}

سردية مغايرة لقيامة أليعازر السوري: [الشعر يريد....]

منذر مصري 12 يونيو 2024
يوميات سردية مغايرة لقيامة أليعازر السوري: [الشعر يريد....]
أسيران في قفص، 2016 (منذر مصري)

بيان رقم (1):

 

بمناسبة ذكرى مرور /51/ عامًا على انقلاب عصبة الشعراء الأحرار على الخليل بن أحمد الفراهيدي:

[حطّم الميزان

طلّق القافية

قال:

"عليّ أن أعود عاشقًا

عليّ أن أكون هواء".

/

قال:

"وداعًا للطرق المعبدة

وداعًا لإشارات المرور

عليّ أن أتّخذ دربي عبر الغابة

عليّ أن أكون

شقيًّا"...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أذيع هذا البيان الانقلابي من مكبّر الصوت الرئيسي في مدرسة الإشارة، صباح يوم الخميس الواقع في 12/6/1973- وثبّت كوثيقة تاريخية في باكورة منذريوس مصريام: (آمال شاقة - 1978)].

/

توقظني من نومي صيحة: [الشعر يريد إسقاط...!]. أهبّ من فراشي كالملذوع! من؟ الشعر؟ ما هذا الهراء! يريد إسقاط ماذا؟ لم أسمع جيدًا! النظام؟ أيّ نظام؟ لا بد وأن هناك خطأً ما. البشر، غالبًا ما يلفظون، سهوًا أو عن قصد، الحروف الأخيرة من الكلمات بشكل غير صحيح، وكأن التقيد باللفظ الصحيح يضجرهم! أو، إنهم، لغاية يضمرونها في أنفسهم، ولا يستطيعون، لأسباب قاهرة، إظهارها، يقومون بتحريف الكلمات، على عادتهم الدائمة، حين تقتضي مصالحهم، في تحريف أيّ شيء. ولكن ماذا يهمّني أنا بالذات من كل هذا الهراء، بالنسبة لي كشاعر حديث، بل حديث جدًا، تبديل حرف أو حرفين، أو حتى تبديل كلمة بكاملها، لا يغير شيئًا. من لديه رغبة لأن يدقق يعلم أنه المعنى نفسه.

/

قلت: "توقظني من نومي صيحة". ولا أعرف ما إذا كنت نائمًا أم مستيقظًا؟ فربما يوقظك من نومك أحد في نومك! وربما تستيقظ من نومك، وتقوم من سريرك، وتغسل وجهك، وتقضي حاجتك، ثم ترتدي ثيابك، وأنت في نومك! لكن الوقت الآن، عصرًا، وأنا لم أرث عن أبي عادة القيلولة لساعة على الأقل، كل يوم بعد الظهر، التي كثيرًا ما أوقعت أمي في إحراج اجتماعي منقطع النظير، فعندما ينتهي الضيوف من الغداء، ويجلسون في الصالون لبعض الوقت، كما تقتضي اللياقة، ثم يهمون بالمغادرة، كانوا يلتفتون إلى أبي، رب البيت، لوداعه، فلا يرونه! وإذا حدث مرة، ونمت مضطرًا بضع دقائق، أستيقظ وأنا في حالة كآبة عميقة مجهولة السبب، ربما لا يكفيني للتخلص منها البقية الباقية من سحابة النهار.

/

قلت: "توقظني من نومي صيحة"! وهل أنا أليعازر الذي أحيتني وأخرجتني من موتي صيحة، كنت ميتًا منذ أربعة أيام؟ أم أتراه كان صحيحًا ما أشاعه الفريسيون والكهنة، أني في الحقيقة كنت ماكثًا في المدفن بناء على اتّفاق مسبق بيني وبين أختي الكبرى مرتا، الملقّبة بالمدبّرة، أقتات فتات خبز يابس وأشرب قطرات ماء آسن، حتى اخترقت مسمعي صيحة: "هلمّ فأخرج"؟

