" (1998). تولّى رشيد في غزة رئاسة مكتب "إذاعة العرب" المصرية في غزة، وكان مشرفًا على إعلام منظمة التحرير الفلسطينية بين الأعوام 1965 و1967، ثم تبوّأ منصب مندوب فلسطين المناوب في جامعة الدول العربية. كتب رشيد الرواية أيضًا فكانت له رواية "سنوات العذاب" (1970)، "راشيل كوري حمامة أولمبيا" (2005)، و"أبو جلدة والعرميط" (2007)، وكتب أربع مسرحيات منها "السؤال" (1967)، و"سقوط بارليف" (1974)، كانت فلسطين فيها الصوت الأوبرالي الذي يخترقنا بسهولة نحو الأعماق، كما أصدر دراسات في الشعر منها "الشعر المقاتل في الأرض المحتلة" (1970). غنّت فيروز من قصائد رشيد وكانت بدايتها إثر لقائهما في عام 1955 في مصر، فغنّت له قصيدة "مع الغرباء" ثم "راجعون" وغيرها من القصائد. ومن بين الذين غنّوا من قصائد رشيد فايدة كمال، محمد فوزي، كارم محمود، محمد قنديل، محمد عبده، وطلال مدّاح. وحاز رشيد على أوسمة وتكريمات فلسطينية عديدة.
في 27 تموز/ يوليو 2020 غيّب الموت هاشم هارون رشيد في موطنه المؤقت كندا فيما كان لا يزال يحلم بالعودة إلى فلسطين، تاركًا يافا في صدى حنجرة فيروز وهي تغني له: "أبي…/ قل لي بحق اللـه/ هل نأتي إلى يافا؟ فإن خيالها المحبوب/ في عيني قد طافا/ أندخلها أعزاء/ برغم الدهر…أشرافا؟/ أأدخل غرفتي، قل لي/ أأدخلها، بأحلامي؟ وألقاها، وتلقاني/ وتسمع وقع أقدامي/ أأدخلها بهذا القلب؟/ هذا المدنف الظامي".


آدم حنين
النحات والرسام آدم حنين (1929)، "صموئيل هنري"، هو "شيخ النحاتين" وأحد أبرز رواد الحداثة الفنية العربية. كان لا يزال في الثامنة من عمره عندما دقّ باب قلبه ذلك الشغف بالنحت، يوم شارك في رحلة مدرسية إلى المتحف المصري للآثار وهناك قرّر الفتى أنه سيصير نحاتًا. يقول حنين إن تلك الزيارة كانت نقطة التحوّل في حياته. التحق حنين بكلية الفنون الجميلة في القاهرة وعندما تخرّج منها في عام 1954 التحق بمرسم الفنون بالأقصر ثم سافر إلى ألمانيا الغربية ليستكمل دراسته في النحت وهناك درس في مرسم أنطوني هيلر في عام 1957. عاد بعدها إلى "النوبة" في عام 1961 وعمل كرسام وكمستشار فني حتى عام 1971 عندما انتقل إلى عاصمة الضوء باريس ليعيش فيها لأكثر من خمسة وعشرين عامًا وهناك انتقل الفنان من مرحلة التعبيرية إلى التبسيط والتجريد، وقد عمل في نفس الفترة بين الأعوام 1989 و1998 مع وزارة الثقافة المصرية في ترميم تمثال أبي الهول في الجيزة. في عام 1996 عاد ليستقرّ في قرية الحرّانية حيث أقام مسكنه ومحترفه في منزل من الطوب الطيني، وأسّس "سمبوزيوم أسوان الدولي لفن النحت" الذي يجمع سنويًا فنانين من جميع أنحاء العالم. وفي عام 2007 أنشأ حنين "مؤسسة آدم حنين للفن التشكيلي" للحفاظ على التراث. أقام عددًا من المعارض الفردية حول العالم، كما شارك في معارض جماعية. وقد نال عددًا من الجوائز منها الجائزة الكبرى لبينالي القاهرة الدولي 1992 وجائزة مبارك عام 2004.
