}

ما أخلاقيات الرعاية التي نحتاج إليها؟

سوسن جميل حسن سوسن جميل حسن 3 يوليه 2024
آراء ما أخلاقيات الرعاية التي نحتاج إليها؟
(Getty)


أخلاقيات الرعاية هي حركة فلسفية أخلاقية تبلورت في أواخر القرن العشرين، تُرجع الدراسات هذا المفهوم إلى عالمة النفس والباحثة الأميركية كارول غيليغان، التي رأت في أخلاقيات العدالة، أو الأخلاقيات التقليدية، وجهة نظر بطريركية، منتقدة أستاذها عالم النفس لورانس كوهلبرج الذي وصل في دراساته إلى نتيجة أن الفتية أكثر نضجًا أخلاقيًا من الفتيات. وإذا كان هذا المفهوم نُسب إلى النسوية فإنه توسع لاحقًا ليطاول مجالات أخرى اجتماعية وسياسية، إنما يمكن القول إنّ الرعاية، كنشاط وسلوك بشريين، تاريخيًا، قد ألصقت بالمرأة، ومفهوم الأخلاق ميّز بين أخلاقيات الرجل وأخلاقيات المرأة، علمًا بأن الأخلاق يجب أن تكون إنسانية من حيث المبدأ لا علاقة لها بالجنس، أو العرق، أو الدين، أو أي تصنيف آخر.

وكانت هناك نساء كثيرات خضن في هذا المجال في الواقع قبل غيليغان، فالبريطانية ماري ولستونكرافت قبل أكثر من قرنين كانت تدعو إلى تغيير شروط عيش النساء وتمكينهن تعليميًا واقتصاديًا كي يستطعن التعبير عن القيم الأخلاقية وممارستها كحالة إنسانية؛ "أعطوا النساء تعليم الرجال ولن تكون النساء أقل من الرجال في كونهن أناسًا ناضجين أخلاقيًا".

تشير دراسة منشورة في موقع الإسكوا في ديسمبر/ كانون الأول 2022، وفقًا للتقرير العالمي للفجوة بين الجنسين لعام 2022، إلى أن انخفاض معدلات المشاركة الاقتصادية للمرأة في المنطقة العربية مرتبط بعوامل متنوّعة، أبرزها أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر التي تقوم بها المرأة. "وعلى الرغم من أن التوزيع غير المتكافئ للرعاية غير مدفوعة الأجر بين الرجل والمرأة هو ظاهرة عالمية، إلا أنه بارز خاصة في الدول العربية، حيث تقوم المرأة بما يعادل 80 إلى 90 في المئة من جميع أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، وتقضي في المتوسط 4.7 أضعاف الوقت الذي يقضيه الرجل في مهام الرعاية غير مدفوعة الأجر"، كما يقول التقرير.

على الرغم من أهمية التقرير، فلا يمكن تعميم ما جاء فيه على كل المناطق العربية، ففي العقدين الأخيرين على الأقل تغيرت الأحوال في عديد من الدول العربية، كاليمن والسودان والعراق وسورية وغيرها بدرجات متفاوتة، نتيجة للحروب والانهيارات الاقتصادية والمجتمعية والحقوقية بالنسبة لهذه البلدان، وبالتالي فإن وضع المرأة تراجع وفقدت كثيرًا من القليل الذي كانت قد حصلت عليه قبل ذلك، كما تغيرت ظروف المجتمعات وقيمها ونواظمها الأخلاقية، ما سوف يؤدي إلى انحدار الرعاية إلى مستويات من الفوضى والإجحاف بحق من يقدمها ومن يتلقاها، علمًا بأن مجتمعاتنا بشكل عام ما زالت محكومة بمنظومة القيم والأعراف والدين والثقافة الجمعية التي ترسخ مفهوم الرعاية كقيمة أخلاقية، وكنوع من أنواع الفضيلة العظمى، إنما ليست من منطلق الفضيلة التي نادت به أخلاقيات الرعاية التي نشأت كنظرية تستبطن فلسفتها الخاصة، بل الفضيلة التي تمجّد الغيرية والإيثار والواجب الذي تدعو إليه الأعراف والتوصيات الدينية، وعلى وجه الخصوص ارتباط الفضيلة بالمرأة في الدرجة الأولى، وجعلها قيمة عليا ترفع من مراتبها في الدنيا والآخرة.

