}

الحب

دلال البزري دلال البزري 24 يوليه 2024
يوميات الحب
(منصور الهبر)

                                          

1- هو ليس هو...

يجلس على تلك الكنبة أمام التلفزيون ويغرق في رخاوتها، حاملًا ذاك الكأس. فوق رأسه لوحات رواد الفن التشكيلي، وأمام ناظريه التيراس الحاضنة لضوء القمر... في بيت الأحلام هذا. لم أعد أسترسل بالمتعة اليومية لجمال هذا البيت المليء بالمرايات والألوان والفسحات الرحبة. لا أستطيع.

أنظر إليه وأَقع على بروفيله. البروفيل يفضح. يريك الوجه من زاوية الأنف. عادة، لا نتواصل مع من حولنا إلا وجهًا لوجه، لا من خلال البروفيل، كاشف الأنف بامتياز. أول ما لاحظت أنفه وهو في هذه الحالة من التكوّم، قلت إنه ربما تعبان، ربما شارد، ربما سكران. ولكن مرة واثنين وثلاث، ومرات لا تعود تعدّ.... والأنف ينزل إلى أسفل، يكاد يلمس شفته العليا. وكأن الخالق تدخّل وقرّر أن يعطي دفعة نزول قبل أوانها، قبل الشيخوخة.

إشارة على ماذا؟ شيء ما يقول لي بأن هذا النزول السريع لأنفه، بهذه الصورة الواضحة، يشي بأكثر من مجرد تعب. الفكرة مزعجة. لا أود التعمّق بها. أحيانًا، نادرًا بالأحرى، عندما أعدّ نفسي لإحساس ثقيل، أسأله:

- إشْبَك شي حبيبي؟

- لا أبدًا ولا حاجة... يجيب

ويعود إليّ أنفه في ساعات غيابه، فأطرده. 

حسنًا. أُبعدُ الأنف عن نظري. ولكن العين. عينه انطفأ بريقها. فرغت من أنسها. جفّت، مع أنها غارقة في ضباب منخفض. العين أقوى من الأنف. بوسعك تفادي الأنف. أما العين فلا. "باب القلب"، يقول عنها أهل التصوّف.

أنظر اليه، وأتذكره. لكي تستمر رغبتي به، أو بالكلام معه، عليّ أن أتذكر عينه، كيف كانت تشعّ مثل بحر فضي. عليّ أن أنسى كيف أصبح الآن. في البدء كان لهذا الجهد نتيجة. مع الوقت، صار من الصعب استحضار عينه السابقة. وصرتُ أتفادى النظر إلى عينه. من دون أن أسترسل كثيرًا في الذي تغيّر عنده. أتفادى النظر إلى عينه، كما إلى أنفه. أحدس أن في الاثنين نقطة سوداء، شيء لونه أسود، لست مدفوعة ولا راغبة بالتفكير به. والغريب أن عينه الجديدة هذه لم تدفعني إلى طرح السؤال إياه، الخاص بالأنف: "اشْبَك شي حبيبي؟". هل يكون الأنف أشد وقعًا من العين؟ أم أن تجربة الأنف صارت هي القاعدة؟

لكن الأمر الجديد يفرض نفسه. تدعمه بقية وجهه. لا ليست التجاعيد. مع أنها تزايدت، ولكنها ليست مهمة لرجل بعمره. وجهه صار وجهين: واحد منتفخ والآخر مجوّف. وجهان متعايشان.