كان الفن الفرعوني وتلك التماثيل المصرية القديمة المادة الخام في تشكيل أعمال آدم حنين، كان يعتبر أن الفن الفرعوني هو الميزان والمقياس في رؤيته للفنون وللحياة. لم ينضوِ تحت أي مدرسة فنية، لم يلتفت للانطباعية والسوريالية والتكعيبية، كانت غريبة عنه وعن تربته، وكان يرى أن أعماله هي نتاج حوار دائم مع الطبيعة، يرى حنين أن الفن الفرعوني حرّره من وطأة الإحساس بالزمن وفتح عينيه على زمن الأبدية والخلود. أعمال آدم حنين التجريدية ذهبت في اتجاه حرية التعبير النحتي وحملت مفاهيم عميقة تتعلق بالزمن والأزل. عمل على أشكال هندسية تجريدية ثلاثية الأبعاد وعلى رؤوس ووجوه وكذلك على حيوانات كالطيور والقطط والأسماك. كائنات حنين موغلة في زمن مضى، زمن عاد فقط بين أصابع يديه عندما احتكّت بالغرانيت والبرونز والصخر، كائنات تأخذنا إلى أمكنة أكثر صفاءً ورقّة. ولم يكتفِ حنين بالنحت بل كان رسامًا وقد عمل أيضًا من خلال الرسم على إحياء تقنيات قديمة مثل الرسم على ورق البردى بأصباغ ممزوجة بالصمغ العربي أو تقنية الرسم على الجص التقليدية. ثمة منحوتات لحنين في عدد من دول العالم منها تمثال حامل القدور من البرونز في حديقة النحت الدولية بأميركا، وتمثال طائر من الرخام الأبيض بأكاديمية الفنون بروما. كما وُضع تمثال "البومة" في متحف الفن المصري الحديث مع قطع أخرى، وتمثال الحمار الذي ثبّته الفنان الراحل رمسيس واصف في قرية الحرانية بالجيزة. وفي حديقة منزله حيث متحفه الدائم ترك لنا حنين المركّب الغرانيتي الضخم "سفينة نوح" الذي كتب عليه حنين اسم زوجته عفاف، وإلى الجانب الآخر تمثال لأم كلثوم.
صباح الجمعة 22 أيار/ مايو 2020 توفي شيخ النحاتين مخلّفًا وراءه أكثر من 4000 منحوتة تكلِّمُنا كلّما تأملّناها، وتأخذنا بيدنا إلى زمن آخر لنصير هناك بمحاذاة اللانهائية.


صلاح ستيتية
"صلاح ستيتية يكتب اللغة العربية باللغة الفرنسية"- بهذه الكلمات يعرّف أدونيس شعر صلاح ستيتية (1929) شاعر الثنائيات، وشاعر الضفتين كما كُتب عنه. ويقول أدونيس أيضًا: "بينما كان صلاح ستيتية يفكر ويكتب ويكتشف بالفرنسية، كان يحلم ويرى ويتنهّد بالعربية". هو من عائلة برجوازية بيروتية، كان والده يكتب الشعر بالعربية لكن ستيتية الحائز على إجازة في الحقوق والدبلوماسي الرفيع كتب معظم أعماله بلغة موليير التي أحبّته فأطلقت اسمه على إحدى قاعات متحف الشاعر بول فاليري تقديرًا له. كان ستيتية عروبيًا وفرانكوفونيًا، لم يتخلَّ عن هويته العربية وثقافته الاسلامية فيما كان يتتلمذ على يد المفكر الفرنسي غبريال بونور في الجامعة اليسوعية في بيروت ثم على يد المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في الكوليج دي فرانس، وكتب في النقد الأدبي في مجلة "الآداب الحديثة" بباريس وفي كبريات الصحف الفرنسية، ومن هناك جمع بين الهويتين ليشكّل جسرًا ثقافيًا ممتدًا بين الشرق والغرب، فكان باريسيًا وبيروتيًا، صوفيًا وغربيًا، تقليديًا وكونيًا، كما يحكي رفاقه عنه. أصدقاء ستيتية هم إيف بونفوا ورينيه شار وأندريه دو بوشيه وذلك الجيل الذي انشغل بالشعر والفكر والفلسفة. كان معلمه الأول مالارميه فكتب عنه عددًا من الدراسات، وفي الوقت نفسه كان يترجم الشعر الصوفي ويكتب "نور على نور أو الإسلام الخلاق"، و"رابعة النار والدموع" وغيرها من الكتب في حقل التراث الاسلامي.
