}

سوزان ساراندون نصيرةً لفلسطين: صلابةٌ وكوفيّة

جورج كعدي جورج كعدي 17 يناير 2024
هنا/الآن سوزان ساراندون نصيرةً لفلسطين: صلابةٌ وكوفيّة
سوزان ساراندون في تظاهرة بنيويورك لأجل غزة (نيويورك تايمز)


حتّى الساعة، ومنذ اندلاع المأساة، يطالعنا وجه النجمة الأميركية والممثلة القديرة سوزان ساراندون في التظاهرات المتتالية التي تشهدها مدن الولايات المتحدة، من واشنطن إلى نيويورك فسائر نواحي البلاد التي تغطّي إدارتها والغرف المظلمة فيها مجازر الكيان المجرم في غزة، وعلى نحوٍ لم تشهد العصور الحديثة مثيلًا له بالوحشيّة والهمجيّة وجنون القتل والتدمير والحصار والتجويع وانتهاك الكرامة الإنسانيّة.

لم تسجّل ساراندون مجرّد حضور عابر في الوقفات الاحتجاجيّة من أجل غزّة، بل حوّلت مشاركتها إلى نضال يوميّ لا يهدأ ولا يستكين، وهذا أكثر ما تفرّدت به بين أقرانها وقريناتها من الوجوه الفنّية المعروفة وذات التأثير في المجتمع الأميركيّ، وفي أوروبا والعالم، لكون شهرتها عالميّة. كأنّها تحوّلت بذلك من الاحتجاج إلى النضال من أجل قضية عادلة ومأساة كبرى. وساراندون عريقةٌ في الدفاع عن القضايا المحقّة، ومناهِضةٌ للحروب، خاصة الغزو الأميركي للعراق عام 2003 إذ وقفت مع زوجها تيم روبنز بحزم ضدّ ما سُميّ بالضربة الاستباقية. ولطالما نشطت في دعم الحملات ضدّ قضايا الفقر والجوع وعُيّنت عام 1999 سفيرة للنوايا الحسنة لدى اليونيسيف. وتميّزت في السياسة بمخالفتها السائد والطاغي فدعمت في انتخابات عام 2000 الرئاسيّة المرشّح المستقلّ رالف نادر، وشاركت عام 2008 مع زوجها في حملة جون إدواردز من خارج معسكري الجمهوريين والديمقراطيين، وصولًا إلى عام 2016 ودعمها العلنيّ للمرشّح اليساريّ الدائم برني ساندرز ضدّ دونالد ترامب الذي خشيت، محقةً، من أنّه سيفجّر كل شيء. هذا عدا معاركها ضدّ العنصريّة التي ما برحت متفشّية في الولايات المتحدة.

في ما يتّصل بالقضية الفلسطينية، لساراندون تاريخ مشرّف ومهمّ تعاطفًا وتأييدًا مقرونين بالأفعال وسابقين على مأساة غزة الراهنة، فهي زارت مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في بيروت عام 2019 للاطّلاع ميدانيًّا على حياة اللجوء، ولحضور عرض الفيلم الوثائقيّ "سُفْرة" من إنتاجها وإخراج توماس مورغان، ويروي قصة اللاجئة الفلسطينية مريم الشعّار، القاطنة في مخيّم برج البراجنة، والتي تنجح في تجاوز العوائق لإطلاق مشروعها الخاص القائم على إعداد الطعام وبيعه بواسطة شاحنة متنقلة، بمشاركة مجموعة من اللاجئات الفلسطينيات في المخيّم الذي يضمّ نحو خمسين ألف لاجئ. وكان هدف الشعّار دعم نساء المخيّم وتوفير فرص عمل لهنّ. وإذ نجح المشروع لفت إليه الأنظار بلوغًا إلى توثيقه في فيلم تولّت ساراندون إنتاجه. مشروع مريم الشعّار جذب إحدى نجمات هوليوود الكبيرات إلى بيروت، بل إلى مخيم برج البراجنة حيث غنّت لأطفاله في جوّ من البهجة المعبّرة، وحضرت عرض "سُفْرة" وسط جمهور من المخيّم، نسائيّ في شكل خاص، عبّر عن فرحته بالفيلم ومنتجته، وبمريم ومشروعها الذي خلق المناسبة. مع الإشارة إلى أن هذا الفيلم نال جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان سان دييغو السينمائيّ الدوليّ عام 2018.

