}

الأعشاب الضارّة في إبداع المنصات

سوسن جميل حسن سوسن جميل حسن 18 يونيو 2024
آراء الأعشاب الضارّة في إبداع المنصات
(Getty)

جلب التحوّل الرقمي المتسارع كثيرًا من الأشياء، منها الجيد، ومنها المدمّر، ونحن ما زلنا في بداية الطريق على ما يبدو، لكن هذه التحولات تشكل أزمة أحيانًا، بالنسبة إلى الأفراد والجماعات، بل وحتى المجتمعات بأكملها. فإلى أين سيودي بنا هذا التحوّل التكنولوجي المتسارع بسبب الثورة الرقمية؟

حتى المشاعر لم تسلم منها، فهذه التقنيات الجديدة، والمنصات المتنوعة، لا تغيّر سلوك الأفراد وحسب، بل هي أيضًا تغيّر الإحساس بالسعادة، والإحساس بالذات، فهي تبلبل قدرة الفرد على تقويم نفسه، بما تقدّم له من مظاهر القبول أو النجاح أو الإطراء على مساهمات، هي في الواقع سطحية وبلا قيمة أحيانًا، والدليل هو ظاهرة الـ "ترند" التي يمكن أن تجلب ملايين التفاعلات على موضوع تافه ولا يحمل أي قيمة إبداعية أو قيمة مضافة إلى معارف الإنسان.

كثرت في الفترة الأخيرة ظاهرة الاتحادات أو الأكاديميات التي تسمي نفسها باختصاصات أدبية أو إبداعية أو في علوم إنسانية متنوعة، تمنح المساهمين بطاقات عضوية، وتنشر مساهماتهم على مواقعها الموجودة على منصات التواصل الاجتماعي فحسب، خاصة على الفيسبوك، من دون تأصيل، أو اعتراف من قبل مؤسسات أكاديمية رسمية، وتهديهم شهادات التقدير، بل وشهادات الدكتوراه أيضًا.

إلى أي مدى يمكن، ويجب، أن تلتزم المنصات الرقمية بحرية التعبير، وحرية تبني مساهمات على أنها ثقافية أو إبداعية من دون أن تحمل أي قيمة جمالية أو فكرية؟ وما هو خطر هذه الكيانات غير المضبوطة والتي لا تهتم بمعايير الجودة في ما تتبنى من مساهمات، على الوعي العام والذائقة العامة؟

من المعروف أن منصات التواصل الرقمية ليست شركات محايدة، ولقد شاهدنا ممارساتها في ما يتعلق بالحروب الناشئة في أكثر من بقعة، من الحرب الروسية الأوكرانية إلى الحرب الإسرائيلية في غزة، إذ تدخّل غوغل في الحجب والإتاحة وفقًا لسياسته وموقفه، كذلك يوتيوب، وتيك توك، وفي تويتر وفيسبوك وغيرهما، حتى إن المستخدمين صاروا يلجؤون إلى رسم كلمات "ملغّزة" مفهومة بين بعضهم بعضًا، في تحايل على رقابة المنصات التي قد تحذف المحتوى الذي لا يناسب توجهها. هذه الشركات العملاقة، التي تمسك اقتصاد العالم تقريبًا، وتبتلع البشرية في فضائها، فلا أحد يستطيع العيش خارجها اليوم، تستجيب بسرعة إلى الأحداث العالمية، وتغير قواعدها أحيانًا، لكن ما الذي يعنيها مما يُنشر من مساهمات فردية، أو جماعية، تحسب على مجال الثقافة والفنون والإنتاجات الإبداعية المختلفة؟

