}

عن الذي رأى بـ"قناع بلون السماء" تطبيعًا وتهويدًا لفلسطين

نبيل سليمان 15 يونيو 2024
يرافق كل دورة من دورات الجائزة العالمية للرواية العربية ــ والشهيرة بالبوكر العربية ــ صخب إعلامي كبير فأكبر. وفي هذا الصخب دومًا ما فيه من الحماسة والاعتراض والتثمين والتبخيس والإثارة، سواء تعلق الأمر بالرواية المتوجة أم بالقائمة القصيرة ــ بل والطويلة ــ أم بلجنة التحكيم، أم بالجائزة، إدارةً وتاريخًا... إلخ. وبعض ذلك هو مما يرافق الجوائز المرموقة والأهم.
في رصد بعض من يعنيهم الأمر لردود الفعل على تتويج رواية "قناع بلون السماء" أن 91 ــ 92% جاء مؤيدًا بدرجات متفاوتة. ومنها ما ضاعف تأييده أن الكاتب أسير في السجون الإسرائيلية منذ عشرين سنة، ومحكوم بثلاثة مؤبدات. وشدد بعضهم على الربط بين تتويج هذه الرواية الفلسطينية، وبين طوفان الأقصى وحرب الإبادة الصهيونية على غزة.
شمل رصد ردود الفعل كثيرًا من وسائل التواصل، والمواقع الإلكترونية، والدوريات الورقية، والمنابر الثقافية المسموعة والمرئية. وفي الرصد أن 8 ــ 9% اعترض على تتويج رواية "قناع بلون السماء". وكان أول ما قرأت من ذلك هو ما كتبه راشد عيسى في جريدة "القدس العربي"، إذ تحدث عن عامل مهم "جعل عددًا من الكتاب الفلسطينيين أقل احتفالًا بالجائزة، لأن البوكر العربية تأتي برعاية دولة الإمارات". وكتب أنه "لا يمكن أن تمر جائزة مرموقة مثل البوكر من دون توظيف سياسي". وقال أيضًا "غير أن ما يدوّخ هو احتفاء بعض كتّاب الممانعة بالجائزة"، ويحدد قصده بـ"الفرع اللبناني من أهل الممانعة".
تزامن ما كتبه راشد عيسى مع ما جاء في صدر جريدة الممانعة اللبنانية (الأخبار) (30/4/2024)، ولم يُذكر اسم الكاتب الذي سجّل أن الإعلان عن الجائزة ــ وهو البيان الذي ألقيته بصفتي رئيس لجنة التحكيم ــ لا يشير "ولو بكلمة إلى نضالات الأسر والأسرى (ولا سيما أن الروائي نبيل سليمان هو أحد رواد أدب السجون في العالم العربي). وتختار فيه اللجنة كلماتها بدقة، وتعوزه كثير من الشجاعة التي تميزت بها الرواية التي وضعت تاريخ فلسطين الحقيقي والمطموس والمصادر في مواجهة سردية المحتلين". وشدد الكاتب على (سياق الجائزة) التي تشرف عليها دولة يصفها بصديقة سجّان باسم خندقجي.
هنا أوضح أن ما جاء في بيان اللجنة هو ما كتبته، ولم تطلع اللجنة عليه مسبقًا. واللجنة ــ ما عداي ــ براء مما يسوطها به الكاتب الممانع الذي يبدو أنه لم يُعن بأسلوب ولا مقومات إعلان الرواية الفائزة، حيث عددت بما أملك من الدقة والإيجاز الميزات الفنية التي قررت لجنة التحكيم، بناء عليها، تتويج رواية "قناع بلون السماء".
في ذلك اليوم المشهود نفسه (30/4/2024) بلغ التشكيك أقصاه، فيما كتب سهيل كيوان في موقع عرب 48، ومنه: "تساءل البعض عن علاقة دولة الاحتلال بالجهة المانحة للجائزة، وهي مركز أبو ظبي للغة العربية التابع لوزارة الثقافة والسياحة، وإذا ما كان منح الجائزة لهذه الرواية بالذات مقصودًا للتغطية على موقف دولة الإمارات من دولة الاحتلال وتبييضه، أو محاولة التخفيف من صورة الاحتلال القاتمة".
هنا أنقل حرفيًا عن رئيس مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية، الدكتور ياسر سليمان: "نحن جائزة مستقلة، مقرها لندن، تخضع للقوانين البريطانية. نعمل برعاية كريمة من مركز اللغة العربية في أبو ظبي استنادًا إلى اتفاقية ناظمة للعلاقات بين الطرفين". وفي ما يتعلق بلجنة التحكيم، أؤكد توكيدًا جازمًا على أننا عملنا بأقصى درجات الاستقلالية، حيث لم يتدخل أحد، أو جهة، في عملنا بأي شكل من أشكال التدخل المباشر، أو غير المباشر، أو الموارب، لا تلميحًا ولا تصريحًا ولا إيحاءً.
وبالعودة إلى ما كتبه راشد عيسى عن التوظيف السياسي للبوكر العربية كأية جائزة مرموقة، وإذْ أشاطره الرأي، أضيف أن التوظيف هذه المرة في دورة 2024 جاء لاحقًا، ومن أطراف متضادة، ولغايات متضادة، أو مختلفة. فالإسرائيلي الذي ضيّق على الكاتب الأسير باسم خندقجي منذ الإعلان عن القائمة القصيرة، وغرّمه بألفي دولار عقابًا على تهريب الرواية، فسددتها أسرة الأسير، هذا الإسرائيلي الذي هاجمت صحافته منذ إعلان القائمة القصيرة الكاتبَ الأسير وروايته والجائزة ولجنة التحكيم، تباهي صحافته أيضًا بما يتوفر للسجين من فسحة الدراسة الجامعية وكتابة الرواية. وبالمقابل العربي، ثمة من يبخّس من قدر الرواية وصاحبها والجائزة عندما حدد العامل الوحيد للتتويج بأن الكاتب أسير ومحكوم بثلاثة مؤبدات، وبأن التتويج محكوم بالزلزال الذي تسمّى بطوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، ومن ذلك مثلًا: "ولا يبدو الاختيار منزهًا عن إملاءات المرحلة في ظل ما يحدث في غزة من مجازر مريعة"، كما كتب ونيس بن علي.





