}

في رحيل الفلسطيني محمود صبح.. سفير الثقافة العربية بإسبانيا

مدريد- ميسون شقير 25 فبراير 2022




يقول الشاعر الإسباني الجمهوري الذي رحل منفيًا في فرنسا، أنتونيو ماتشادو: "أيها السائر ليس هناك طريق، الطريق فقط هو ما تصنعه خطانا". ولعل رحيل الأديب والمترجم الفلسطيني الدكتور محمود صبح الذي ترجم ماتشادو إلى العربية، يوم 22 شباط/فبراير 2022، في نفس يوم رحيل ماتشادو، لم يكن مصادفة، فهذا الأخير رحل منفيًا في فرنسا، مقهورًا مطعونًا بالحنين، رحل منفيًا لأن بلاده حكمها الديكتاتور فرانكو، وقضى فيها على أجمل وأول جمهورية عرفتها أوروبا، واغتال صديقه الشاعر الأندلسي فيدريكو لوركا، في حين يرحل الأديب والمترجم الفلسطيني الدكتور محمود صبح أيضًا مطعونًا بالقهر على وطن حمله معه طيلة حياته في قلبه وقلمه وصوته، وطن يبدأ من أول سفينة فينيقية غادرت الساحل الفلسطيني لتبني على طول سواحل المتوسط مدنًا لم تكن موجودة من قبل، ولتنشر لهذا العالم أول أبجدية حقيقية، ولتعلمه ركوب البحر، وصناعة اللون، وطن يمتد إلى أرض كنعان الأولى، ويصل إلى القدس، سيدة السماء والأرض، وطن مزقه نظام الصهيونية العنصري، ومزقته كل القوى العالمية التي دعمته، ولا زالت تدعمه، وطن كان يوزع على البشرية الضوء والمعرفة، يعيش اليوم في القصائد والأغاني، يعيش في حنين أبنائه المُهجرين قسرًا عنه، يعيش في مطرزات الثوب الفلسطيني، ويعيش في صور الشهداء.

يرحل محمود صبح هنا في مدريد، مدينة ماتشادو التي حرمه فرانكو من أن يموت فيها، ومثله يرحل هذا الفلسطيني وهو محروم من مدينته: صفد، التي بقيت لآخر لحظة وشمًا على قلبه، وكأن الشعراء يتبادلون المنافي والأوطان، ويتفقون على الرحيل بنفس اليوم الذي يليق بكل المقهورين والمنفيين في بلاد الله الضيقة.

إن معرفة الأديب والمترجم الدكتور محمود صبح كانت من أجمل ما حصل لي في مدريد، التي جئت إليها منذ ثماني سنوات أحمل في دمي وطنًا يئن، ودمشقًا كانت يومًا سيدة الأندلس، فجعلها النظام السوري ترسل أبناءها لاجئين. هنا فاجأني الإرث الغني الذي تركه محمود صبح للثقافة العربية في إسبانيا، الإرث الذي وصفه عميد المستعربين الإسبان بيدرو مارتينيث مونتابث بأنه ثروة حقيقية للثقافتين العربية والإسبانية، معدّدًا الأعمال التي قام الدكتور صبح بترجمتها من الإسبانية للعربية: مذكرات بابلو نيرودا وقد صدرت عام 1974م، وكانت أوّل ترجمة لهذه المذكرات من الإسبانيّة لأيّ لغة أجنبيّة أخرى، وبعدها أتت مختارات من الشعر الإسباني المعاصر ثم دون كيشوت (دون كيخوته) في القرن العشرين، وكذلك صدرت ترجماته للشاعر الإسباني لوركا، ولأنطونيو ماتشادو، بالاضافة إلى بعض المسرحيات المترجمة من الإسبانيّة، ثم كتابه الشعري الأخير الذي صدر بالعربية والاسبانية بعنوان "قبل أثناء بعد". كما عدّد الأعمال التي ترجمها من العربية إلى الإسبانية وهي: شعراء المقاومة الفلسطينية، وهو أوّل ترجمة إلى لغةٍ أجنبيّة لشعر المقاومة الفلسطينيّة، وذلك عام 1968م. وقد كان آخر وأهم عمل قام به هو كتاب ضخم باللغة الإسبانيّة حول تاريخ الأدب العربي مؤلف من أربعة أجزاء بدءًا بالأدب الجاهلي وحتى الأدب العربي الحديث. وأكد مونتابث أن هذا المؤلف العام والفريد لا يزال يدرس في جامعات أميركا الجنوبيّة جميعها، مشيرًا إلى أن الدكتور محمود صبح هو شخص عالي المسؤولية، وأهم ما يميزه هو اعتزازه بلغته العربية وبثقافته بالإضافة إلى إتقانه الإسبانية وقدرته على الدخول لروحها وترجمة أصعب أنواع الأدب ألا وهو الشعر، وقد عمل فعلًا أفضل ما يمكن أن يعمله رجل شردته الحرب من بلده وجاء إلى إسبانيا لاجئًا.





