}

عادل إمام: في مبالغة التمسك بوهج النجوميّة

أحمد طمليه 5 مارس 2024

لا أعرف بالضبط ما الذي كان يدور في المحيط الضيق للفنان عادل إمام قبل أن يتم الإعلان عن اعتزاله. لكن ما كان يلاحظ هو المحاولات المستمرة لإظهاره في مناسبات، وعبر صور تؤخذ له ولا يظهر فيها إلا بعد معالجة، لإظهاره، قدر الإمكان، أنه بخير، يتمتع بصحته على أكمل وجه. ثم نرى صورًا تشير إلى قيام عادل إمام بزيارة ما، كزيارته لعزاء الفنانين حسن يوسف وشمس البارودي، بفقد ابنهما، لكن صورة إمام، في تلك الزيارة، لم تكن ظاهرة بوضوح.

هو بخير، لكنه طعن في السن. لم يعد الذي نعرفه. بل أصبح، ربما، على مشارف التسعين، ربما أكثر، ربما أقل، لا أحد يدري. تؤذينا الصور المدروسة التي كان يظهر فيها. يؤذينا أن نراه على هذا النحو، بعد أن اعتدنا رؤيته "زعيمًا" بكامل صحته وعافيته.

ربما الأجدى تركه في حاله. ربما الأسلم له ولمعجبيه أن يعيش حياته بهدوء وسلام، بعيدا عن أعين الكاميرات. بعيدًا عن المشاركة في مناسبات، أقل ما يمكن القول عنها: ليس وقتها. ماذا يعني أن يكبر عادل إمام؟ لماذا الإصرار على أخذه إلى أماكن ما، أو ترتيب استضافته لضيوف، الغاية منها القول إنه بخير.

في زيارتها الأخيرة له، صدمت الممثلة إلهام شاهين حين رأته. لم تتمكن من تمالك نفسها وهي تراه طاعنًا كثيرًا في الوهن. راحت تصرخ، على مرأى منه: لا أريد أن أكبر... لا أريد أن أكبر. ثم جاءت زيارة لبلبة التي منعت من رؤية "الزعيم"، مما أثار استهجانها، ودعاها للقول: بيننا عشرة عمر.

يبدو السؤال للوهلة الأولى: هل المشكلة مشكلة الدائرة الضيقة المحيطة بعادل إمام، أم أن المشكلة فيه نفسه؟

في آخر تصريح له، وقد بلغ به الوهن ما بلغ، وتكالب الزمن عليه، فظهر، بالصور القليلة التي يظهر بها للعيان عجوزًا لا حول له ولا قوة، ضعيفًا بالكاد يقدر أن يضبط حركات شفتيه، هزيلًا لا يقدر على رسم ابتسامة واضحة المعالم، يقول عادل إمام إنه يفكر أن يقدم عملًا فنيًا جديدًا، مستشهدًا بمسلسل "فالنتينو"، آخر أعماله التلفزيونية الذي أنجزه بشق الأنفس. إن هذا التصريح يدل على أن المشكلة هي في عادل إمام، وليست بالمحيطين به. المشكلة كانت تكمن بتشبثه الظهور على الشاشة، حتى لو كان السن لا يسعفه، ولا الصحة، ولا القدرة على الظهور أمام الكاميرا، كما كان يظهر في عز عطائه. ويدل على أن النجومية، إذا كانت تعلي من شأن صاحبها وهو في عز العطاء، فإنها تحرقه إذا بالغ في التمسك بها. وهذا ما جعل التقاعد، أو الاعتزال منطقيًا، بل ضروريًا إذا أراد صاحب الشأن أن يحافظ على اسمه وسمعته، فبأي وجه يمكن أن يظهر إمام في أي عمل جديد، وهل من السهل على المشاهد أن يتقبله؟

في تقديري، الظروف الغامضة التي سبقت الإعلان عن اعتزال عادل إمام، تعود إلى "الزعيم" نفسه، إذ أرى أنه كان يرفض الاستسلام بسهولة إلى حقيقة أنه كبر، ولم يعد كما كان. المشكلة به، وليست في المحيطين به، الذين احتاجوا وقتًا حتى يقتنع الفارس أن عليه أن يترجل.  