عُيّن ستيتية في السلك الدبلوماسي بباريس في عام 1963، ثم سفيرًا للبنان في هولندا عام 1981، ثم في المغرب عام 1985، ثم عاد إلى بيروت ليتسلّم مناصب عدة في وزارة الخارجية والمغتربين، وأصدر في بيروت ملحقًا أسبوعيًا لجريدة "لوريان لو جور" هو "لوريان الأدبي والثقافي" بالفرنسية. حاز ستيتية على جوائز عديدة منها جائزة الفرنكفونية من الأكاديمية الفرنسية، وجائزة الصداقة العربية الفرنسية، وجائزة ماكس جاكوب وغيرها من الجوائز. نشر أول دواوينه الشعرية عن دار غاليمار "الماء البارد المحروس" في عام 1972 ثم وجد نفسه بين يديّ الشعر فنشر أكثر من عشرة دواوين شعرية، منها "معاكسة الشجرة والصمت"، "الكائن اللعبة"، و"الجهة الأخرى المحترقة من الصافي جدًا". وقد ترجمت معظم نتاجاته إلى العربية وإلى أكثر من خمس وعشرين لغة، كما ترجم ستيتية أعمال بدر شاكر السياب وجبران خليل جبران وأدونيس إلى الفرنسية.
في أحد حواراته يقول ستيتية: "الكاتب العربي الذي يكتب بلغة أجنبية ليس مضطرًا إلى القيام بأشياء لا علاقة لها بالكتابة، كالالتزام بنظم سياسية أو بمعايير دينية. يضاف إلى ذلك أن الكاتب العربي ليس عنده دخل مادي، ولا يوجد قرّاء في العالم العربي، القارئ عندنا هو الأكثر جهلًا مقارنة مع قرّاء العالم"، بهذه الكلمات شرّح ستيتية العالم العربي أدبيًا قبل أن يغادره في 19 أيار/ مايو 2020 حيث إقامته في باريس، وهو الذي سعى دومًا إلى تدمير الحواجز اللغوية، وبنى مشروعه الثقافي النقدي والشعري الممتدّ بين الضفتين، وهو القائل "إن صاحب الإبداع المتميّز لا يموت".


ثريا جبران
ثريا جبران (1952) "السعدية قريطف"، سيدة المسرح المغربي. توفي والدها وهي لا تزال طفلة فرافقت والدتها حيث كانت تعمل في مؤسسة خيرية وهناك عاشت طفولتها التي كان لها التأثير الكبير في وجدانها. بتشجيع من المخرج عبد العظيم الشناوي، الذي توفي أيضًا قبل وفاتها بشهر واحد، انتسبت جبران إلى "معهد المسرح الوطني" بالرباط في عام 1969 وكانت الأعمال المسرحية في تلك الفترة تحت رقابة السلطات المشدّدة. التقطت جبران قلوب المغاربة منذ صعودها الأول على المسرح مع المسرحي الراحل الطيب الصديقي في مسرحيتي "سيدي عبد الرحمن المجدوب" في عام 1980، ثم في مسرحية "أبو حيان التوحيدي" في عام 1984 ضمن "فرقة الناس". في عام 1985 ستكون لها تجربتها العربية في مسرحية "ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ"، فكرة نضال الأشقر ونص وليد سيف وإخراج الطيب الصديقي، وقد عرضت المسرحية على عدد من مسارح الوطن العربي والعالمي. كان ذلك قبل أن تلتقي برفيق دربها، المخرج عبد الواحد عوزري، ويؤسّسا معًا في عام 1987 "مسرح اليوم" الذي أصبح أحد أبرز الفرق المسرحية المغربية والعربية التي قدّمت مسرحًا متجذّرًا في التراث وتقاليد الفن الشعبي وطقوس الذاكرة الجماعية، كما اتّسم أيضًا بالتجريب الجمالي والتجديد في مختلف العناصر الدرامية والسينوغرافية، وجمعت الجمهور النخبوي والجمهور الشعبي حولها، وقدّمت جبران فيها تعبيرًا حيًا عن معاناة المهمّشين والذين عايشتهم في المؤسسة الخيرية التي عاشت فيها طفولتها. ومن الأعمال التي قدمتها "أربع ساعات في شاتيلا" لجان جينيه، "حكايات بلا حدود"، "النمرود في هوليود"، "البتول"، "الجنرال"، "امرأة غاضبة" وغيرها الكثير من الأعمال التي بقيت في وجدان المغاربة. لاحقت عيون المخبرين ثريا جبران من مكان لمكان، وقد تم اختطافها ذات ليلة فيما كانت متوجهة للمشاركة في حوار إذاعي وتم حلق شعر رأسها في تلك الليلة.
