}

أن تكون لاجئًا...!

أحمد طمليه 14 فبراير 2024
هنا/الآن أن تكون لاجئًا...!
مخيم الحسين في خمسينيات القرن العشرين، بعد النكبة بسنوات

بعد أن طفح مخيم الحسين في العاصمة الأردنية عمان بسكانه، ولم يعد من اليسير استيعاب مأوى للأبناء، ولأبناء الأبناء، صار ثمة زحف نحو أراض مجاورة، بنى الزاحفون فيها بيوتًا ميزتها الوحيدة أنها قريبة من دار الأهل. كان ثمة حرص أن يسكن الفرد الذي كبر وتزوج قريبًا من أهله، فإذا لم يتح له أن يقيم مع عروسه في بيت العائلة، فإنه يختار أن يسكن بالقرب من بيت العائلة، وكأن ثمة خشية أن يبتعد أحد، كأن الدنيا غدت، بعد احتلال فلسطين، ليست أمانًا.
كانت أسقف البيوت مصنوعة من الصفيح: غرفتان في الأغلب وحوش دار تم تملكها بوضع اليد، أي أن الأرض ليست ملكهم، ملك شخص ما، ربما مسافر خارج البلد، أو ربما مشغول عن أرضه بأمر ما. لا أحد يعرف، ولا أحد يريد أن يعرف، "خلي الطابق مستور".
طال الوقت قبل أن يأتي صاحب الأرض مطالبًا بأرضه. القانون معه، جاء ومعه شرطة، وكان أمام أهل الحي خياران: إما الرحيل، وإما شراء الأرض التي يسكنون عليها. من كان يقدر اشترى قطعة الأرض التي يسكن عليها، ومن لم يقدر رحل. لا أحد يدري أين رحل.
الحاجة أمينة، التي استشهد زوجها، وتشتت الأبناء في بلاد الشتات، لم يكن معها ما يمكنها من أن تشتري، ولم ترحل. تمكن صاحب الأرض من أن يحصل على حكم قضائي بإزالة بيتها. حضرت جرافة إلى الحي وهدمت بيتها. نصبت خيمة على حطام بيتها وصارت تنام فيها. لا يمكن للحاجة أمينة أن ترحل... ترحل إلى أين؟ كأن ثمة خوف من الرحيل. الرحيل بالنسبة للفلسطيني المهجر هجرة، تخيفهم فكرة المكان، ولعل هذا ما جعل أحد أبناء الحلال يتضامن معها، فاشترى لها قطعة الأرض خاصتها، وبقدرة قادر، بنت الحاجة أمينة بيتًا متواضعًا.
الإحساس بالتملك، الخوف من أن لا تجد سقفا يسترك، كانت له أعراض جانبية خطيرة على أهل الحي، فقد سرت فيهم حمى إجراء تحسينات على بناء بيوتهم، وبناء غرف جديدة.
تحول الحي إلى ورشة كبيرة لا تشم فيها إلا رائحة الإسمنت، ولا ترى إلا ألواحًا خشبية وحديدًا، وعمالًا وافدين يحملون الباطون على أكتافهم نحو أبنية قيد الإنشاء.