سوزان ساراندون تشارك أطفال مخيم برج البراجنة (لبنان) الغناء عام 2019 (رويترز)


لم تدع ساراندون حدثًا فلسطينيًّا بارزًا يمرّ من دون أن تسجّل موقفًا، وإن عبر منصة "إكس" (تويتر سابقًا)، فإثر قضيّة حيّ الشيخ جرّاح غرّدت كاتبةً "أنا مع الشعب الفلسطيني الذي يواجه التطهير العرقيّ والترهيب على أيدي الحكومة الإسرائيلية ومنظّمات المستوطنين اليهود. العالم يشاهد". وفي 11 أكتوبر 2021، ولمناسبة "يوم السكان الأصليين" في الولايات المتحدة الذي ينبغي أن يخلّد، بحسب ناشطين ممن بقي من الهنود الحمر، ذكرى سكان القارة الأصليين، كمأساة إنسانية لشعوب سحقها الاستعمار الأوروبي، عوض جعله ذكرى شبيهة بالاحتفال! رأت سوزان ساراندون أنّه يوم مناسب للتذكير بأرض فلسطين التي طُرد شعبها على أيدي الصهاينة وصُفّي وهُجّر عرقيًّا مثلما حصل مع الهنود الحمر في أميركا، فنشرت عبر حسابها على "تويتر" (قبل أن يُصبح "إكس") رسمًا بيانيًّا تناولته من حساب منظمة "صوت يهوديّ من أجل السلام" Jewish Voice For Peace وفيه مقارنة لمساحة الأرض التي استولى عليها مستوطنون في فلسطين بين عامي 1918 و2021، وأخرى في الولايات المتحدة انتُزعت من سكانها الأصليين بين عامي 1492 و2021. وأعادت المنظمة اليهودية نشر تغريدة ساراندون، شاكرةً إيّاها على "دعم حملة إعادة الأرض إلى السكان الأصليين، وحق الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير في وطنهم". علمًا بأنّ "صوت يهوديّ من أجل السلام" هي منظمة يسارية ناشطة في الولايات المتحدة تدعم حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها.

أيضًا لم تغفل ساراندون سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية الوحشيّة على غزة، فاعتبرت أنّ اعتداء مايو ̸ أيار 2021 "ليس اشتباكًا، بل قوة عسكرية فائقة التسليح تقتل مدنيين لسرقة منازلهم. هذا احتلال واستعمار"، وكتبت في تغريدة لاحقة آنذاك "أساند الشعب الفلسطينيّ الذي يقاتل ضدّ حكومة الفصل العنصريّ لنتنياهو (...)". وكان لها موقف أيضًا من اغتيال الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة عام 2022، مؤكدةً أنّها استُهدفت عمدًا، مثل صحافيين آخرين لا تشغلهم سوى الحقيقة، معلنةً مرة أخرى وقوفها مع الشعب الفلسطيني وكتبت في مدوّنتها "أُعدمت شيرين أبو عاقلة بطلقة في الرأس من بندقية قنّاص إسرائيليّ في حين كانت ترتدي سترة ضدّ الرصاص مدوّن عليها صحافة"، وفي مدوّنة سابقة أكدت "أنّ إسرائيل لن تحصل أبدًا على الأمن والأمان الحقيقيين من خلال قمع شعب آخر، فالسلام الحقيقي ممكن الحصول، بيد أنّه لا يُبنى إلّا على العدالة".

