}

الآلات الهوائية كنقطة التقاء بين النفَس والنفْس

هنا/الآن الآلات الهوائية كنقطة التقاء بين النفَس والنفْس
المعرض تجربة حسيّة ومشاركة مباشرة غير طوعية
ثمّة عاصفة تخترق مبنى شينكل بافيلون/ Schinkel Pavillon التاريخيّ في العاصمة الألمانية برلين، حيث تتجوّل سحبٌ من غبار في أوّل معرض فردي في مؤسسة، للفنانة الصربية المقيمة في نيويورك إيفانا باشيتش/ Ivana Basic (مواليد مدينة بلغراد 1986 في صربيا)، المعرض يستمرُّ حتّى 1 سبتمبر/ أيلول المقبل.
وقد أتى بعنوان صادم: "التناسخ: الشغف بالآلات الهوائيّة". فكرة التناسخ المقصودة هي الواردة عند كثير من الطوائف والمذاهب الدينيَّة حول تحوُّل الروح إلى شكل وجسد جديد عند الوفاة، وليس بالضرورة أن يكون التحوَّل من النوع نفسه، روح إنسان يمكن أن تتحوّل إلى روح حيوان، وروح حيوانٍ يمكن أن تتحوّل إلى روح إنسان. هذه النظرية تدّعي التوافق أيضًا مع العلم الذي يثبت أنّ الطاقة لا تضيع، بل تتحوّل إلى شكل من شكل آخر.
الأعمال في المعرض موضوعة بشكل طقسي، والمرور فيها تجربة حسيّة خاصة. المعروضات هي بالضبط منحوتات ومقاطع فيديو ورسومات وآلة ميكانيكيّة كبيرة تعمل بالطاقة الهوائية، الآلة مصنوعة بشكل شعري وببنية ماديّة دقيقة ولماحة جدًا. هذه الأعمال، في العموم، مشحونة بشكل جذري بأحداث من الطفولة الشخصيّة للفنانة. إيفانا عاشت بشكل شخصي تجربة انهيار بلادها في التسعينيات في يوغوسلافيا، إذ دخلت الجمهورية الاتحادية في سلسلة من الحروب الأهلية الدامية، وانتهت إلى تفكك بعد أن كانت في الخطاب السوفياتي نموذجًا يضم عددًا من القوميات والإثنيات.
الإنسان والوجود البشري هما محور أعمال إيفانا، إذ تتناول موضوعات معينة، مثل انتقال الصدمة (التراوما) عبر الأجيال عن طريق المؤسسات السياسية الحاكمة، والنسوية ما بعد الإنسانية التي تنقد النزعة الإنسانية والموقع المركزي للإنسان في الطبيعة، وسلوكه مع محيطه الحيوي والمخلوقات الأخرى، وطبعًا السعي الدائم والراسخ للخلود عند البشر.




في وسط المعرض منحوتة ضخمة تمَّ تصميمها داخل المعرض في الفترة الماضية التي كانت تعمل فيها الفنانة. العمل يشغل الطابق الأوّل من المبنى كله. في قلب هذا التمثال الهائل يوجد صندوق زجاجي مثقوب تخرج منه مطارق معدنية صغيرة تعمل بالهواء المضغوط وتحتك بالمرمر الذي يشكّل المادة الخام في المنحوتة الضخمة. عملية احتكاك المطرقة بالعمل النحتي تولد غبارًا، وبشكل تدريجي تتشكّل سحب كبيرةٌ من الغبار، وتندمج سحب هذه الغبار مع بعضها لتشكّل ضبابًا من نوعٍ ما. الآن، المثير في الأمر هو الإيقاع الذي تعمل عليه هذه المطرقات الهوائية، إذ تم توقيته كي يتناسب تمامًا مع أنفاس زائري المعرض.
صناعة آلة تسبب تآكلًا خفيفًا بطيئًا، وموقّتة على أنفاس الناس، هي عودة إلى الفكرة الغنوصية التي كان لها شغف بالآلات الهوائيّة. في الفلسفة الغنوصية، الآلات الهوائيّة هي المكان الذي يلتقي فيه "النَفَس" بالمعنى المادي، أي عملية التنفس في الحياة، مع "النَفْس" بالمعنى الروحي، أي الجوهر اللامادي للإنسان. احتل علم صناعة الآلات الهوائية مكانة هائلة في الفلسفة الغنوصية، لأنها الإثبات بأنّ "نسمة الحياة" هي طاقة، ويمكن أن تستمر إلى ما هي أبعد من العالم المادي.
منحوتات إيفانا اليدوية أيضًا تتسم بالرقة والعنف في آن معًا، وهي مصنوعة من مواد متباينة إلى حدّ كبير، كالشمع والزجاج والفولاذ المقاوم للصدأ والمرمر، وهي منحوتات كبيرة وبحجم الجسم الإنساني تقريبًا، وفيها تفاصيل أيضًا عن تفاصيل الجلد البشري ولحظات من سوائل الجسد الخارجة عنه وأجسام الحشرات، وهذه المشاهد موضوعة في حالة من الذوبان والتحوّل. إيفانا أصلًا مهجوسة بكل فكرة التحول. التحوّل تقمص من نوعٍ ما. في بعض أعمالها نجد سدمًا فضائيًا ومشاهد من حياة الخلايا في تناغم مذهل وكأنّ الطبيعة الكونية تنعكس في البنية البيولوجية.
المعرض تجربة حسيّة ومشاركة مباشرة غير طوعية، لأنّك لا تستطيع التوقف عن التنفس.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.