عندما أكلّمه أشعر بالإحراج، نوع من الإحراج الجمالي. ألاحظ الانتفاخ، أستحي عنه، فألجأ إلى بقعة أخرى، فأجد الحُفَر. ألوم نفسي. أقول إنه رجل، وليس امرأة. لا تُعاب عليه هكذا تبدلات. نعم أُسكت نفسي بهكذا كلام. أطرد نفوري الجمالي، كما أطرد الأسئلة. وحجّتي قوية: أتصور نفسي ذاهبة بعيدًا في التدقيق بتحولاته "الجسدية"، فألوم نفسي على هذه الحرية بالنظر. وأنهي هذا النقاش الداخلي بأن أطرح على نفسي السؤال عن تحولاتي "الجسدية" أنا. ألم يأتِ الوقت على "جمالي" وبريقي أيضًا؟ أنظر إلى المرآة، وأستعيذ الشيطان. أنفي كبر، وعيوني ضاقت، ذقني فقد تدويراته، وشقت تجعيدتان طريقهما على جوانب خدودي، و... و... أنا أيضًا لا أريد النظر إلى المزيد. فقدت متعة النظر إلى نفسي. أنا مثله فقدت شيئًا، أو كثيرًا من جاذبيتي.

ولكن... الاستكانة لا تستمر. فهناك أيضًا حركته، غيابه، رغبته. صار بطيئًا، متكاسلًا. كان مثل البرق يمشي بعصب مشدود. برجولة حقة مطمْئنة، بنوع من الانضباط اكتسبه في الجيش، هو خريج الفنية العسكرية. أول ما سحرني، في البداية، كان بمشيته هذه. والآن يقترب من الحطام. يتجه نحوه.

من عتبة البيت، يدخل مصحوبًا بهالة من الضباب، كأنه محمول على فقاعة ضيقة. ما يشبه الكوما المتحركة. يصمت عندما أتكلم ويصمت عندما أصمت. لم يعد عنده كلام، بعدما كان "يأكل الآذان". يعود إليه لسانه أحيانًا، عند إلحاحي أو سؤالي، ليقول أشياء غير واضحة. أؤجل الفهم إلى اليوم التالي.

-       شو قلت مبارح حبيبي بخصوص كذا... أو كذا...؟

أسأله أين كان الليلة الماضية؟ لا في الشغل، ولا على الموبايل.

-       وين كنت...؟

يتلعثم، يتبرّأ، ينفي، لا يصدّق ما يقول. وأنا يزيد حنقي. ولا أفهم شيئًا. أكره ما لا أفهمه. أكره حالة عدم الفهم.

أما رغبتي، أو رغبته، أو الاثنان معًا، فصاروا يشبهون الاصطياد في الماء العِكر. أترقب لحظة صفاء وسط ضبابه الكثيف. ألتقطها و"أبني عليها". ولكن سرعان ما يخطفها ضبابه. فأقرّر بأن الليلة هذه غير موفقة. أقرر سرًّا، لا أفشي بسري. أستمر بلعب دور الصيادة. ولا أود أن أقارن مع تلك الأيام التي كانت فيها الرغبة بداهة. ولكي أستمر بتأجيل السؤال، أتمرّن على التذّكر، على استحضار الرجل الذي كانه، كما مع أنفه وعينه... تمرين يضع رغبتي على النار... ولكن متى تنتهي مدة صلاحيته؟ أؤجل هذا السؤال أيضًا... لا أريد أن أعرف بالضبط ما حلّ به. يصعب عليّ الذهاب بعيدًا بالتفكير. قد أتوصّل إلى نتائج لا أتحمّس لها. 

ومع ذلك، أسترق المحاولات بين حين وآخر. عندما أجد نفسي في حالة من التخمين. هل أصابه الضجر؟ الضجر العادي أقصد، ذاك الذي يصيب اليوميات العادية بين الأزواج. أشعر أنني عالقة في الضجر، تمامًا كما كنت أعلق بالبيت وسط القذائف والرصاص، أبحث عما يلهيني، أو يلهينا نحن الاثنين. أجد، وجدتها وجدتها... لعبة الشطرنج. كان يروي لي عنها قصص مباراة وبطولات فيه مع أبيه وأولاد خالته. أحب اللعب. شيء ما يقول لي بأن اللعب قد يرفع أنفه ويعيد حماسته.