كان البناء عشوائيًا، من دون مخطط، ومن دون رقيب، أو مشرف. بناء سريع، الكل يحاول أن يستغل أكبر مساحة ممكنة للبناء عليها، فالأعين كانت على الأبناء، الذكور تحديدًا: سوف يكبرون، سوف يتزوجون، أين سيسكنون!
بناء عشوائي، بلا تهوية بين البيت والآخر، بلا تهوية في بعض الغرف، بعض الغرف لم يكن فيها شبابيك، ولا شباك واحد يمكن أن يغير الهواء في الغرفة، يمكن أن يسمح بدخول شعاع شمس صغير، يمكن أن ينظر منه الساكن في الغرفة إلى الخارج: زنزانة!
لا يهم، المهم غرفة تأويك، سقف يستر عليك، بيت، مهما كان، يحميك من غول الاستئجار، لا أحد لديه استعداد لأن يستأجر بيتًا، لا أحد لديه إمكانية لأن يستأجر بيتًا. الحصول على مسكن، على مأوى، حلم العمر. حلم قد لا يتحقق في حياة صاحبه، لكنه قد يتحقق في حياة الأبناء، وإذا لم يكن، في حياة الأحفاد.
أحدهم صرف عمره كله في بناء بيت يستقر فيه، ولم يحالفه الحظ للاستقرار فيه، الموت خطفه قبل أن يتحقق له ذلك، فاستقر في قبر. واستقر، في ما بعد، ابنه في البيت، ثم الأحفاد.
هنالك من غامر واشترى شقة في منطقة بعيدة أمضى حياته يدفع أقساطها. تمنى اليوم الذي يعيش فيه في شقته من دون قسط يكسر الظهر نهاية كل شهر، ولم تتحقق أمنيته، مات وفي جيبه كمبيالة.
كان ثمة أسئلة، أيهم أفضل: أن تبني بيتًا، أم تشتري بيتًا، أم تستأجر بيتًا؟ كل الحلول مستحيلة. كل الحلول سوف تستنزف عمرك قبل أن تحققها كاملة، غير منقوصة، بأقساط، وكمبيالات، ومطالبات نهاية الشهر.
البيت المستقل، المأوى، السقف الذي يسترك، هو غاية المنى. كأنك وجدت في هذه الحياة من أجل أن تؤمن سقفًا يسترك. ويروح الناس في هذا المفهوم بعيدًا... بعيدًا جدًا.
تعيش عمرك وأنت تقاتل من أجل أن تبقى مستورًا، كل شيء يهون مقابل الستر، سقف يستر عليك، وعكس الستر هي الفضيحة.
لا أحد يدري ما هو الستر؟ اختلطت المفاهيم، ونجم عن ذلك مشاكل، وسوء فهم، وفي بعض الأحيان، جرائم شرف.
لا أحد يدري ما هي الفضيحة؟ هل هي بعدم وجود سقف للستر، بعدم وجود مأوى؟ أم بفلسطين التي ذهبت مع الريح.