من المؤكد أن لجنة التحكيم ــ وبينها التشيكي فرانتيشيك أوندراش ــ قد عاشت هذه الزلزلة، لكنني أكرر باسمها ما أكدته مرة بعد مرة أن تتويج رواية "قناع بلون السماء" قد كان، لما لها من الجمالي ومن أسباب الفن الروائي، مثل الذي كان من نبضها بالحرية وضد التوحّش.
أما عجيبة العجائب وغريبة الغرائب في نسبة الـ 8 ــ 9% من ردود الفعل المعترضة على تتويج رواية "قناع بلون السماء" فقد جاءت في الندوة التي نظمتها غرفة 19 ــ سان دييغو ــ كاليفورنيا عبر تطبيق Zoom، ومباشرة على اليوتيوب، يوم 29/5/2024، وأدارتها الشاعرة اللبنانية ومؤسسة الغرفة إخلاص فرانسيس. وعلى الرغم من حالتي الصحية، تحدثت قرابة ثلاثة أرباع الساعة عن الرواية المتوجة، بالإضافة إلى القليل عن الجائزة، وعن التحكيم في دورة 2024. ولما فتحت المديرة الحوار لمن يرغب بدأ الدكتور عاطف الدرابسة (الأردن) بما أنقله من التسجيل المتوفر على اليوتيوب وعلى صفحة الغرفة 19.
قال الدرابسة: "سأقول أمرًا ربما غاب عن اللجنة... هذه الرواية استندت إلى مقولات تاريخية ودينية". وتساءل عن الغاية من هذا الخطاب، وكيف يتحول الخطاب التاريخي إلى خطاب روائي. ثم ذكر أنه كان قد سبق له أن أثار ضجة في حديثه عن الرواية، وقال: "هذه الرواية جاءت للأسف الشديد لا تبحث عن مريم المجدلية بقدر ما تبحث عن يهودية فلسطين". والفلسطيني في رأيه لا يحتاج إلى الآثار، بل اليهود هم من يحتاجون إليها. "لكن باسم خندقجي كان ملكيًا أكثر من الملك". و"هذه الرواية أثبتت بالوجه القاطع يهودية الأرض الفلسطينية"، و"هذه الرواية شاهد على باسم"، ويحكم الدرابسة بأن إثبات شخصية المجدلية هو إثبات ليهودية فلسطين.
فيما دعاه الدرابسة سيمياء الأسماء، ذهب إلى أن معنى اسم أور هو الأرض، بينما تترجم الرواية اسم أور من العبرية إلى العربية: نور. وحين يعلق على ما في الرواية عن ثورة باركوخفا يذهب إلى أن الرواية تثبت أن هذه الأرض يهودية، فثورة باركوخفا هي ثورة اليهود على المحتل الروماني بعد مئة سنة ميلادية، ويحكم الدرابسة بأن باسم خندقجي "لا يملك هذه المعلومات". وأضاف أن العثور في الرواية على جمجمة لجندي عربي من معركة عين جالوت، مقابل الآثار التي تعود إلى آلاف الأعوام، إنما يثبت يهودية فلسطين. وسخر الدرابسة من افتتاح الرواية، ونفى أن يكون فيها تقنيات، وحكم بأن الكاتب كتب وثيقة تاريخية وبحثًا تاريخيًا.
من الجزائر، قدم رابح خدوسي مداخلته الموجزة، والباترة في حكمها بأن الرواية سردية إسرائيلية، وسرد سافر لنص تاريخي لا علاقة له بالإبداع. وقال خدوسي إنه يوافق الدرابسة على ما ذهب إليه، وإن التاريخ سيحاسب لجنة التحكيم على "هذا الخطأ"، أي على تتويج "قناع بلون السماء".