قدّمت جبران أيضًا عددًا من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية ومنها "غياب"، "الناعورة"، "الفراشة السوداء"، "ربيع قرطبة"، "صقر قريش"، "عود الورد". وقد سُجّل لجبران التحاقها بـ"بيت الشعر في المغرب" في عام 1996 وكان لها الدور البارز في مسرحة العديد من التجارب الشعرية. تبوأت جبران منصب وزيرة الثقافة عام 2007 وكانت أول فنانة تحصل على هذا المنصب، لكنها بعد سنتين قدّمت استقالتها بسبب عدم قدرتها الصحية لمتابعة الأعمال كما قالت. حصدت جبران في حياتها جوائز وتكريمات مغربية وعربية وعالمية عديدة منها وسام العرش من رتبة قائد، ووسام الجمهورية الفرنسية للفنون والآداب، وتكريمها الأخير في مهرجان قرطاج في عام 2017.
في رسالتها في يوم المسرح العالمي التي تكتبها جبران كوصية لنا، تقول: "حقيقة المسرح، بالتأكيد، ليست كحقيقة الخدع السينمائية، ولا حقيقة التلفزات التي تحجب الرؤية، ولا حتى حقيقة المطابخ السياسية السائدة، حيث تعد الوصفات والتوابل، وتُطبخ الطبخات على نار هادئة في المختبرات والكواليس الدولية – كما كتب الشاعر الراحل محمد الماغوط – ثم يأكلها الكبار في الغرب والشرق، بينما يكتفي العرب بغسل الصحون! (أفكر هنا بالأخص، في العرب الذين لا يريدون العودة إلى التاريخ بعد أن خرجوا منه!) لا تصفّقوا تصفيقًا خاطئًا. لكم أعجبني ما قاله الروائي الألماني غونتر غراس: التصفيق الخاطئ من الجهة اليمنى يغري التصفيق الخاطئ من الجهة اليسرى!.. لا خدع سينمائية في المسرح يمكنها أن تمجّد الحروب، وتضخم البطولات الكاذبة. على العكس، يعتني المسرح بمعطوبي الحروب، وبالمهزومين والمظلومين والمكلومين. ويعطي الصوت لمن لا صوت له".
توفيت ثريا جبران يوم 24 آب/ أغسطس 2020.