حفاوة فلسطينية بساراندون في المخيم (رويترز)


إلى راهنِ الإبادة في غزة والذي لم تغب عنه ساراندون يومًا واحدًا احتجاجًا وكتابة مدوّنات ومشاركةً في تظاهرات، حتى طغى حضورها كوجه يتعرّف إليه الجميع وسط الحشود، واضعةً غالبًا الكوفية الفلسطينية، مطلقةً الشعارات لحرية فلسطين ولوقف فوريّ لأعمال الإبادة على أيدي الصهاينة، حتّى أمسى دعمها الصلب والمستمرّ لغزة وفلسطين مزعجًا لجهات عديدة، بينها وكالة إدارة أعمال عاملين وعاملات في هوليوود UTA التي كانت متعاقدة مع ساراندون وتدير أعمالها منذ عام 2014، فألغت تعاقدها معها معلنةً أنّ "وكالة المواهب لم تعد تمثل ساراندون بعد الآن"، وأتى القرار بعد تظاهرة نيويورك في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر حيث وجّهت النجمة الأميركية كلامًا إلى اليهود الأميركيين الذين يخشون تصاعد حدّة معاداة السامية فخاطبتهم قائلةً: "كثر يخافون من كونهم يهودًا في هذه الأوقات، هم يختبرون شعور أن تكون مسلمًا في هذا البلد وما يعنيه من تعرّضك للعنف". وقامت الدنيا ولم تقعد، ما اضطرّ ساراندون إلى التوضيح لاحقًا أنّها كانت تعبّر بكلامها عن قلقها بشأن ازدياد جرائم الكراهية. وبات معلومًا حجم الضغوط التي تمارس ضدّ المشتغلين في هوليوود، ما دفع أكثر من ألف وثلاثمائة فنان إلى توجيه رسالة إلى القطاع الفني والثقافي تنطوي على اتهام للمؤسسات الثقافية في الغرب بقمع الأصوات التي تملك وجهات نظر فلسطينية وإسكاتها.

شاركت ساراندون أيضًا في تظاهرة لتجمّع النساء الفلسطينيات في الولايات المتحدة وكتبت عبر منصة "إكس": "ليس ضروريًّا أن تكون فلسطينيًّا كي تهتمّ بما يحصل في غزة. أقف مع فلسطين، ولا حرية لأحد حتى يتحرّر الجميع"، وكتبت أيضًا "وقف النار ليس كافيًا. لا تديروا الظهر للتطهير العرقي. هل تحتاجون إلى أطفال قتلى لتنطقوا؟! ارفعوا أصواتكم من أجل تحرير فلسطين، والمطالبة بإنهاء الاحتلال الغاشم المموّل من الولايات المتحدة، ورفع الحصار عن غزة".

سوزان ساراندون مع مريم الشعار (رويترز) 


لعلّ ساراندون لا تحتاج إلى التذكير بأعمالها السينمائية الجميلة والكثيرة جدًا (95 فيلمًا)، إلّا ربما لجيل شاب لم يعاصر تلك الأعمال، ويكفي التنويه لهذا الجيل ببضعة عناوين لأفلام مميّزة من بطولتها مثل "Pretty Baby" (1978) للمخرج الفرنسي لوي مالّ، و"Thelma and Louise" (1991) للمخرج ريدلي سكوت (تأليف الكاتبة الأميركية من أصل لبناني كالي خوري، وكان له نجاح عالميّ باهر)، والفيلم الرائع الذي نالت عنه أوسكار أفضل ممثلة "Dead Man Walking" (1995) مع الممثل القدير شون پن، وأدّت فيه دور الراهبة بثوب مدنيّ ترافق محكومًا بالإعدام في أيامه الأخيرة قبل حقنه بإبرة الموت... فيلم مؤثّر جدًا من إخراج زوجها تيم روبنز، رفيق الحياة والفن والنضال طوال ربع قرن... ولساراندون إنتاج تلفزيونيّ هائل من ألوف الساعات والأنواع، وعدد من الأفلام الوثائقية، والعديد من الأعمال المسرحية.

هذه السيّدة والفنّانة، النبيلة والشجاعة، التي تحمل وراءها وهي اليوم في السابعة والسبعين تاريخًا فنّيًا ضخمًا ومجيدًا، تناضل لمبادئها واقتناعاتها السياسية وفق مبدأ قل كلمتك وامشِ، غير آبهة وغير خائفة، منتصرةً للإنسان والإنسانية في كل بقعة من بقاع الأرض، وهي تعيش في هذه الأيام أوجاع غزة وفلسطين، مُعْليةً الصوت وغير خاضعة للترهيب.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.   

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.