ومن لبنان، قدمت دُرّية فرحات مداخلتها، وأولها "في الرواية أمر يثير الريبة"، واعترضت على تعبير سماء إسماعيل في الرواية عما تحسبه تعاطفًا مع الهولوكوست، وختمت بالقول: "أنا أرى فيها شيئًا من التطبيع".

"قناع بلون السماء" تفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية

من الجلي أن الفن الروائي كان آخر هموم المداخلات، بل إن الدرابسة لم يدرك القيمة الفنية للعبة البطاقات/ الرسائل الصوتية، ولم تلتفت مداخلته إلى الميتارواية، ولا إلى بناء الشخصيات، أو تعدد اللغات، ولا إلى تشديد نور على عدم إقحام البيانات التاريخية والدينية والغنوصية في الرواية، ولا إلى نظرته للتاريخ كـ "تخيّل معقلن"، ولا إلى الرهان على أن للخيال "قدرة جبارة على الإطاحة بالتاريخ عن متن الحقيقة".
مقابل تجاهل أسئلة الرواية عن الكينونة والوجود والمصير والهوية الفردية وهوية الجماعة، ومقابل تجاهل فنيات الرواية، جاءت المداخلات ترجيعًا لزمن نقدي وروائي وسياسي تولى، كانت فيه الأيديولوجيا بأرذل معانيها هي الحاكمة بأمرها. وبرزت بخاصة عورة الاجتزاء والانتقائية. وحسب المرء أن يذكّر بقول نور المشهدي لأور شابيرا إن الصهيونية استثمرت الهولوكوست لتحويله إلى منظومة أخلاقية تشرعن التطهير العرقي. أما سماء إسماعيل فلم تفتأ تعلن هويتها: "أنا فلسطينية عربية"، وتعلن: "أنا مع ضحايا النازية، وليس مع الصهيونية".
في الحوار بين نور وأور يقول الأخير: "أنت أصبحت إنسانًا بفضلي، بفضل هويتي"، فيطلب نور منه أن يعامله معاملة إنسانية، فيرد أور: "أخشى من اختفائي أنا إذا أصبحت أنت إنسانًا". ويرى نور أن من العار الاحتفال كل عام بذكرى نكبة 1948 كحدث تاريخي مضى "فالنكبة لم تنته بعد، رحمها ما زال خصبًا وقادرًا على الإنجاب في كل لحظة، إنجاب التشريد والإبعاد والتهجير والإقصاء والتصنيف والسلام المزيف".
في ذلك، وفي كثير سواه من الرواية، يأتي السؤال/ التحدي: أين هو تهويد فلسطين والتطبيع؟ أين هما في حديث الرواية عن مستعمرة مشمار هعيمق المقامة على أنقاض قرية أبو شوشة، حيث وقعت أكبر وأشرس معركة عام 1948؟ وماذا عن بحث نور المشهدي عن قرية اللجّون المهجرة، وقرية مجدّو الكنعانية في الألف الثالثة قبل الميلاد؟
قبل الندوة لم أكن أعرف عن عاطف الدرابسة إلا أنه صاحب كتابي "النص الجاهلي في ضوء نظرية التأويل"، و"ظاهرة النسيب في النص الجاهلي". وعرفت مؤخرًا أن له "قراءات نقدية في مجلس سمو الأمير خالد الفيصل"، وأنه كان قد حكم على دراسات فراس السواح بأنها استنساخ واضح لما جاء به ماتفيف، وشتراوس، وكريمر، وسازاروف. وفي ندوة للغرفة 19 حول رواية "ميلانين" للتونسية فتحية الدبش، أقام الدرابسة محكمة للرواية، فكتب ناصر الرقيق في موقع "ميزان الزمان" (13/6/2021) أن ما قاله الدرابسة "كان رأيًا سياسيًا يحاكم الرواية وكاتبتها، وليس رأيًا نقديًا". وليس هذا إلا أقلّ ما يقال في ما رأينا من الحديث الذي رُمي به باسم خندقجي وروايته بالتطبيع وتهويد فلسطين، كأن لا تكفيه ثلاثة مؤبدات في السجون الإسرائيلية!!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.