/

السؤال إذن: "من أين دخل الصوت؟" الجواب الجاهز: "دخل الصوت من النافذة!". الأصوات بطبيعتها تؤثر الدخول إلى البيوت من النوافذ. فالأبواب مخصّصة لتدخل وتخرج منها الأجسام ذات الكتلة، أمّا النوافذ فهي مخصّصة لدخول وخروج الأجسام الأثيرية! كالصوت والصورة والضوء والهواء والرائحة أيضًا. شمّوا هناك رائحة عصيدة مطبوخة بالسمن ومحلاة بالعسل، موضوعة على نار موقد أحد الجيران الآن. إلّا إن نوافذ بيتنا جميعها هذه الأيام موصدة ومحكمة الإغلاق. أرجوكم، حتى وإن كنتم لا تعرفون السبب، لا تسألوني كيف ولماذا؟ زوجتي، منذ أوّل ساعات النهار، ما إن جاءت الكهرباء، حتى راحت تقلّب محطّات التلفزيون، محطّة تلو محطّة. تتوقّف برهة لسبب ما! لا أدري ماذا لفت انتباهها، ثم تتابع تقليبها. لا ريب أنّ الصيحة قد خرجت من إحدى تلك المحطّات.

/

أتأمّل العصفور الذي ابتعته منذ فترة قصيرة، قلت لكم: "تحزنني رؤية أقفاصي خاوية"، علّني أجد فيه ما يسلو عني في مواجهة كلّ هذا الكدر، يا لجمال ألوان جناحيه، يفردهما الواحد بعد الآخر، واقفًا عند طرف مسند القفص، قرب المشربية، ويمسد ريشهما بمنقاره، يا لروعة رفرفة جناحيه، متنقلًا من مسند إلى آخر، تصورا أنه يستطيع حتى في القفص أن يجد فضاء لطيرانه! ويا له من تشبيه حزين، هذا الذي يخطر على بالي الآن، وهو إنني في أفضل أحوالي هذا العصفور، وإن وطني في أحواله كافة، قبل وبعد، هذا القفص! ولكن، ها هو العصفور، فجأة، يفسد عليّ تأملاتي، ويفاجئني بصراخه! ماذا هل العصفور يصرخ؟ ولكني بالكاد أستطيع أن أميز كلماته: [الشعب يريد الصعود إلى السماء]! وما علاقة عصفوري بالشعب؟ يا إلهي... ألمجرد أني شاعر أسمح لنفسي أن أصل إلى هذا الحدّ من الهبل.

/

أسألها، لأزيل الشكّ من رأسي، ما إذا كانت قد سمعت صراخ العصفور: [الشعب يريد الصعود إلى السماء] أو [الشعب يريد الطيران]، أو شيئًا آخر من هذا القبيل؟ تجيبني بصوت حاد، ليس بلا أو نعم، بل: "وماذا تريد من العصفور في القفص أن يصيح!".

/

عصفور في قفص، 2016 (منذر مصري) 


أنحني فوق مغسلة حمام الغسيل، منذ أسبوع لم أغسل وجهي، أسمع حشرجة: [الماء يريد السقوط من السماء]. أتراها اندلقت من صنبور المغسلة أم نبعت من فوّهة البالوعة؟ لا يوجد فم آخر في هذا الحمام! أم أن غسالتنا التي تهتزّ وتنتفض ككائن فضائي مقيّد في الزاوية، مطلقة من جرنها نعيقها العجيب، وهي تتظاهر بأنه لا علاقة لها بكلّ ما يحصل. ولكن من تظنّ نفسها تخدع؟

/

أسمعها وكأنها أهزوجة عالقة في أذني، وكأن أحدًا ما يغنّيها بالقرب من مسامعي، وكأنها ضجيج النهار، زعيق أبواق السيارات، نداء الباعة المتجولين، لهاث الناس، أسمعها وكأنهم ينشدونها على وقع خطواتهم وهم ماضون لقضاء حاجاتهم، وهم يحملون ربطات الخبز تحت آباطهم، وهم جالسون في المقاهي الشعبية يراقبون الأحياء يمضون إلى مواتهم، والموتى يعودون إلى حيواتهم: [الأحياء يريدون إسقاط الموت].