رسمي أبو علي
رسمي أبو علي (1937): "رسمي حسن محمد علي"، "شاعر الرصيف" المحتجّ على السائد، الساخر الجميل من الواقع الحزين. ولد في قرية المالحة قرب القدس، في عام 1948 احتل الصهاينة القرية فانتقلت العائلة إلى بيت لحم ثم إلى عمان، ومن القاهرة تخرّج من المعهد العالي للفنون المسرحية في عام 1964. عمل في إعداد وتقديم برامج ثقافية ومنوعات وتعليقات سياسية في إذاعة عمان من عام 1964 حتى عام 1966 مع تيسير سبول، ثم في إذاعة فلسطين في القاهرة حتى عام 1970 مع يونس شلبي ومحمد صبحي. في ذلك العام عاد إلى الأردن ليلتحق بالإعلام المركزي التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية لكن أحداث أيلول الأسود أخذته إلى درعا ثم إلى بيروت في عام 1971 ليلتحق بدائرة الثقافة والاعلام لمنظمة التحرير. امتلك أبو علي صوتًا إذاعيًا مؤثّرًا فكانت له مشاركات بصوته في عدد من الأفلام ومنها فيلم "لمن الثورة" (1974) وفيلم "تل الزعتر" (1977). في سن الأربعين سينهمر ذلك المخزون من الأسى والاحتجاج على الثقافة الفلسطينية الرسمية، وسينشر أبو علي قصته الأولى "قط مقصوص الشاربين اسمه ريس" في مجلة الآداب في عام 1980، وكانت قصة مضادّة كليًّا لتيار أدب المقاومة السائد آنذاك بكل أبعاده. وكان أبو علي يكتب أسبوعيًا في النهار اللبنانية، وفي عام 1981 سيؤسّس مع الشاعر علي فودة وثلاثة شعراء عراقيين مجلة "الرصيف 81"، ولم يكن مشروع "الرصيف 81" بالنسبة للشاعرين مجلة بل كان نهجًا ونظرية، كانت هناك حاجة لصياغة نظرية ثورية جديدة تشمل المهمّشين، يقول أبو علي عن المجلة: "كانوا ينظرون إلى الفلسطيني إمّا كلاجئ يثير الشفقة، أو كفدائي سوبرمان، لم يكن يُلتفت إلى ما بينهما؛ الإنسان الفلسطيني العادي، أو رجل الرصيف". لكن مع صدور العدد الأول اتهمهم الماركسيون بأنهم قد تخلوا عن الكفاح المسلّح، وواجهت المجلة هجومًا واعتراضًا من منظمة التحرير الفلسطينية وتحديدًا من الشاعر محمود درويش الذي رأى "أن الثورة لا تحتمل هذا المزاح"، ما أدّى إلى خلاف بين فودة وأبو علي، ولم يتأخر ذلك كثيرًا فقد استشهد فودة خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان في عام 1982 ورحل أبو علي على قارب يحمل فدائيين من لبنان صوب ميناء بانياس ثم إلى الشام، ومن هناك سيستمر في الكتابة في صحيفة النهار التي كان يترأس ملحقها الثقافي الشاعر شوقي أبي شقرا.
في عام 1984 سيكتب رسمي أبو علي الشعر وسيتبعه برواية "الطريق إلى بيت لحم" في عام 1990 ثم سيرة ذاتية "أوراق عمان الخمسينات" في عام 1998 وبعدها مجموعات قصصية وشعرية أخرى، لكن أبو علي يقول: "أظن أنني لم أتجاوز قصتي الأولى "قط مقصوص الشاربين".. كان عليّ أن أصمت بعدها مباشرة".
رسمي أبو علي المتمرّد الضاحك الحزين، كتب بسخرية مرّة، وبنبرة تجمع حكايا فلسطين من حيث تُركت، كتبها بحسّ كاريكاتيري فيه من المشاكسة والنفاذ إلى القلب ما يجعلنا نشعر أن الدنيا لا تزال جميلة. رحيله القسري منذ الطفولة من بلد عربي لآخر سقط بين كتاباته فكانت مرآة للواقع مطعّمة بمخيلة متفرّدة ونائية عن السرديات الكبيرة.
أمضى أبو علي آخر سنوات حياته يرتاد يوميًا مقهى "أوبيرج" وسط عمان، يكتب في مذكراته: "السبب وراء تردّدي إلى المقهى هو شغفي بلعب الورق، وهناك سبب آخر، لعله أن يكون سببًا وجوديًا أو سيكولوجيًا أو ربما سوسيولوجيًا، وربما ببساطة لأنني أحب أن أكون بقاع المدينة في عمان بين السادسة والحادية عشرة ليلًا، فأنا أحسّ أني مرتبط بقاع المدينة منذ خمسين سنة". وفي مساء 8 كانون الثاني/ يناير 2020 افتقده المقهى والرصيف وتم تكريمه هناك حيث كان يرتاح، بعيدًا عن المراكز والكراسي التي هزأ منها دومًا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.