أبو إسحاق تغرب سنوات طويلة، عمل في مجالات شاقة، بعضها مهين، من أجل أن يجمع نقودًا تتيح له أن يبني، أو يشتري بيتًا. كان الهوس نحو البناء تحديدًا، وليس الشراء، يحبون البناء على الشراء، كأن فكرة البناء تعطيهم شعورًا بالتشبث بالأرض.
زوجة المرحوم يوسف عملت خادمة في البيوت من أجل بناء مأوى لأطفالها. وقد ماتت زوجة يوسف، فيما بعد، وكان أول قرار لأبنائها عندما كبروا: ترك المأوى الذي تركته لهم أمهم، والسكن في شقق مفروشة. بحث، بطريقة أخرى عن مأوى، ولا ضرر بالشقة المفروشة، فالحياة كلها، بالنسبة لهم مستأجرة، وليست مُلكًا.

على جدار بيت يشبه الزنزانة في مخيم الحسين في عمان، تنظر فلسطينية إلى مراحل تآكل الخريطة الفلسطينية 


صهيب، عندما تزوج رحل من بيت أهله في مخيم الحسين واستأجر بيتًا في مخيم الوحدات. لا فرق بين البيئتين سوى السعي لإيجاد موطئ قدم في مكان ما.
مأوانا: قبرنا فوق الأرض، قبل أن يحين موعد قبرنا تحت الأرض.
في الحي المحاذي للمخيم، صارت ثمة اجتهادات حول كيف يمكن تقسيم الغرفة إلى غرفتين، وتقسيم البيت الواحد إلى بيتين. لقد كبر الأبناء الذكور، على أي حال، وتزوجوا، واستوطنوا في بيت العائلة، الذي لا يمكن القول إنه اتسع، بل تورم، وصار ثمة أطفال تتعثر بهم أينما رحت وجئت في بيت آيل للسقوط.
أتاح هذا التلاصق بين البيوت، الكثير من المواهب للبعض، منهم من صار يعرف صاحب الخطوات التي تمشي في الطريق، بمجرد أن يطرق صاحبها باب بيته.
أصبحت للأبواب لغة، لكل باب لغته، منها ما يبدو سليط اللسان.
باب دار أبو حسن سليط اللسان، يصدر صوتًا حادًا كلما حاول أحد أن يفتحه، بصرف النظر عن حالة من يحاول أن يفتحه، سواء كان هادئًا، أو منفعلًا، فإن الباب لا يغير صوته، يفتح على مصراعيه، محدثًا صوتًا، حتى لو كان من يفتحه يريد أن يشق منه مقدارًا ما يسمح له بالانسلال داخل البيت.
الحاجة أمينة، بابها يصدر ما يشبه الأنين، بل إنه يئن حقًا، ويد الحاجة أمينة على المقبض تحاول أن تفتحه.
لقد شكت منه لجارتها أم فؤاد. قالت لها الجارة: عليك أن تزيتيه... نقطة، أو نقطتان من الزيت في حلق الباب، وينتهي الأمر. ورغم أن الحاجة امينة نفذت ما قالته لها جارتها بالضبط، إلا إن الباب ظل يئن، كلما حاولت الحاجة أمينة أن تفتحه.
أبو ثابت كان بابه غريب الأطوار، فهو يفتح بلباقة متناهية، بهدوء، لكن ما أن يخطو من يفتح الباب خطوة واحدة إلى الداخل، حتى يصفق خلفه بقوة، محدثًا صوتًا مدويًا.
في الحي المحيط بالمخيم، كان هنالك من يمكنه أن يعرف، أثناء سهره في الليل، وهو في غرفته مغلقًا على نفسه الباب، جيرانه، من خرج منهم، ومن عاد، وذلك من أصوات أبوابهم، بل يعرف من خرج وترك باب بيته مفتوحًا، إذ تبقى ضفة الباب تروح وتجيء، تصدر صوتًا يشبه المواء.
أم محمود فيها هذه العادة، لا تحكم إغلاق الباب، سواء في دخولها، أو خروجها، فيظل الباب يموء إلى أن تشفق عليه هبة هواء قوية وتسده.
أم بهيه شاطرة، إنها تسند الباب بحجر صغير عندما تفتحه من أجل تهوية البيت، تسنده بحجر حتى لا يموء، وعندما يحين موعد النوم، تغلقه، تتأكد أنها أغلقته بأحكام، تتأكد أكثر من مرة أن الباب مغلق. تمسك مقبض الباب بيدها وتحاول بكل قوتها أن تفتحه، وحين تتأكد أنه محكم الإغلاق تطمئن وتذهب إلى النوم.