المجتمعات تتغير، وتتغير بسرعة كبيرة في عصرنا الحالي نتيجة الثورة الرقمية وتخلقها المتسارع بأشكال متنوعة تجتاح الحياة البشرية وتفرض عليها أساليب جديدة، هذا ما ينعكس على منظومة القيم والعادات والأعراف والثقافة والعلاقات بين الأفراد أيضًا، وهذا ما تنتبه إليه الدراسات الإنسانية في المجتمعات المتطورة، وإذا كانت الحكومات أو الأنظمة تواكب هذه التغيرات فتسعى إلى مراجعة قوانينها ومعاييرها الناظمة للحياة الجماعية ومؤسساتها المعنية بالأمر، فإن المتخصصين في مجالات العلوم الإنسانية والفلسفة يواكبون أيضًا هذه الظواهر المستجدة، أو التغيرات، ويسعون إلى استنباط نظريات تطرح أفكارًا ربما تلائم الحياة الإنسانية أكثر، لذلك ازداد الاهتمام في نهايات القرن العشرين إلى اليوم بنظرية أخلاقيات الرعاية، التي تولي اهتمامًا كبيرًا وتعوّل على العواطف والمشاعر والعلاقات الإنسانية، في مفارقة إلى حد ما مع نهج الأخلاق العقلاني الذي يتضمن، من بين أشياء أخرى، على الضرورة، ومحوره الواجب والإرادة، وهو ملائم لمختلف السياقات القانونية، ولكن ليس لجميع الروابط الاجتماعية، كالصداقة والأسرة التي تعدّ مركزية في أخلاقيات الرعاية، كذلك الأمر في النظرة النفعية التي تركز على عواقب الأفعال البشرية، وأخلاقيات المهنة، وتعدّ أكثر قدرة على التعامل مع مسائل الحياة "العامة"، ومن هذه الناحية فإن من المرجح أن يقع كلا المفهومين إلى جانب العدالة أكثر منه إلى جانب أخلاقيات الرعاية، بحسب رأي فرجينيا هيلد، التي ترى أن المجتمعات الحالية بحاجة إلى "أخلاقيات الرعاية وليس مجرد الرعاية نفسها".

ترجع الدراسات مفهوم أخلاقيات الرعاية إلى عالمة النفس الأميركية كارول غيليغان، التي رأت في أخلاقيات العدالة، أو الأخلاقيات التقليدية، وجهة نظر بطريركية (GETTY)


هل يمكن تعزيز أخلاقيات الرعاية في بلداننا من دون تغيير النظام التعليمي والتربوي والحقوقي والقانوني؟ هل يكفي أن تعلو أصوات فردية أو جماعية عن طريق مؤسسات أو جمعيات أو منظمات، بضرورة المساواة، ومنح المرأة حقوقها، ورفع الغبن عنها في كثير من أوجه النشاط المجتمعي، أو كثير من الأدوار الأسرية، من دون أن يفهم ويتفهم المجتمع أن هذه الأدوار التي ألحقت تاريخيًا بالمرأة، لم تكلف بها من السماء، ولم تسن تشريعات أرضية تلزمها بها، بل إن التراكم التاريخي للثقافة القائمة على التمييز، وتفضيل الرجل على المرأة، جعل من هذه الصورة النمطية شكلًا من أشكال اليقين الذي لا يناقش، ليس هذا فحسب، بل صارت بعض اليقينيات أو المسلمات جزءًا من المقدّس المتبع بلا أي جدال أو تساؤل، خاصة وأن ما يميّز غالبية أفراد مجتمعاتنا أنها شخصيات امتثالية، تتلقف ما يأتيها من "فوق"، هذا الـ "فوق" يمثل سلطة ما، وبالتالي سلطة معرفية، غالبًا ما يجري ترديد أقوالها وتعاليمها والتقيد بها من دون مناقشتها.

من منّا لن يحتاج إلى الرعاية في مرحلة من مراحل حياته، كما احتاجها في طفولته؟ هذا منطق الحياة وطبيعتها، فكلنا قد نمر بمرحلة، أو مراحل، من الهشاشة والضعف، نحتاج فيها إلى عون ودعم الأخرين.

تلقى مسؤولية الرعاية في مجتمعاتنا بشكل عام على المرأة، فهي وجدت لتخدم وترعى، إن كان أطفالها أو ذويها، وهذه هي الفضيلة التي يجب أن تتمتع بها، هذا ما تتربى عليه الفتيات منذ الطفولة في مجتمعاتنا، ويتربى الفتيان على قيم أخرى، فالمرأة تُربى على أساس السلوك الواجب الالتزام به وفق الأحكام القيمية التي تحمّل للمرأة، بينما الفتى ينشأ على قيم أخرى، لها علاقة بالمفاهيم الأخلاقية، فتكون النتيجة أن المرأة غير قادرة على تمثل القيم الأخلاقية. علمًا بأن قدرة المرأة على الرعاية تعد قوة إنسانية، وهي القدرة التي يمكن، بل ويجب، تعليمها للرجال والنساء، فهي بناء على هذا تعد مسؤولية اجتماعية من دون تمييز على أساس الجنس، كما تقول خبيرة الأخلاق نيل نودينجز، لكن المساواة في هذا المجال ما زالت منقوصة حتى في المجتمعات التي قطعت شوطًا كبيرًا في هذا المجال، أما لدينا فما زالت المسألة تزداد تعقيدًا، ويلعب السلطان الاجتماعي والديني والقانوني أيضًا دورًا سلبيًا فيه، حتى على مستوى الرعاية المؤسساتية، كما في دور الحضانة مثلًا، حيث ليس شائعًا ولا مقبولًا أن نرى مُربّين ذكورًا فيها، فكيف في الفضاء المنزلي وتقاسم المسؤوليات؟

