}

ما مستقبل الصفاقة المفرطة في تجاهل الحيوات البشرية؟

بلال خبيز 10 يوليه 2024
هنا/الآن ما مستقبل الصفاقة المفرطة في تجاهل الحيوات البشرية؟
تواجه غزة المجاعة بسبب الحرب الإسرائيلية عليها (24/2/2024/الأناضول)

تقدر أوكسفام أميركا أن العالم بحاجة إلى 40 مليار دولار سنويًا لمحاربة الجوع في أكثر من 122 دولة حول العالم. هذا المبلغ الضخم إذا قارناه بموازنات الدفاع في الدول الكبرى يبدو ضئيلًا، ويمكن توفيره بسهولة. ذلك أن اقتطاع 40 مليار دولار من موازنة الدفاع الأميركية مثلًا لن يتجاوز، أي الاقتطاع، نسبة الخمسة في المئة. وقد تتجاوز النسبة العشرين بالمئة من موازنة الدفاع الصينية. والحال فإن القضاء على الجوع لا يبدو أمرًا متعذرًا خلال أقل من عقد من الزمن. إذ تقدر منظمات الأمم المتحدة والمؤسسات المعنية أن إنفاق هذا المبلغ سنويًا على مدى السنوات الست المقبلة قد يقضي عمليًا على الجوع. هذا من دون أن نغفل أن التمويل القائم لمنظمات الإغاثة الدولية يبلغ نحو عشرة مليارات سنويًا. إذًا، نحن في حاجة إلى ما يقل عن خمسة في المئة من موازنة الدفاع الأميركية السنوية لمحاربة الجوع والانتصار على آفته.
مع ذلك، ليس ثمة عزم كاف لدى المجتمع الدولي والمنظمات غير الحكومية لمعالجة هذه المعضلة. والمتوافر حاليًا بالكاد يغطي ربع الاحتياجات العامة، ومعالجة بعض الأحوال الطارئة التي تلم ببعض الدول من حين لآخر.
وقبل أن نخرج من الأرقام ودلالاتها، قد يكون معبرًا أن نتذكر أن الأميركيين أنفقوا في عام 2021 أكثر من 126 مليار دولار لرعاية حيواناتهم الأليفة، فيما أنفق العالم أجمع أكثر من 261 مليار على تلك الحيوانات في العام نفسه. وهذه مبالغ تنفق على إسكان هذه الحيوانات في بيوت مجهزة بما يليق ببشر ميسورين، والعناية بجلودها ونظافتها، وشراء التأمينات الصحية لها، والطعام الخاص بها، فضلًا عن الثياب والأدوات والألعاب والمجوهرات. هل يسعنا أن نؤجل استحمام كلب لطيف يومًا، أو يومين، من دون أن نضر بصحته؟ أو تقنين عدد الألعاب التي يمتلكها من أجل إغاثة الجائعين؟ لا أعتقد أن مثل هذا السلوك قد يضر حقًا بصحة الكلاب الجسدية والنفسية على حد سواء. إنما مع ذلك هذا لن يتحقق في أي وقت من مستقبل العالم.
تناضل منظمة آفاز التي تضم نحو 70 مليون منتسب لمحاربة قرار أيسلندا بالسماح لأحد أصحاب الملايين بقتل 128 حوتًا هذا العام. وفي بيانها الذي وزعته على الصحافة في كل أنحاء العالم، تحتج آفاز، أن الحيتان هذه، وبعضها حوامل، قادرة على الشعور بالحب والألم، وقادرة على أن تكون رومانسية. الإشارة إلى هذا الأمر تتعلق بالمفاهيم البشرية لشروط الحماية واللجوء. فكلما اقترب الكائن من مستوى البشر في المشاعر والذكاء والقدرة على التمييز، كلما بات أمر حمايته أكثر إلحاحًا. لا نلوم آفاز على مقالها. لكننا طبعًا ندرك جميعًا أن المواطن السوري أشد ذكاء وأكثر رومانسية من حيتان أيسلندا. مع ذلك، ليس ثمة بين سلطات العالم من يبذل جهدًا حقيقيًا لحماية هذا الكائن.




