}

التفاضل والتكامل بين أشكال إتلاف الكتاب

نبيل سليمان 1 يوليه 2024

من الذكريات المرة التي جعلها الزمن حلوة، أن (التفاضل والتكامل) في مادة الرياضيات ظلّ عصيًّا عليّ، على الرغم من محاولاتي ومحاولات المدرّس المهندس اسبيرو إلياس الذي كان عائدًا لتوّه من باريس.
كنت في سنة البكالوريا ـ الثالث الثانوي ـ في الثانوية الصناعية في اللاذقية عام 1962، عندما حرضني خبثاء من زملائي على أن أجهر باسم الصف أمام المدرس بأننا، بعد شرحه المستفيض والمكرور للتفاضل والتكامل، صُمٌّ بُكْمٌ فلا يفقهون. وعندما أعلنت ذلك، فوجئت كما فوجئ المدرس بشكوى الطالب الصغير المسالم. لكن المفاجأة الأكبر كانت حين سأل المدرّس طالبًا آخر فثالثًا عن شكواي، فأنكروها، وصدحوا بفهمهم لما استعصى على فهمي، وقهقهوا ساخرين حين صبّ المدرس غضبه عليّ.
هجعت الذكرى أكثر من عشرين سنة، إلى أن باغتني كتابٌ ضخمٌ في معرض الكتب السوفياتية في دار الفجر في حلب. إنه كتاب (التفاضل والتكامل) بالعربية، من منشورات دار مير. لماذا اشتريت الكتاب؟ ولماذا لم أفتحه؟ لماذا تخلّصت منه بعد سنتين؟
ينتسب عنوان هذه المقالة إلى اللغة/ المعجم، وليس إلى الرياضيات/ العلم. فلإتلاف الكتاب أشكال شتّى:
شكل يفضُل شكلًا، وشكل يكمل شكلًا. والإتلاف، لغة، هو للزرع: إهلاكه وإفساده، وللمال: صرفه هباءً وإسرافًا، أو جودًا. ومنه وله: أتلف الشيء: أفسده وخرّبه، وأتلفت النار الأثاث: أحرقته.
أما الإتلاف، اصطلاحًا أو تداولًا، فأهون أشكاله هو الكتابة على هامش الكتاب، أو التأشير على وتحت المكتوب. وهذا أمر شائع، وأنا ـ من أسفٍ ـ ممن يمارسونه. لكن هذا الشكل الهين الذي يشرعه كثيرون هو شكل من أشكال التدمير في المكتبات العامة، مثله مثل نزع أو تمزيق صفحة أو صفحات. وإذا كان بين طلاب الدراسات العليا من يفعل ذلك في مرجع، أو مصدر لبحثه، فالمكتبات العامة في غير (بلاد العرب أوطاني) تتخذ من التدابير الصارمة ما يدرأ شرّ هذا الإتلاف، والقانون يحاسب من يرتكب مثل هذه المخالفة.
يحدّث التاريخ أن الكتب كانت تستخدم غالبًا، حتى القرن التاسع عشر، كورق مسودة. لكن الأمرّ والأدهى هو ما يحدّث به التاريخ عن الحرق، كأسوأ شكل من أشكال إتلاف الكتاب. ولهذا الشكل شعبتان، أولاهما هي أن يحرق الكاتب نفسه كتبه، أو يطمرها ويمزقها: هل يكفي بأن أذكّر بأبي حيان التوحيدي الذي مارس ما يُدعى بـ (الإتلاف الذاتي)؟