تقول إنها لا تفعل ذلك من أجلها، فهي كبيرة، أكل منها الزمن ما أكل، لم يبق فيها ما يمكن أن يثير شهية أحد، لكن من أجل ابنتها بهية، فهي صبية، في ريعان الأنوثة، وتخشى عليها من نهم الغرباء وعابري الطريق. تقول إن الرجال لا يؤمن جانبهم، إن وجدوا لقمة شهية في طريقهم يأكلونها بنظراتهم، حتى لو كانوا متخمين بزوجات سمينات يقطرن لحمًا دسمًا.
حرصها على بهية ليس وليد اللحظة، بدأ منذ أن بدأ جسد بهية بالتشكل. كانت تراقبها خفية. لا تسمح لابنتها أن تشعر بأنها تراقبها، حتى لا تعرف البنت أن ما يحدث خطير ومريب. كانت تقول، بينها وبين نفسها: سوف تعرف كل شيء وحدها. سوف تعرف، لاحقًا، معنى أن تكون أنثى في وسط كل هذا الزحام.
لاحظت أن صدرها راح ينمو مثل حبتي الكرز، وأصبح، مع الوقت، لها أرداف. وهي تتابع بصبر شديد مجريات ما يجري.
وحين أتتها بهية، ذات يوم، وقالت لها سرًا، لم تتفاجأ، إذ كانت تعرف. كانت تنتظر. فرحت عندما سمعت، اختلطت دموع الفرح مع دموع أخرى، كانت على خدها تسيل.
لو الأمر متروك لأم بهية، كانت اقتلعت العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة من جذورها، مصرة أن ما يحدث عيب، ولا يجوز. كلما تذكرت تفاصيل ما حدث ليلة دخلتها، تستغفر الله من الشيطان الرجيم، وتردد: "إشي بخزي"!!!
مواء الأبواب هو الأكثر استفزازًا لمن يجافيه النوم، ويقضي ليله ساهرًا. لا يستطيع التركيز في شيء. لا يسمع إلا مواء الأبواب.
جعفر أنعم الله عليه وهجر بيته وسكن في أحد الأحياء البعيدة. في تلك الأيام كان هناك ما هو بعيد، وما هو قريب. بعيد عن ماذا! لا أحد يعرف. قريب من ماذا؟ لا أحد يعرف. لكنه ترك باب بيته مفتوحًا. شكل الأمر قلقًا للجيران القريبين. أرسلوا إليه أكثر من مرة أن يأتي ويجد حلًا للباب، لكن جعفر لم يأت. جاء، بدلًا منه مستأجر جديد أرسله جعفر، فشكا الجيران للمستأجر من الباب، فقرر الرجل أن يخلعه، يستبدله بباب جديد.
ما حدث يومها كان غريبًا، فما إن دق فيه النجار أول مسمار لغاية خلعه، تفتت الباب بسرعة، وبات رمادًا متناثرًا.
سعيد لا يسأل، يترك الباب مردودًا على الدوام، من دون أن يحكم إغلاقه بالمفتاح، طالما هو قريب لم يبتعد. يقول:
من المغفل الذي يمكن أن يأتي ليسرقني، لا شيء عندي يستحق السرقة، وأهل الحي موجودون دائمًا، لا يسمحون لنملة أن تمر من دون أن يعرفوا من أين أتت، وإلى أين ذاهبة.
يغلق الباب بالمفتاح في حالة واحدة فقط، إذا سافر، وهو لا يسافر إلا إلى العقبة، يذهب إلى العقبة من أجل أن يستأجر غرفة في فندق شعبي تتيح له الاختلاء بنفسه. أما لماذا العقبة بالذات؟ لأن فيها بحرًا. صحيح هو لا يرى البحر، ويبقى حبيس غرفته، لكن يؤنسه وجود بحر في المدينة التي يسكن فيها. كما أنه لا يغلق الباب بالمفتاح خوفًا من حرامية، أو سرقة، بل خشية أن يأتي أحد وينام فيه، أو خشية أن تنفجر، في غيابه، جرة الغاز.
كان سعيد مسكونًا بهاجس انفجار جرة الغاز، يقوم أكثر من مرة للتأكد من أن جرة الغاز مغلقة جيدًا. وعندما يبتعد قليلًا عن البيت ويعود، يشعر أن رائحة الغاز تعبق بالمكان، يفتح الباب والشبابيك، ويبقى مرعوبًا من فكرة أن البيت يعبق برائحة الغاز، إلى أن يأتي من يقول له إن لا رائحة غاز في البيت، وإن الرائحة الكريهة مبعثها المطبخ. حينها يسكت ويحاول أن يغير الموضوع.
حياة صعبة: الحيطان لها آذان، الأبواب تتكلم، جرة الغاز قد تنفجر في أي لحظة، البحر ملاذ، لكن العلاقة معه عصية على الفهم، الوحدة السكنية في المخيم لا تتسع للأبناء، ولأبناء الأبناء، ولا بد من البحث عن سقف للستر، عن موطئ لقدم في الشتات، والحال على قد الحال. زحام، وأطفال تتعثر بهم في الطرقات، وعلى أدراج البنايات الآيلة للسقوط. وفوق ذلك، أحلام وكوابيس.
في الحي المحاذي لمخيم الحسين، كان ثمة لاجئون لا ينامون ليلهم الطويل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.