/

أنا لا أريد شيئًا، أنا لست في حاجة لشيء، حقّقت في حياتي كلّ أطماعي، أحببت، وتزوجت، وأنجبت أبناء، وكنت محظوظًا في الحب وفي الحرب، فلم أغدو بطلًا ولا شهيدًا، ولم يطلقوا اسمي على مدرسة ابتدائية أو مركز صحي، وعملت موظفًا حكوميًّا في دائرة رسمية مدّة /33/ سنة، ورسمت: "أبطل الشعر يا أخي، وارسم. الجميع يستطيعون كتابة الشعر، ولكن الموهوبين وحدهم يستطيعون الرسم"، قال لي محمد سيدة، لا أدري لتصديقه أني رسام، أم لرغبته الدفينة في إقصائي عن ساحة الشعر. وأقمت معارض فردية وجماعية في العاصمة والمدن الكبيرة، شرق وشمال وغرب وجنوب الإقليم. وكتبت، كتبت ولم أتورع عن كتابة كلّ ما عنّ على بالي من أفكار. أفكار تافهة لا قيمة لها غالبًا، وأفكار عظيمة أحيانًا، لا أنكر، لأنه ليس من الجيد للشاعر أن يبالغ في التواضع: "تواضع الشعراء اتّضاع"، نبهني مرة محمود درويش. وأصدرت ما يكفي من الكتب، منها /14/ مجموعة حائرة بين الشعر والنثر! وبين ما يستحق الخلود وما يستحق الحرق. ويا لي من ماكر أن تكون خطتي دفعهم لأن يحرقوا قصائدي وتصير نارًا ذات لهب! وأظنّه آن الأوان لأن أستريح! ماذا عساني أطمع أكثر؟ أنا لا أريد إلاّ ما يريد الشعر، والشعر سمعته بكلتا أذني، يصيح بملء شدقه الواسع: [الشعر يريد إسقاط منذريوس مصريام].

/

بالنسبة لي، كشاعر، لا علاقة له بالأديان ولا بالطوائف، ولم ينتم لأي ملّة من ملل أهل الأرض، مؤمنة كانت أم مشركة أم ملحدة، تابعة أم خارجة عن الجماعة، أقول لكم إنّي، في الحقيقة، لا أدري معنى هذه الصرخة، ولا أدري ما إذا كانت في محلّها، أو في وقتها، أم أنها كانت نتيجة حماسة زائدة، أو قل خراقة زائدة! ما أعلمه أنّها جاءت بعد كلّ الصرخات:

(لا لشواكيش لا للمسامير)

(لا للأقفاص نعم للأشجار)

(لا للقضبان نعم للأغصان)

(نعم للغيم، نعم للريح، نعم للضوء)

(أجنحة أجنحة أجنحة طيران طيران طيران)

(يسقط يسقط حكم الجاذبية)

صرخة واحدة حصدتها كلّها

صرخة واحدة حزمتها وشدّت عليها بقبضتها الحازمة

الحازمة ولكن الشغوفة

صرخة واحدة هي أمّ الصرخات

أمّ الصرخات كلّها

صرخها الشعب! أقصد الشعر!

- يا اللـه... ليس وقته تكرار مثل هذا الخطأ في اللفظ الآن -

خرجت من فرن القلب

- أكتب الآن كما يحلو لأولئك الذين يعرّفون الشعر بأنه مجازات واستعارات -

ومرّت في سبطانة الحنجرة

صلّبتها الأضراس

ودهنها اللسان بالزيت والرضاب

ثم كوّرتها كالحصى المخضبة الشفاه

"قلت لكم إني شاعر ولم تصدقوا... أيها السفلة"!

وخرجت من فوّهة مسدس الفم

كطلقات الرصاص!

- أهدي هذا المقطع من شعري الثوروي للسيد ف. ماياكوفسكي صاحب المسبّة المهذّبة أعلاه -

...

وها أنذا أقف على حافّة النافذة

خلف ستارة من الظلمة الحالكة

أمعن النظر في انعكاس صورتي على لمعان الزجاج

محاولًا رؤية وجهي

فلا أميز أيًّا من ملامحي

ثم عند التحديق الشديد

لا أرى أحدًا

فلا أدري إن كان يختبئ خلف ظهري

أم إنه في داخلي؟

ام إنه أنا وليس أحدًا في العالم غيري؟

أسمعه يصيح:

[الشعر يريد إسقاط النظام]...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ­

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.