ولد إمام في المنصورة عام 1940 وعاش صباه في حي السيدة زينب، وحصل على بكالوريوس زراعة من جامعة القاهرة ثم التحق بفرقة التلفزيون المسرحية. تجسدت فرصته الفنية الأولى في مسرحية "أنا وهو وهي" التي تحولت لاحقًا إلى فيلم سينمائي، وبات وجهه مألوفًا على شاشة السينما، حيث قدم في عام 1969 سبعة أفلام دفعة واحدة، وفي عام 1973 حصل على أول بطولة سينمائية في فيلم "البحث عن فضيحة" مع المخرج نيازي مصطفى، وبعد ذلك بدأت الأدوار تنهال عليه، فما أن انتهى عقد السبعينيات حتى كان نجم الشاشة، وبات اسمه الأكثر تداولًا.

وللحق، فإن عادل إمام صنع نجوميته بيديه، فيكفي أنه لم يهبط إلى أدوار البطولة بالمظلة كحال كثيرين، ويكفي أنه شق طريقه بعناد وإصرار وعصامية، بدءًا من أدواره الهامشية، ثم الثانوية، فالمشاركة بالبطولة، وصولًا إلى أدوار البطولة المطلقة. وقد ظل خلال مسيرته الفنية، التي تزيد عن المائة وعشرين فيلمًا سينمائيًا، قريبًا من نبض الناس، ومن التقاط ما يضحكهم، ويثير البهجة في قلوبهم، حتى أن ملامحه بحد ذاتها باتت تضحك الكثيرين.

تزامنت تلك الصرخة في مسرحية "الزعيم"  مع الصعود المفاجئ لممثلي الكوميديا الجدد الذين باتوا ينافسونه في المسرح ودور السينما


وهناك الكثير من مفرداته الساخرة غدت تتداول على ألسنة محبيه ومعجبيه، ونجح في أن يكون قريبا من الجمهور، فحقق أفلامًا اكتسبت انتشارًا جماهيريًا، وإن كان ذلك جاء على حساب تقديم أفلام ذات أهمية وقيمة فنية.

غير أن أكثر ما يستوقف الاهتمام في مسيرة عادل إمام الفنية، هو الانقلاب المفاجئ في طبيعة الأدوار التي يقدمها، فحتى التسعينيات ظل يعبر عن شريحة الفقراء، أي الفقير الذي يتعرض للقهر والظلم، ويأخذ في النهاية حقه بيديه، كما لاحظنا ذلك في سلسلة أفلام منها "النمر والأنثى"، و"حب في الزنزانة"، و "المولد"، وغيرها من الأفلام التي يتعرض بها فقراء مصر لاضطهاد الطبقة البرجوازية الفاسدة.

لكن، بعد منتصف التسعينيات راح عادل إمام يقدم أفلامًا يجسد من خلالها شخصيات برجوازية فاسدة، وبدأ ذلك مع فيلم "التجربة الدنماركية" الذي يستعرض حياة موظف كبير في وزارة الشباب له أربعة أبناء شباب، يعيشون معًا بعد وفاة الوالدة يمارسون الرياضة الصباحية، ويبالغون في تناول الطعام. ويحدث الانقلاب في حياة الأسرة عندما يصبح الأب وزيرًا للشباب، ويستقبل في بيته فتاة قادمة من الدنمارك (نيكول سابا) للإقامة بضعة أيام، وتود أثناء ذلك أن تنقل التجربة الدنماركية إلى المجتمع المصري، وخاصة ما يتصل منها بالثقافة الجنسية. وحسب تسلسل الأحداث المعدّ يقع الجميع في حب الفتاة: الأب والأبناء، غير أن الأب هو الذي يفوز بها، ويقدم استقالته من الوزارة ليعيش حياته كما يريد معها. ولكن، وفي اللحظة الأخيرة وإثر صحوة ضمير مباغتة، يقرر الأب على مدخل الطائرة، أن يترك الحبيبة الفاتنة ويعود إلى أبنائه، لنراهم في المشهد الأخير يمارسون الرياضة: الأب والأبناء وزوجاتهم والأحفاد الجدد.