هذا يوصلنا إلى المذبحة الجارية في غزة. وبالنظر إلى ما تقدم، لا تبدو هذه المذبحة إسرائيلية صرف، ولا يبدو التساهل الأميركي والدولي مع أحداثها ومجرياتها متعلقًا بدعم إسرائيل فقط.
إذ بات من الواضح أن العالم المتقدم والآمن ينظر إلى كثير من الشعوب في كثير من الدول بوصفها أقل من حيتان أيسلندا أهمية، وموتها وحياتها لا يعني لأحد شيئًا، اللهم إلا بعض التضامن من قبل بعض الناشطين الذين لا يملكون زمام السيطرة على مقاليد السلطة في دولهم.
يحتج كثيرون بأن المذبحة الجارية فصولها في غزة لها ما يبررها. مع ذلك لم يمر وقت طويل على المذبحة السورية بعد، مئات آلاف القتلى، عشرات آلاف المفقودين، ملايين من المهجرين واللاجئين، ولم يحصل أن بذل أي طرف جهدًا حقيقيًا لوقف المذبحة. هذه المذبحة لم ترتكب بأدوات مؤيدة لأميركا والعالم الغربي. على العكس، كان الطرفان الأشد عنفًا في ارتكاب المذابح يعاديان أميركا علنًا. وأشدهم خطرًا وقدرة ما زال يرى نفسه دولة كبرى، ويناطح العالم للاعتراف به بوصفه قطبًا ثانيًا إلى جانب القطب الأميركي في النظام العالمي الجديد.
ما الذي تنبئنا به هذه الصفاقة المفرطة في تجاهل الحيوات البشرية؟
لا تشي هذه الوقائع إلا بأمر واحد: العالم الذي يظن نفسه ناجيًا، ينظر إلى العالم المأزوم والمتنازع عليه، بوصفه فائضًا عن الحاجة، ومكلفًا على كل الأصعدة. لأهله أن يعيشوا ويموتوا في صمت ومن دون استخدام أظافرهم وأسنانهم. أما إذا حدث وقرروا التخريب على غفوة العالم وصفوه، فلا مفر من قتل أكبر عدد ممكن منهم بأسرع ما يمكن. عشرات آلاف السوريين الذين قتلوا وذبحوا كانوا ممن استقبل السفير الأميركي روبرت فورد بالورود والأهازيج يوم زار حماة في بداية الأزمة السورية. لكن ولاء هؤلاء، للقيم الغربية لم يعصمهم من الموت بلا ثمن يتجاوز بعض البيانات الإنشائية في أروقة الأمم المتحدة.
اليوم، مذبحة قطاع غزة ماثلة أمامنا، وما زال في العالم من يلوم المذبوح على دمه. لكن مجاراة اللائم لا تمنعنا من تذكيره بأن ثمة مذبحة أخرى حدثت وما زالت تحدث في السودان. هناك، أي في السودان، يتمظهر النظام الدولي بأكثر صوره انجلاء وبهاء. ما دام القتل قائمًا بين الفائضين عن حاجة العالم، فليس ثمة سبب لنبدي اعتراضا، أو نرفع صوتًا منددًا. ها هم يقومون بتخليصنا من الزوائد البشرية بأنفسهم. ولا يكلفوننا عناء دفنهم حتى. إنها الوصفة المثالية لحل أزمات العالم الثالث. اقتلوا بعضكم بعضًا، ومن ينجو منكم يمكن أن ينعم بحياة بلا أمل. أما في غزة، فالمسألة باتت واضحة، القتل الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين هو بطاقة دخول ذهبية إلى العالم الأول، والمقتولون، أصلًا، هم بشر فائضون عن الحاجة. بهذا يكسب العالم المتقدم مرتين: مرة حين يتخلص من هؤلاء الذين لا طاقة لديه لإنقاذهم، ولا رغبة لديه لمساعدتهم، ومرة حين يوظف جلادًا فظًا على حدودهم، تتلخص مهمته بأن يقوم بكل العمل القذر نيابة عنهم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.