}

الطوباوية كطاقة تغيير

هنا/الآن الطوباوية كطاقة تغيير
من داخل معرض "التفكير بالصور ومن الصور"
هل هنالك وجهةٌ ما للتاريخ؟ هل يجب أن يكون انتباهنا موجّهًا إلى الواقع التجريبيّ كمُعطى نهائيّ؟ أم يجب أن يكون تركيزنا أكثر على مثالٍ طوباويّ مُتعالٍ عن هذا الواقع؟ جزءٌ لا بأس به من فلسفة العلوم الاجتماعية يحاول أن يميّز بين الإصلاح الاجتماعي الحقيقي، حيث العيونٍ موجّهة إلى الإمكانيّات المُخزَّنة في الواقع العياني، والإخلاص لأيديولوجيا مثالية، حيث الأذهان مسحورة بتصوّر مثالي يتجاوز الواقع. فيلسوف مدرسة فرانكفورت، ماركس هوركهايمر (1895 ــ 1973)، في كتابه الصغير "كسوف العقل" عام 1947، فرَّق بشكلٍ دقيق بين النزعتَيْن في إشارته إلى العلاقة الجدلية بينهما، بقوله: "إن النظريّة النقدية لا تصيغ نقدها انطلاقًا من الفكرة المثاليّة فقط، بل تبني نقدها من داخل الحقبة التاريخيّة نفسها، وليس من ورائها، أو من بعدها".
عمومًا، تمكّنت مدرسة فرانكفورت، وخصوًصًا من خلال الأعمال المرجعيّة لأدورنو، من نقد شامل وجذري لمفهوم اليوتوبيا. النازية في النهاية لم تكن إلّا رؤية طوباوية للواقع والمجتمع والإنسان والتاريخ. التفكير الطوباوي لا يمانع التضحية بالحاضر البشري، إخلاصًا لمجموعة من الأفكار التي ستحقق في المستقبل. التضحية بالحاضر من أجل المستقبل مبررة أخلاقيًا من وجهة نظر طوباوية. ولكن، وكما قال أدورنو، التضحية بالحاضر من أجل المستقبل هي انتهاكٌ حتّى لمفهوم "الأوامر القطعية" لفيلسوف المثالية الأبرز، كانط. في عالم كانط، سيكون انتهاكًا أخلاقيًا خطيرًا جعل حياة البشر وحاضرهم مجرّد وسيلة لغايات تتبلور على شكل أفكار مستقبليّة.




انطلاقًا من هذا النقاش، وتحت شعار "التفكير بالصور ومن الصور"، تعرض الفنانة ومنسقة المعارض ديانا فيكسلر في مبنى "أكاديمية الفن" في ساحة باريس في العاصمة الألمانية برلين أعمالًا لمجموعة متنوعة من الفنانين والفنانات، وهم: كريستين بيرغ، إنجو دوننبيير، غابرييلا غولدر، علي كازما، كابواني كيوانجا، إنريكي راميريز، وريجينا سيلفيرا. الأعمال كلّها تجتمعُ حول فكرة العالم الطوباوي، وتحاولُ أن تخلق آفاقًا محتملة لإنسانيّة مُعاصرة.
إضافة المعرض الأساسية هي الإشارة إلى فكرة اليوتوبيا من خلال ذكر نقيضها: الديستوبيا. منذ جائحة كوفيد، ولحظة إغلاق العالم، وحبس الناس في بيوتهم، أصبح مصطلح الديستوبيا يُستخدم بشكل يومي في حياتنا اليوميَّة، بعد أن كان استخدامه محصورًا في سيناريوهات الأفلام السينمائية، أو حبكات الأعمال الأدبية. وفي ظلّ الإبادة الحالية في غزّة، و"الرأسمالية المتصدّعة"، بتعبير المؤرّخ الكندي الشاب كوين سلوبوديان، نشهد شعورًا عامًا بأنّ الإنسانية تتراجع. ويبدو أن الجهود الحالية من أجل الحفاظ على الفكرة الكونية الإنسانية العامة، وفكرة الديمقراطية نفسها، وصلت إلى أقصى طاقتها الاستيعابية.
من خلال العلاقة الجدلية بين اليوتوبيا والديستوبيا تتوافر لدينا العدّة النقديّة الكافية من أجل التعامل مع الواقع، وهي وصف الديستوبيا للإشارة الضمنيّة إلى ما هو أفضل، اليوتوبيا. داخل الحاضر الديستوبي الذي نعيش فيه توجد أفكار طوباوية لأنها الوحيدة القادرة على تحريضنا على العمل من أجل مستقبلٍ أفضل. من دون وجود رؤية طوباوية داخل النظام الفكري، تنتصر العلاقات الثابتة للواقع العياني على الإرادة، ويصبح الإنسان معدوم الخيال، وسلبيًا أمام عالمه. بالطبع، ثمّة مجازفة في تناول فكرة الطوباوية في ألمانيا، إذ لا تزال أصداء الطوباوية النازيّة وصراعاتها تتردد في الوعي السياسي الألماني. فنانو المعرض يتناولون شكلًا جديدًا للطوباوية، طوباوية ذات فائدة للحاضر، وفيها نزعة تحرر إنسانية، ونزوع إلى العدالة.
هل يمكننا فهم الحداثة كمشروعٍ لم يكتمل بعد، وبالتالي إعادة اكتشاف جديدة للأبعاد الطوباويّة داخلها من خلال الفن؟ الأعمال المختارة للفنانين قادرة على شرح هذا الدور الدقيق الذي يجب على التفكير الطوباوي أن يلعبه. الشوق إلى الجديد والأفضل والمختلف من خلال الأفكار والأحلام والأخيلة. ويتم البحث في النزعات الطوباوية من خلال الاعتماد على مفاهيم متنوعة، كالزمن، والمقاومة، والذاكرة، والإصرار. المعرض دعوة للجمهور إلى التفكير، وفتح أفق نقدي أكثر نشاطًا، وليكون مستفزًا بشكل إيجابي لفتح آفاق إنسانية حديثة، يجب المطالبة بالحق في النضال من أجلها في عالم دائم التغير.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.