هذا هو السياق العام لأحداث الفيلم الذي طغت على تفاصيله مبالغات تفتقد الحد الأدنى من المنطق والإقناع. فإذا سلمنا بكيفية حياة الأسرة من حيث النهم الشديد في تناول الطعام، وافتعال معارك ضروس مع الآخرين، فمن المتعذر استيعاب الضجة التي أثارتها الفتاة الدنماركية بمجرد وصولها إلى مطار القاهرة. تخيلوا عريسًا يترك عروسه ويلحق بالفتاة القادمة، وصعايدة، وموظفين، وأجانب يلحقون بها، ويدخلون معها إلى بيت وزير الشباب لاستراق المزيد من النظر إلى اللحم الدنماركي الرخيص. مبالغات تفوق التصور: فتاة تتمرغ شبه عارية في حديقة عامة فيتوقف السير والكل يحاول أن يلقي عليها نظرة، ثم نراها في ملابس الرقص الشرقي تقتحم اجتماعًا لمجلس الوزراء، ثم تجمع الأبناء الأربعة في غرفة نومها لتعطيهم درسًا بواسطة شريط فيديو إباحي عن الجنس. والرجل الطاعن في السن الذي يقوم بخدمة البيت وطهو الطعام يتحرش بها على أمل أن يلامس طيف جسدها، وفوق كل ذلك يقع "الوزير" في حبها فنراه وهو يرتدي ملابس شبابية، ويسهر معها في أحد الملاهي الليلية، في مشاهد تثير الشفقة على عادل إمام وقد بدا محياه وتجاعيد وجهه وملامحه الطاعنة في السن، أبعد ما يكون عن هذه الأجواء، وأحوج ما يكون إلى شيء من الاتزان يتناسب مع وقار سنه.

وعلى طريقة أفلام عادل إمام يتم إقحام الفيلم بأبعاد وطنية، وذلك عندما يقوم وزير الشباب بزيارة إلى أحد الأندية الرياضية التابعة للوزارة فيجد النادي قد تحول إلى مكرهة صحية. غير أن هذا البعد لا يأخذ أي مدى، ولا يتعدى المحاولة التي أريد لها أن تكون مضحكة فجاءت "بايخة". وفي المجمل لا وجود في الفيلم لغير عادل إمام، فالمؤلف يوسف معاطي، ومن بعده المخرج علي أدريس، وحتى الذين شاركوا في التمثيل، بما في ذلك نيكول سابا، كانوا أسرى هالة إمام، فظنوا أن ما يقترفونه عمل فني كوميدي.

إن واقعة "التجربة الدنماركية" أعادت الأضواء إلى عادل إمام، ولكن هذه المرة لقراءة الأسباب التي تدفعه لقبول تقديم مثل هذه الأفلام، فالممثل الذي اعتاد أن يضحك الناس بنظرة من عينه، أو بإشارة أو إيماءة، بدا يجاهد لانتزاعها منهم دون جدوى. ثم ما قصة الجنس الذي يحرص على مواصلة تكراره بمناسبة ودون مناسبة؟ ولماذا يصّر على أن يظهر دائمًا زير نساء؟ ومن أوحى له أنه ما زال فتى أحلام الفتيات اليافعات؟ وهل تبرر الكوميديا والبحث المحموم عن الضحك أن يرتدي المرء ثوبًا غير ثوبـه، ويظهر في سن غير سنه، ويمارس اهتمامات لا تتناسب، إطلاقًا، معه؟

لا أدري لماذا عدت بمخيلتي، عندما شاهدت هذا الفيلم، لتلك الصرخة التي أطلقها عادل إمام، في مسرحية "الزعيم"، حين وقف على منصة مرتفعة وهو يرتدي ملابس الجنرال القائد ويصرخ بأعلى صوته وبحدة شديدة: "أنا الزعيم"، فقد تزامنت تلك الصرخة مع الصعود المفاجئ لممثلي الكوميديا الجدد الذين باتوا ينافسونه في المسرح، ودور السينما، بل وباتوا أيضًا يتفوقون عليه في الإيرادات، الأمر الذي يوحي أن تلك الصرخة تجاوزت حدود النص المسرحي وتوجهت إلى الممثلين الجدد، بل وإلى الجمهور أيضًا، وأريد لها الرد على الانتقادات التي طاولته، وأن يحجم الوجوه الصاعدة، وأن يعيد تذكير الجمهور بأنه الزعيم الذي لا يعلى عليه.

غير أن تشبث "الزعيم" بزعامته جاء هشًا، قائمًا على قناعة ليست دقيقة مفادها بأنه يستطيع أن يتحايل على الزمن، وأن يواصل تقديم الأدوار التي تدغدغ نهم المراهقين، وأن ينافس الوجوه الصاعدة بتقديم أدوارهم، فقدم بعد ذلك فيلم "أمير الظلام" اخراج ابنه رامي إمام، ثم قدم أفلامًا ظل يظهر بها باعتباره ابن الطبقة البرجوازية الفاسدة ، الذي يعتقد أنه يستطيع شراء الناس بأمواله، كما تجلى ذلك، بشكل أو بآخر، بأفلامه الأخيرة: "عريس من جهة أمنية"، "السفارة في العمارة"، بل حتى عندما اختاره المخرج المبدع مروان حامد ليلعب دورًا في فيلم "عمارة يعقوبيان" إذ أسند إليه دور الباشا ابن الباشوات الفاسد.