ما يلفت النظر بالنسبة إلى الرعاية في مجتمعاتنا أن أخلاقيات الرعاية وأخلاقيات العدالة تمشيان بالتوازي، وهذا من حيث المبدأ أمر إيجابي، وتلفت النظر إليه فيلسوفة الأخلاق الأميركية فرجينيا هيلد في دراساتها. لكن حتى في أوقات الاستقرار لم يكن هذان النمطان من الرعاية يتمتعان بالتعافي المطلوب كي يكونا فاعلين، فالأعراف تمارس سطوتها، والقوانين لم تكن بمنجاة عن الفساد الذي يبعدها عن نزاهة الأحكام والعدالة بتطبيقها، وعن تطبيق المساواة والعدالة الاجتماعية.

ما الذي تحتاج إليه مجتمعاتنا؟

إن الرعاية تمضي وفق الثوابت التي ينشأ عليها الفرد، المنبثقة من الثقافة المجتمعية، وهي تترنح بين ما يمكن أن يحسب على نهج أخلاقيات الرعاية، ونهج أخلاقيات العدالة، هنا يتدخل الدين بشكل واسع، فإذا أخذنا في الحسبان العودة المتنامية إلى التمسك بالقيم والتعليمات الدينية، خاصة تحت وطأة الظروف القاسية التي يعيشها الناس، فإن الرعاية بشكل عام تتعرض إلى نكوص نحو حقبة سابقة كانت فيها المرأة تعاني من وطأة الثقافة والتقاليد والأعراف، قبل أن تستطيع الوصول إلى جزء يسير من حقوقها، وصار لزامًا عليها أكثر من الماضي القيام بالرعاية الأسرية وتحمّل الجزء الأكبر من مسؤوليات الحياة، من دون مقابل أو اعتراف بمجانية ما تقوم به، بل هو في الوجدان الجمعي دورها الذي خلقت من أجله.

تجادل فرجينيا هيلد في فلسفتها الأخلاقية بأنه يجب أن يكون هناك توجيه أخلاقي لفهم كيف قد تحتاج العلاقات القائمة إلى التعديل والتجديد عندما لا تعود الأمور تعمل؛ لكن هل من السهل إخضاع الأعراف والمعايير المحلية للنقد الأخلاقي المنهجي، خاصة عندما تتشابك مع المقدس والتعاليم الدينية؟

أخلاقيات الرعاية ترى أن الناس مرتبطون ومترابطون، أي يعتمدون على الآخرين وعلى علاقاتهم بهم، وهذه الأخلاقيات تحتاج إلى العواطف والمشاعر، في افتراق عن أخلاق الواجب والنفعية. وهذا يتطلب وضع مبادئ توجيهية لسلوك الرعاية، إنما هذا صعب بمكان، إذ من الصعب التنبؤ بطريقة دقيقة بكيفية تصرف الناس بناء على عواطفهم، فهذا أمر لا يمكن إخضاعه للتعليمات، لكن يمكن الاعتماد على الإحساس بالآخرين والحدس والخبرة الاجتماعية، فالأشخاص الذين يهتمون بالآخرين لا يتصرفون بدافع المصلحة الذاتية، ولا بدافع الاهتمام المطلق بالآخرين فحسب، بل في مساحة تنوس بين الحالتين، مساحة لكل فرد أن يجد نقطة ارتكاز له فيها، هذا ما تعبر عنه فرجينيا هيلد؛ "تعترف أخلاقيات الرعاية بالقيمة الأخلاقية وأهمية العلاقات الأسرية والصداقة والحاجة إلى التوجيه الأخلاقي في هذه المجالات لفهم كيف ينبغي في كثير من الأحيان تغيير العلاقات القائمة وتطوير علاقات جديدة".

لا شك في أن الاهتمام الأخلاقي يحتاج إلى توجيه، إنما هذا التوجيه بدوره يحتاج إلى معرفة أيضًا، فعلى الرغم من كونه يناشد الفضيلة بشكل أساسي، أو يتوجه إلى تعزيز الشخصية الفاضلة، لكن مفهوم الفضيلة بحد ذاته مفهوم إشكالي وغير مستقل عن المنظومة القيمية والثقافة الشعبية المبنية تاريخيًا لدى أي شعب، وكي تنجح الجهود الساعية إلى تعزيز أخلاقيات الرعاية في مجتمعاتنا، لا بد من تغيير النظرة النمطية للأدوار الاجتماعية التي تميز بين الرجل والمرأة، وعلى وجه الخصوص في المرحلة الراهنة التي وصلت فيها هذه المجتمعات إلى مستويات بالغة القسوة والضيق المعيشي والقلق الوجودي، ما أدى إلى انتكاسات عديدة ومتنوعة أثرت بشكل كبير على مستوى الوعي وإدراك الذات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.