ماذا عن الأدب، والإنتاج الثقافي الإنساني؟

ظاهرة حرية النشر هذه، من دون معايير أو مرجعية، لها ما يقابلها في الواقع بالنسبة إلى صناعة الكتاب الورقي أيضًا، بل وصناعة الكتاب بشكل عام، إنما ليس الغرض من المقالة الحديث عن الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني، إنما الإشارة إلى ما يؤثر على قيمة القراءة والإبداع، وأهميتها في تشكيل الوعي وتحفيز العقل والذائقة الجمالية، أمام البروز الجلي لملامح "الرداءة" التي تسبغ هذه الحقبة، من رداءة الإعلام إلى الصحافة إلى الثقافة إلى كثير من مفاصل الحياة، فالأزمة التي تطاول المجتمعات أو الشعوب لا تتجزأ، وبلداننا العربية، في غالبيتها، متأزمة وتعاني من الحروب والانهيارات المجتمعية والاقتصادية، والقانونية، هذا ما انسحب على عالم الكتاب أيضًا، والذي ما زال يكافح من أجل وجوده في الحياة العامة، وتراجع الشريحة التي تقرأ أيضًا، هذا التراجع بدأ منذ اللحظة التي راحت دور النشر بالتراخي في دورها ومهمتها، على حساب قيمة المنتج الأدبي أو الثقافي، فتغيرت العلاقة بين المنتج، وهو هنا المؤلف، ودار النشر، فصار كثير منها يطلب مقابلًا ماديًا باهظًا من الكاتب لقاء نشر كتابه، خاصة إذا كان الكتاب الأول، أو كان كاتبًا غير معروف، وبالتالي يدفع الكاتب الطامح بأن يكرّس نفسه روائيًا أو شاعرًا أو كاتبًا، ويحلم بالشهرة، يدفع أكثر من كلفة طباعة كتابه، وفي الوقت نفسه تطبع دار النشر أعدادًا محدودة من الكتاب بانتظار نتائج الإقبال عليه، لا يهمها المحتوى وهل يرقى إلى مستوى الإبداع أم لا، كما أن هناك كتابًا يطبعون على نفقتهم أعدادًا محدودة من دون تأصيل لكتبهم او إيداع، ويعرضونها في بعض المكتبات، مثل السلع التي تصنع يدويًا.

هذه الحالة من التراجع في مستوى الإنتاجات الأدبية شكّلت ظاهرة ازدادت انتشارًا وتوسعًا في هذه المرحلة التي يتحول العالم فيها، بكل المجالات، إلى عالم رقمي، بات يغيّر كثيرًا من الأنماط التقليدية في إنتاج الإبداع بكل أشكاله، وفي طريقة إشهاره وتسويقه، وفي علاقة منتج العمل بالقارئ، عن طريق المنصات الرقمية المتوافرة بكثرة، والمتنوعة وما زالت تتنوع، أكثرها تداولًا هي مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك، بما لديها من بساطة في التعامل مع إعداداتها وأساليب التعاطي معها، دائمًا هناك جمهور يتابع ويشجع وينثر التبريكات والإعجابات يمينًا ويسارًا، من دون توفر الحد الأدنى من القراءة النقدية، أو من السؤال حول المنشور، إلا في ما ندر.

ما يثير القلق من هذه الرداءة المتنامية، أن أغلبية الناس في مجتمعاتنا لا تقرأ، لم تعد ثقافة القراءة أو "المطالعة" موجودة في حياة الأفراد، ولم تعد من العادات التي كان الأهل يسعون إلى تمكينها لدى أبنائهم، ولم تعد المدارس تهتم بهذا الأمر، فبعد أن كانت المكتبة ركنًا أساسيًا في كل مدرسة حتى أربعة عقود خلت، صارت المدارس خالية من المكتبات، ولم يعد للقراءة مكان في عادات الأفراد.

باتت هذه المواقع منصات مشرعة لكل المساهمات من دون ضوابط ولا معايير، حرية مطلقة، إذا لم تخترق الضوابط التي يضعها مؤسسو هذه المنصات ومالكوها، وهي بالطبع لا علاقة لها بالمستوى القيمي والفني والإبداعي لما ينشر. أما على المستوى المحلي فلكل دولة ضوابطها أيضًا، لكنها جميعًا لا يعنيها المحتوى إذا لم يمس التابوات التي يحددها النظام السياسي والديني والاجتماعي، وكل دولة وضعت قوانين ناظمة وصار هنالك ما يسمى الجرائم الإلكترونية.