في آخر تصريح معلن يقول عادل إمام إنه يفكر أن يقدم عملًا فنيًا جديدًا، مستشهدًا بمسلسل "فالنتينو" آخر أعماله التلفزيونية الذي أنجزه بشق الأنفس


وقد أثارت موجة أفلامه الجديدة عدة مفارقات منها: عطاء الممثل وسطوة النجم، فعادل إمام أعطى للفن، ويعد مدرسة في الكوميديا، واستطاع أن يحطم أرقامًا قياسية في الاستحواذ على قلوب المشاهدين، ولفترة زمنية شكلت بحد ذاتها رقمًا قياسيًا من حيث امتدادها لأكثر من عقد، وظل متفانيًا في عمله، قابلًا بتعدد وتنوع فريق العمل الذي يعمل معه، وذلك طوال الوقت الذي كان فيه متفردًا بالساحة، وأفلامه لا يخشى عليها بالنسبة للإيرادات، نجمًا لا خلاف عليه. لكن، وبمجرد بروز التنوع الذي ظهر على الساحة، وصار ثمة أفلام تنافس في دور العرض، اختلف الحال، وطغت نرجسية النجم على عطاء الممثل.

لم تقتصر نرجسية النجم على هذا الجانب فقط فقد انعكست بظلالها على فريق العمل الذي يعمل معه، فبدوا صغارًا يتفيأون في ظله، وهذا ما بدا جليًا في أفلامه الحديثة، فلا يمكنك أن تقول إن ثمة مؤلفًا فعلًا، ولا تستطيع أن تجزم بأن ثمة لمسات خاصة لمخرج، وحتى الممثلين المشاركين هم هلاميون بلا مضامين، على غرار نيكول سابا التي أريد لها أن تكون مبعث إثارة في فيلم "التجربة الدنماركية" فبدت بلا طعم: جسد مجاني لا يلفت الانتباه. ولقد بدا جميع العاملين في هذا الفيلم كأنهم يفصلون ثوبًا على مقاس "الزعيم"، ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يصنع فيلمًا بمواصفات فنية مقبولة، ويثير أكثر من علامة استفهام حول مصير "الزعيم".

حتى الرمق الأخير، ظل عادل إمام حريصًا على أن يظهر في أدوار يبدو فيها فتى النساء المشتهى، فهل إذا عاد إلى الشاشة وهو موغل في كل هذا العمر يمكنه أن يواصل لعب هذا الدور؟

أكاد أشك أن الأمور كادت أن تفلت من أيدي الجميع، أمام إصرار عادل إمام، بشكل أو آخر، على أن يعود إلى الشاشة، فللنجومية الطاغية ثمنها، لها ما لها من علل وأعطاب في الروح. النجومية تقتل صاحبها إذا لم يعد قادرًا على مجاراتها، إذا لم تجد من يوقف، أو يخفف وهجها. وإذا بقيت الحال على حاله فإن ظهور عادل إمام على الشاشة من جديد، لن يتعدى كونه تحنيطًا مؤذيًا لصاحبه.

كنت أشعر كلما تابعت أخبار عادل إمام أن صرخة: "أنا الزعيم"، التي أطلقها في مسرحية "الزعيم"، ما زال صداها يصدح في الأرجاء. وبقيت تصدح... وتصدح، مسببة ما تسببت به من ظروف غامضة أثارت استغراب كثيرين. منهم من وصل به الأمر إلى اتهام أبنائه بمنع زيارته، ومنهم من ظن أن "الزعيم" يتعرض إلى ظلم ما، سجن ما، محاولة ما لإبعاده عن ناسه وأحبابه، إلا إنني أرى أن قرار الاعتزال الذي تم الإعلان عنه، احتاج أخذه كثيرًا من الوقت، إلى أن اقتنع "الزعيم" أن عليه أن يترجل. وأنا هنا لا أوجه اللوم إليه، ولا أتهمه بالنرجسية، بل أحاول أن أشير إلى ما يمكن أن يفعله وهج النجومية، إذا عجز صاحبها عن مواصلة القبض عليها!! 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.