حسنًا. سوف أضيف فقط السيوطي الذي أتلف بعض كتبه بالغسل، لرجوعه عنها. وقد رفض مجدي عبد الجواد الجاكي في كتابه "إتلاف المؤلفين كتبهم في التراث العربي" (2015) ستًا وستين حالة من (الإتلاف الذاتي) خلال أربعة عشر قرنًا. ومن المؤلفات المحدثة التي تؤرخ لإتلاف الكتاب: "حرق الكتب: تاريخ إتلاف الكتب والمكتبات" (2018) لخالد السعيد، وكتاب "حرق الكتب في التراث العربي: مسرد تاريخي" (2003) لناصر الحزيمي، وكتاب "ظاهرة إتلاف الكتب: بواعثها، آثارها، مواقف المحدثين منها" (2015) لمحمد إبراهيم العشماوي.
في الشعبة الثانية للشكل الأسوأ من أشكال إتلاف الكتاب (الحرق) لا يتوقف الأمر على كاتب، بل يتعداه إلى المكتبات بفعل الغزوات والحروب... هل يكفي أن أذكّر بما فعل المغول في مكتبات بغداد؟ أم بما فعل الشيوعيون الصينيون في التيبت، عندما أجبروا الناس على تدمير كتبهم، ليس بالحرق فقط، بل بالسير عليها وخلطها بالسماد؟ ولكن لماذا أذهب بعيدًا وأمامنا ما فعلت ولا تزال تفعل إسرائيل في غزّة من الإبادة الثقافية، فتدمير الجامعات والمكتبات الشخصية والعامة والتجارية ودور النشر والمطابع...؟
من الأشكال الجديدة لإتلاف الكتاب هو ما بات طلاب المدارس الإعدادية والثانوية يقومون به. إذ يمزقون الكتاب/ الكتب عند خروجهم من قاعة الامتحان، لا فرق بين باحات المدارس، أو حول أسوارها، أو في الشوارع. وقد كتبت جريدة (الخليج) الإماراتية في 17/6/2018 أن 50% من الطلاب يتلفون كتبهم عقب الامتحان، فتعبق الشوارع بنثار الأوراق، وخروس أو لا مبالاة أولي الأمر، سواء في البيت، أو في المدارس. وهذا المضحك المبكي في سورية هو أضعافه في الإمارات.
في زماننا، تقف الرقابات الرسمية الدولتية والمجتمعية بالمرصاد للكتاب. وما أكثر وأفظع ما يقع في بعض معارض الكتاب، حيث تمنع رقابة هذا البلد أو ذاك هذا الكتاب وذاك، بالأحرى هذه الكتب وتلك، وتستولي على ما قد يكون الناشر أحضره من نسخ الكتاب الممنوع. ولا أحد يعلم أين تذهب هذه النسخ، أي أيّ شكل من أشكال الإتلاف قد اختارت الرقابة لها: هل هو الفرم ورمي المفروم في الزبالة؟ أم هو إرسال المفروم إلى معمل الورق؟  ولكن هل يتبدل اسم (الإتلاف) إذا ما جرى توزيع النسخ المصادرة ـ مثلًا ـ على موظفي الجهة المانعة، ومن يلوذ بطرفها؟
وأخيرًا، نصل إلى (الناشر) من بين الجهات المُتلفة للكتاب. وفي هذه الجهات من هو المتلاف والتلّاف، أي الشديد الإتلاف، فالناشر الحريص جدًا على درجة أعلى من الكمال قد يُتلف من نسخ الكتاب ما يكتشف فيه عيبًا طباعيًا، أو ملزمة ناقصة (16 صفحة). وقد يكون للناشر سبب آخر للإتلاف. ومثال ذلك ما قامت به في أمسٍ قريب دار النشر الفرنسية (بايارد)، إذ أتلفت ثمانية آلاف نسخة من كتاب رسوم كاريكاتير عنوانه (رسامو الكاريكاتير: جنود الديمقراطية).. أما سبب الإتلاف فهو أحد الرسوم عن تحرش جنسي بالأطفال (البيدوفيليا).
ثمة من يضيف الكساد إلى أسباب إتلاف الناشر للكتاب. وهنا أسوق هذه الواقعة التي أحسبها تعني أهل الكتاب، وإن تكن متعلقة بكتابي "أخيولات روائية للقمع والطائفية"، والذي أصدرته دار التنوير اللبنانية عام 2015.




في 13 حزيران/ يونيو كتبت إلى الصديق العزيز حسن ياغي، المسؤول في دار التنوير، أسأل عما قد يكون قد تحقق لي من حقوق التأليف عن الكتاب المذكور. وفي جوابه ما هو في صلب الحديث عن قضايا إتلاف الكتاب، فلنقرأ:
"نحن في كل عام نتلف الكتب التي يقل عدد النسخ المباعة منها عن 50 نسخة سنويًا، ونترك عددًا محدودًا من النسخ لطلبات فردية تخص باحثين أو مهتمين، في العام 2022 انتقلنا إلى مستودع جديد وقمنا بإتلاف 26 طنًا من 86 عنوانًا، رأينا ألّا جدوى تجارية من بقاء نسخها وتركنا بين 50 ـ 100 نسخة من كل كتاب لأغراض سبق أن أوضحتها... وهو أمر نكرره كل عام... عندنا الآن 65 نسخة من كتابك.
آمل أن تصدق بأنني أتلفت 850 نسخة".
في ردي على هذه الرسالة، كتبت بعد التحية: "ما كنت أحسب أن يأتي يوم أقرأ فيه مثل هذا الذي جاء في رسالتك حول إتلاف الكتب التي لا تكاد تباع". واستأذنت الرجل باستخدام رسالته، وذكر اسمه، واسم دار التنوير، فيما قد أكتب عن أحوال النشر والتوزيع عربيًا، فأذن لي.
والكساد، إذًا، سبب من أسباب إتلاف الكتاب، وهو ما يتصل به قول بول أوستر: "ما نقوم به نحن معشر الكتّاب يكاد يكون أمرًا عديم النفع، لأن قلةً من البشر تقرأ أو تهتم بالأدب". ولكي لا تزيد الخاتمة ما تقدم بؤسًا، أستذكر ما قرأت عام 2017 بالضبط عن سائق شاحنة كولومبي يجمع القمامة فجر كل يوم في العاصمة بوغوتا.
إنه خوسيه ألبرتو غوتيرير، الذي دأب على جمع الكتب المرمية في الزبالة، وكانت رواية "آنا كارنينا" أول كتاب صادفه. ثم توالت اللقى، من الإلياذة، إلى غرر ماركيز. وفي عام 2000، حوّل الرجل طابقًا من بيته إلى مكتبة عامة مجانية باسم "قوة الكلمات"، وصار يتلقى التبرعات بالكتب، وأسرته توصل الكتب إلى مختلف أنحاء البلاد.
إلى كم غوتيرير نحن في حاجة؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.