- تعا نلعب... أقول له، بعدما أكون غلفت علبة الشطرنج بالورق الأحمر والشرائط، كما لهدايا الميلاد. 

- ما حبش اللعب ده... ما ليش مزاج يجيب، بقليل من الخجل. بعينه التعبة هذه. طبعًا أهم شيء المزاج. المزاج مقدّس. أضع علبة الشطرنج في أعلى رفّ المكتبة. أتحسّر على اللعب. وأنسى... ضجره أقوى من اللعب ومن الشطرنج. 

حسنًا، ماذا إذًا؟ هل هو التلفزيون؟ هل ضجر من نشرات الأخبار؟ أو من التوك شو؟ أنا مدمنة عليهما. لا يمر يوم من دون أن يكون لهما وقت محدّد ومتابعة وانتباه. أعرف أنه "لا يحب السياسة"، كما يقول. ولكن أنا "أحبها". أشدّ انتباهه إليها، أشرح له، قدر ما أستطيع، بعض "تعقيداتها" الكثيرة. أكثر من ذلك: أدعه يألف وجوه السياسيين و"المحللين" و"الخبراء"، يسخر من طبائعهم وكلامهم وحركاتهم، ويقدر بشكل خاص المهرّجين من بينهم. كلما طلع واحد منهم، أو أعلن مسبقًا عن طلوعه، نجلس أمام الشاشة، ونمضي أوقاتًا ممتعة من الضحك... ولكن ما أن يغيبوا حتى يعود أنفه، عينه....

-       طيب، حطّ على الفوتبول... على أية مباراة، إن شاء الله كانت بين قرية وقرية.

يلوذ فيها من ضجره. أشاهد معه المباراة. من غير اهتمام، وأنا غائبة، أحلم بالسطور التي تركتها عن بحر كتاب أقرأه. أشتاق إلى الكتاب. خلال إحدى المباريات، وأنا في وسط إحدى الروايات المثيرة. أختلقُ حاجة ما في الحمام، أحمل الكتاب إلى الحمام وأروح أتابع وقائع الرواية المشوقة. أشعر كأنني أخونه، أشعر بألم في بطني. تركت الكتاب، وهرعت إلى المباراة. أطلب الغفران. فيتشجّع ويسألني بنبرة عتاب:

-       هذا الكتاب شغل أو تسلية؟ 

كيف أشرح له أن "الشغل" و"التسلية" شأن واحد؟                                                   

ولكن كلما طردتُ فكرة غيابه عني وهو حاضر، كلما تناسيتها، عادت إليّ أقوى. هل تكون الخمرة؟ هل تكون الخمرة هي التي بدّلت هيئته وفاقمت من ضجره؟ لا. لا يفترض ذلك. فالشرب من المقدّسات. الخمرة تحيينا، تسعدنا، تحرّرنا، تزيل الستريس... ولكن الخمرة لا يبدو أنها تسعده. كلما أكثر منها، تكوَّم أكثر، وأنفه وعينه...

- حبيبي.... ليش أنت حزين؟

-       أنا سعيد أوي أوي.... يجيب، وكأنه يعلن عن مصيبة.

المشكلة طبعًا أن الكلام عن الإفراط في شرب الخمرة يتحوّل دائمًا إلى شجار. والشجار مع الحبيب مثل تهديم أعمدة الهيكل.

- طيب خفّف شوية

- حَ حاول... حاضر. يجيب وهو غارق في ضباب الويسكي. 