قد يُطرح سؤال منطقي أمام هذا العرض، وهو كيف يمكن التصدّي إلى هذه الظاهرة المتنامية بكثرة لافتة، من دون الاصطدام بمبدأ حرية التعبير، وديمقراطية الفعل؟ ومن دون الاصطدام بمفهوم الرقابة، أيضًا، التي دفع ثمنها على مر التاريخ كثير من المبدعين والمفكرين؟ ومن له الحق في إطلاق أحكام قيمة حول ما يُنشر؟ بالفعل هو سؤال مشروع، وليست الإجابة عنه بهذه السهولة، بل يمكن ألا يكون هناك إجابة شافية عنه.

هذه قضية إشكالية، ومشكلة في الوقت نفسه، قضية تستوجب الوقوف في وجهها لمنع تفشيها أكثر واستباحتها القيم الجمالية والمعرفية، بما تتمتع من سهولة الإشهار والتسويق، وتأثيرها مع الوقت اضطرادًا مع تراجع قيمة القراءة وأدواتها وطرق تحققها، وتزامنها مع ظاهرة أخرى لا تقل خطورة على الوعي العام، وهي المرجعية.

صارت مواقع التواصل الاجتماعي إحدى أهم المرجعيات بالنسبة لشرائح واسعة في مجتمعاتنا، وصارت مصدر الحصول على الخبر بشكل كبير، من دون التحقق من صحته، بل ومن دون الوعي بأن للخبر مصادر ذات مصداقية، ومن دون الوعي بمعنى التوثيق أو المصادر الموثوقة، ما أتاح لأصحاب هذا "الإبداع" البديل أن يصبحوا رموزًا، لدى متابعيهم، للثقافة والإبداع والمعرفة والحكمة، وبالتالي يصبحون قدوة لمن يتابعونهم ويتمثلون قيمهم وأفكارهم بشكل أعمى.

المشكلة تنذر بخطورة تتفاقم مع الزمن، تحتاج إلى معالجة دقيقة وواعية، وهذا لن يتم، كما لن يكون للجهود المبذولة، فيما لو وجدت، أي تأثير ملموس أو يبنى عليه، من دون إصلاح ما خربه الزمن من قيم وثقافة مجتمعية، لن يكون من دون بناء أجيال تعرف كيف تفكر، كيف تشكل ذائقتها، كيف تقرأ، كيف تختار مرجعيتها. أجيال يبدأ تكوينها منذ الطفولة الأولى، في البيت، في الحضانة، في المدرسة، في الجامعة، وأن تعود القراءة إلى الحضور الواعي في حياة المجتمع كقيمة مهمة، هذا ما يمكن تشبيهه بتفعيل جهاز المناعة ليتصدى لهذه الأعراض المنذرة.

صحيح أن شيوع المنصات لم يستثنِ مجتمعًا ولا شعبًا في العالم، لكن الفارق، أو المفارقة، أن هناك مجتمعات حافظت على، ومكّنت مكانة القراءة، وأسّست لأجيال تعرف كيف تتعامل مع المنتج الثقافي، كيف تفكر، كيف تسأل، كيف تكوّن رؤية نقدية لما يعرض أمامها، كيف تتحرر من أسر اليقينيات والإملاءات، كيف تميز جماليًا بين الرداءة والجودة، لذلك نرى أن الأجيال الشابة، كما في أوروبا على سبيل المثال، تعرف كيف تعبّر عن رأيها وتحدّد موقفها ويكون لها رأي في الشأن العام، مبني على رؤيتها التي تشكلها وفق هذه القواعد التي نشأت عليها، حتى في الشأن السياسي واختيار من يمثلها، ومساهمة الجيل الشاب في الانتخابات الحالية للبرلمان الأوروبي دليل حي، بغض النظر عن النتائج، وإن أعجبتنا أم لم تعجبنا، فهي ظاهرة تنمّ عن جيل يعرف كيف يعيش في الحاضر، يتأمل، يقرأ الواقع، يستقرئ، ويصوغ أسئلته باستمرار.

إذا لم تتعافَ الثقافة والإبداع بكل أشكاله، وتصبح قادرة على محاصرة الأعشاب الضارّة التي تنبت وتنمو في "مساحات الحرية" التي توفرها المنصات وغيرها، سوف تبقى مجتمعاتنا في حالة تراجع متسارع عن العيش في العصر، وعن مواكبة الحضارة الإنسانية المتفجرة باستمرار، والكاشفة لحقول شاسعة في إمكانات الخيال والابتكار والإبداع.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.