أما المستعربة الإسبانية كارمن رويث برافو فكتبت عن الدكتور محمود صبح من خلال تناولها ذلك الجوهر الإنساني في شخصية وفي كتاباتاته كلها، وعن أن اطلاعه العميق على الحضارتين العربية والإسبانية من خلال إجادته للغتين، قد جعله شخصًا يحمل إرثين ضخمين استطاع الاستفادة منهما بأفضل ما يمكن من خلال الكتب والترجمات التي أمضى حياته في إنجازها. وكل هذه الترجمات والكتب كانت إلى جانب ثلاثين عامًا من تدريس الأدب العربي في أهم جامعات مدريد، وعشر سنوات ترأس خلالها مدرسة طليطلة للترجمة، كما أنه فاز بجائزة الملك خوان كارلوس الأول للشعر في إسبانيا.

كان محمود صبح الذي رحل عن عمر يناهز 86 عامًا جسرًا حقيقيًا بين الثقافتين العربية والإسبانية، استطاع استقطاب العديد من الكتاب الإسبان لصالح قضيته، فلسطين، واستطاع بناء صداقات حقيقية وعميقة، وكما قال رئيس البيت العربي في مدريد، إدواردو لوبيث، فإنه يمثل السفير الحقيقي للثقافة العربية في إسبانيا.

وقد نعته الشاعرة والأستاذة الجامعية فيكتوريا غمينيث قائلة: "لقد عرفنا فلسطين من خلالك، وأحببنا فلسطين من خلالك، وسندافع عن حق الشعب الفلسطيني لأجلك، نم بسلام يا أجمل الأصدقاء".

وصل محمود صبح إلى مدريد في سن 30 عامًا بعد أن كان حصل على جائزة في الأدب العربي من جامعة دمشق، وعمل مدرسًا للغة العربية في دمشق وحمص، وفي المغرب والجزائر أيضًا، وحين جاء إلى مدريد أكمل دراسة الماجستير ثم حصل على الدكتوراه في الآداب العربية من جامعة كومبلوتنسه العريقة في مدريد وعمل فيها أستاذًا محاضرًا للعديد من أجيال الطلاب العرب والإسبان. وولد في صفد عام 1936، وعاش تغريبة الرحيل عنها عام 1948، ووري جثمانه الثرى هنا في مدريد البعيدة عن صفد آلاف الكيلومترات.

محمود صبح هو الذي كتب: "أيها الفلسطيني ماذا تفعل هنا في غرناطة؟ هل يعيدك البرتقال إلى هناك؟ أيها الفلسطيني ماذا تفعل هنا في ملقة؟ هل يعيد لك البحر بلادك التي تبحر في روحك؟".

أقول له اليوم: أيها الفلسطيني ماذا تفعل الآن وأنت مدفون هنا، بعيد عن فلسطينك كثيرًا؟ فأسمعك تجيبني بالابتسامة التي عهدتها: أقوم الآن بالتحليق حرًا إليها.  

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.