السوسة ما زالت تنخر. ما أن يحضر ويجلس على تلك الكنبة حتى تكون الأسئلة. هناك امرأة أخرى، أنا متأكدة، حدسي لا يخذلني. "الأسباب" التي أطمئن بها نفسي لا تُسْكت شكوكي. هناك بالتأكيد واحدة أخرى.  كل هذه الغيابات غير المفهومة، التي لا يجيب عنها إلا متلعثمًا، كل رسائل الـ"إس إم إس" التي تخطف انتباهه فجأة، والمكالمات الغامضة... أسأله مرة عن واحدة منها، ولا أفهم شيئًا من إجابته. يصعب عليّ تصوّر فرضية "الواحدة الأخرى". مع أنها تلحّ عليّ. الشك عندي على قدم واحدة مع الثقة. والاثنان ينقلبان كل بدوره. هل أسأله؟ وما الفائدة من السؤال؟ هو سوف ينكر طبعًا. إذا افترضنا أن هذه الواحدة الأخرى موجودة، ما فائدة اعترافه؟ ماذا أفعل في هذه الحالة؟  لا لا مستحيل لا يمكن... وهكذا.

أسأله في يوم أميل فيه إلى الشك:

-       حبيبي... في واحدة تانية؟

-  طبعًا لا، يجيب

-       أنتِ الأحلى.... أنت... أنت.... ما فش زيّك في الدنيا كلها... وكلام من هذا القبيل..

أنظر إلى عينه وهو يجيب، أرى فيها الصدق. لا يمكن أن يكذب عليّ. إنه يحبني، يعبدني. ويحترمني أيضًا. أُقنع نفسي. والاحترام يردع عن الكذب. 

غرْبته، أريد أن أنساها. أريد استعادته، وتجاهل غيابه بحضوره. أعرف في سريرتي أنني أستعيد ذكراه وهو واقف أمامي أو جالس بقربي... أعرف أن كل مشهد من مشاهده الحاضرة، أستبدله بمشهده ماضيًا. إذا استوقفني أنفه، أستعيد أنفه السابق، وكذلك مع عينه وهندامه ومشيته ورغبته وكل كيانه... صارت ذكراه أكثر حيوية من حاضره، أكثر جاذبية. استحضر ما كانه. فأركّز، وأركّز... أغمض عينيّ، أعزل سمعي، أقف على التراس، أحيّي رومنطيقيتي؛ المدى الذي أمامي، جبل المقطّم يلوح في الأفق، بستان المانغا الممتد حولنا، ضوء القمر الفضي عند اكتماله.

وعندما أجد نفسي أمامه، وهو على ما صار عليه، أتمرّن على انعدام بصري. أحسب نفسي عمياء، فألوذ في هذا الذي كانه، لعلّني أسلم من أنفه، عينه، مشيته... يلوح صافيًا بملامحه الماضية، عندما يكون لديّ القوة على استحضاره. لكن صورته القديمة هذه تتشوش بملامح ناقصة أو ميتة، عندما أتعب.

أشعر أنني أخونه مع شبحه. إنه ذنب فظيع. فنحن صادقون مع بعض. هكذا رسونا في البداية. لا أعرف أن أخفي عليه أمرًا، ولا هو يعرف. أو هكذا أنا مؤمنة. عندما أقول له "بدي أعترف بشي..."، أكون بصدد إخراج قصة أو انطباع لم أبح عنهما، نسيتهما في مكان ما من سرّي. كيف أقول له أنني أريد الاعتراف له بأنني، لكي أشتهي وجوده الآن، عليّ أن أتخيله كما كان، عليّ أن أتخيل رجلًا آخر، ليس هو. ولأخفّف من ذنبي أقول لنفسي بأن هذا التبدّل عابر، مؤقت... نوع من أنواع "السْتريسّ". لا يخفّ الذنب مع تكرار التمرين. يعود الشعور بالخيانة أقوى كلما تفاقمت مشيته، كلما خفُتَ البريق في عينه... ومع الوقت، تضعف قدرتي على هذا التمرين، تبهت ملامحه الماضية ولا يعود الخيال مفيدًا. هو ليس هو. هو ما كان. ولكنني أتمسّك بخشبة خلاصي، خيالي...  

[يتبع]

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
26 يوليه 2024
يوميات
24 يوليه 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.