}

النظرة كخالِق: عن قوّة التلصّص

تغطيات النظرة كخالِق: عن قوّة التلصّص
يعتمد الفنانان على مراجع فنية وتاريخيَّة
"وجعلنا من الماء كل شيء حي". المياه هي عصب الحياة، وبدونها لا شيء يمكن أن يستمرّ، وفي البدء كانت القطرة. كل شيء يرتبط بالمياه، وكل شيء يدور حول المياه، يشكّل عنصرًا أساسيًا مرتبطًا بالمسائل الوجودية للبشر، وقد لعب الماء دورًا هامًا في كل القصص الأسطورية الموجودة في الأدب والفن. ولكنّ بعيدًا عن كل هذا، ثمّة بعدٌ آخر للمياه، وهو الجنسانيَّة. كيف ترتبط المياه مع الجنسانيَّة؟ نجد ذلك منذ القدم عن الحديث عن كلّ الكائنات الأسطورية للقصص والميثولوجيا القديمة، وفي الشكل الحضاري لالتقاء المياه مع الجنسانيَّة في لحظة حميمية من نوع خاص: وهي الاستحمام.
الاستحمام موضوع مشحونٌ للغايةٍ بشكل مجازيّ لأنّه المكان الذي يتمُّ فيه التلصّص. في تاريخ الفن، يتمّ التعامل مع هذا الموضوع دومًا بالغموض. فمن جهة، يتم تصوير التلصّص على أنّه فعلٌ فاحش أخلاقيًا ومذموم اجتماعيًا. ومن جهة أخرى، من خلال التلصص يتم تقديم الجسد العاري الذي يتم إعادة إنتاجه على شكل جسدٍ أنثويّ مصنوع بما يتناسب مع شبق النظرة الذكورية Male Gaze، أو ما يتناسب مع محددات الانتفاع المادي، وبالتحديد في العمل الجنسي المأجور.
في أوّل معرضٍ مؤسسي مشتركٍ بينهما في مبنى مؤسسة روزا لوكسمبورغ في العاصمة الألمانية برلين، والذي يستمرّ من السابع من شهر يونيو/ حزيران الماضي إلى 13 يوليو/ تموز الجاري، قامت الفنانة ويرا بيت/ Wera Bet مع الفنان باول دي دي/ Paul DD، باختيار مجموعة من الأعمال التي تتعاطى بدرجة أولى مع دور النظرة التلصصيّة، أو زاوية النظر، في تكوين العلاقات الحميمية وتأثيرها العميق على العلاقات العاطفية بين البشر. يرتكز موضوع بحثهم الفني على مفهوم "التطهير"، أو "الغسيل"، أو "الاستحمام"، إذْ أنهم يريدون اكتشاف العامل الفاعل في النظرة.




في الإباحية الأميركيَّة ما يمكن أن يشرح. زاوية الكاميرا في الإباحية الأميركية هي دومًا عين الرجل، بمعنى أنّ كل الأفلام مُصوَّرة، وكأنّ المشاهد الوحيد لها سيكون حتمًا رجلًا، وعدسة الكاميرا هي مجرّد حدقة رجل. لزاوية الكاميرا في الإباحية الأميركية تأثيرٌ هائل على جنسانية الرجل، إذْ تخلق عند الرجل تصورًا عن الحميمية بعيد تمامًا عن الواقع الفعلي. النظرة التي يتحدّث الفنانان عنها، إذًا، هي ليست النظرة الخاطفة السريعة، بل النظرة الطويلة الأمد، المشكّلة للمشهد والفاعلة في اختيار ما يحبّذ أن يُرى. النظرة الفاعلة تخلق خللًا في التوازن بين الذات والآخر، لأنّ الذات تطلبُ من الآخر التصرّف وفقًا لما يجب أن يُرَى.
يعتمد الفنانان على مراجع فنية وتاريخيَّة، مثل قصّة "سوزانا والحكماء" من العهد القديم، ومنها عمل الفنانة الإيطالية أرتيميسا جنتلسكي (1593 ــ 1656). اللوحة تحمل اسم القصة، وأنجزتها الفنانة الإيطالية لما كانت في السابعة عشرة من عمرها. تحكي القصّة حكاية سوزانا، المرأة التي اتهمت زورًا بالزنا من قبل حكيمين اجتماعيين معروفين بسمعتهما. إذْ كان الرجلان يتلصّصان عليها ويحدقّان إليها لما كانت تستحم داخل نافورة. لم يكن أيّ من الرجلين يعرف أنّ الآخر يتلصص أيضًا، ولما اكتشفا بعضهما البعض، شرعا بابتزاز سوزانا بممارسة الجنس، لكنّها رفضت المؤامرة وحافظت على كرامتها.
يشير الفنانان إلى أنّ قصة سوزانا والحكماء، ومع اللوحة التي تصورها، تظهر المرافعة الدفاعية ضد النظرات المتطفّلة. المعرض تشكيكٌ في شرعية المفاهيم الاجتماعيّة حول الجسد، وفيه عودة إلى المياه، العنصر الأوّلي للحياة. في الانسيابية والسيولة إمكانيّات توليديّة أكثر من صلابة المُتشكَّل والمُصاغ. الأجندة النسوية واضحة جدًا، إذْ يتم توضيح كيف يتم إهمال عملية تشكيل الرغبة في الجسد الأنثوي، لأنها لا تنشأ بالضرورة من سياقها الانسيابي، بل من مقتضيات ضرورة النظرة الذكورية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.