}

وجبات أدبيّة فاسدة

عارف حمزة عارف حمزة 2 سبتمبر 2020
آراء وجبات أدبيّة فاسدة
لوحة للفنان الإيراني فرهاد مشيري

في محاولة لتوسيع ما تطرّقت إليه الزميلة دارين حوماني في مادتها المنشورة في "ضفة ثالثة" بعنوان "التابوهات بين الدولة والدين ودور النشر ... توابيت للأدب والفكر؟"، نجد في كلّ مرّة أنّ هذا الموضوع لا ينتهي أبدًا مهما بلغت الإنسانيّة من تطوّر فكريّ وقانونيّ، فمصطلح "تابو" ما زال موجودًا في كل القواميس واللغات، ليس كمصطلح كلاسيكيّ منقرض، بل كمصطلح ما زال يعيش في كل مكان.
وسأحاول هنا عرض بعض الأفكار والتساؤلات حول التابو الخاص بالجنس.



كلاسيكيّة أكثر حداثة
في أحد حواراتي مع ناشر ألماني صديق، قال لي بأنّ أمنيته أن تتمّ ترجمة ونشر كل الكلاسيكيّات العربيّة، أو الشرقيّة، في اللغة الألمانيّة. وأضاف "إنّه أمر مثير جدًا أن الأدب العربيّ في ذلك الوقت لم يكن يخضع لتابوهات جنسيّة على وجه الخصوص، بينما كانت أوروبا تحملُ المشاعل وتحرق الكتب ومؤلفيها".
إنّه أمر أثار ويثير الكثير من التساؤلات، كيف أن الزمن القديم الكلاسيكيّ كان أكثر انفتاحًا ضد التابوهات الثلاثة، ولو على درجات متفرقة، عن الزمن الحالي، الذي بات يُضيّق أكثر على حرّيات الكتابة والتعبير، ويُوسّع نطاق التابوهات بدل أن يُزيلها، أو على الأقل يضيّقها في أضيق الحدود.


أوامر كسر التابو
عندما نُراجع الكتب التي كتبت في الزمن القديم، خاصة الجنسيّة منها، سنجد في مقدماتها بأنّ الخليفة فلان، أو السلطان أو الوالي أو الأمير، قد كلّف أصحاب كتب جنسيّة بتأليفها، أو في توسعة نطاق ومسائل كتاب قرأه حديثًا. مثل الأمر الذي حصل مع كتاب "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للنفزاوي، والذي جاء في مقدمته، "هذا كتاب ‘الروض العاطر فى نزهة الخاطر مؤلف جليل ألّفته بعد كتابي الصغير المسمّى (تنويع الوقاع في أسرار الجماع) وذلك أنه اطلع عليه وزير مولانا صاحب تونس المحروسة باللّه الأعظم وكان شاعره ونديمه ومؤنسه وكاتم سره وكان لبيبًا حاذقا فطنا حكيما أحكم أهل زمانه وأعرفهم بالأمور وكان اسمه محمد عوانه الزاوي وأصله من زواه ومنشأه الجزائر، تعرّف بمولانا السلطان عبد العزيز الحفصي يوم فتحه الجزائر فارتحل معه إلى تونس وجعله وزيره الأعظم، فلما وقع هذا الكتاب المذكور بيده أرسل إليّ أن أجتمع به وصار يؤكد غاية التأكيد للاجتماع بي"، وبعدها كلّفه الوزير بكتابة "الروض العاطر".
نجد كذلك أن كتاب "رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه" للإمام أحمد بن سليمان بن كمال باشا قد قام بتأليفه بإشارة من السلطان سليم الأول.
أما "ألف ليلة وليلة" فقد كان بالأصل لتأجيل حكم "الملك السعيد" شهريار بإعدام خليلاته البكر.
من جهة أخرى نجد أن ذلك الأدب الحسّي لم يكن مصدر عار لمؤلفه، ولا بابًا لفتح التهم في وجه كتّابه، فنجد أن أكثر تلك الكتب الجنسيّة الواضحة والصريحة قد ألّفها فقهاء وأئمة ذوو وزن وسمعة يشهد لها؛ مثل الإمام جلال الدين السيوطي (1445 – 1505)، والذي وصل عدد مؤلفاته إلى ستمائة مؤلف، كان من بينها عشرة كتب عن النكاح مثل "الإفصاح في أسماء النكاح" و"نزهة العمر في التفصيل بين البيض والسود والسمر" و"الإفصاح في أسماء النكاح.




حاضر مُخيّب للآمال
ليس في العالم العربي فحسب، بل أيضًا في كثير من الدول ما زالت التابوهات الثلاثة، الدين والجنس والسياسة، غير قابلة للتجاوز بسهولة، وفي الدول المتقدّمة، ولكن المحافظة في نفس الوقت، نجد أن كتبًا كثيرة تكسر تلك التابوهات، بشجاعة من الكتّاب ودور النشر، ولا تجد نقادًا يُروّجون لها في بعض الأحيان، وفي كثير من الأحيان يعزف الجمهور المحافظ عن حضور حفلات توقيع تلك الكتب واقتنائها، كما حدث مع الروائيّة والشاعرة الألمانيّة نورا بوسونغ؛ عندما لم يحضر حفل توقيع كتابها "الأضواء الحمراء"، وهو كتاب عن شارع البغاء في هامبورغ، سوى خمسة أشخاص، خرجوا دون أن يشتروا أية نسخة!!
والترجمات من اللغات الأخرى إلى العربيّة تخفي، لوقت ما، التدخلات التي قام بها المترجم أو دار النشر تحت سطوة تلك التابوهات السميكة والفضفاضة. فالقارئ الذي يجهل اللغة الأصل للكتاب، قد تمرّ عليه حيل المترجم ودار النشر دون أن يعرف ما فعله ذلك الرقيب الحيّ بالعمل الذي بين يديه.
ولو أخذنا يوميات الكاتبة الأميركيّة أناييس نن (1903 – 1977)، على سبيل المثال، ستصيبنا المقدمة التي وضعتها المترجمة لطيفة الدليمي بالذهول السلبي الشديد. فاليوميات صدرت عن دار المدى (2013) في أقل من مائتي صفحة، بينما صدرت بالإنكليزيّة في ثمانية مجلدات.

أناييس نن 


















المترجمة نفسها تعترف، في تلك المقدمة، بأسباب ما فعلته من اختيارات وحذف؛ "وقد صدمتُ للوهلة الأولى وأنا أقرأ يوميات أناييس نن، وتوقفتُ برهة بما يشبه الممانعة الخجولة لما يحمله المدى الإنساني الاستثنائي وغير المألوف، إنه فضاء لا يعرف مفردة التحريم وحدودها".
وبعد الكلام عن أدب أناييس واختلافها وجمال ما تكتبه، تقول الدليمي "يبقى لمن يريد أن يكتشف عوالم هذه الكاتبة الخلاقة أن يبحث عن نصوصها المترجمة، وإن كان يُجيد الإنكليزيّة بوسعه أن يستمتع بالمجلدات الثمانية ليومياتها الزاخرة بالجمال والغرابة والسحر والشعوذة والبحث عن المجهول والمختلق ومزج الواقعي بالمتخيّل والخوض في أعماق النفس البشرية وملاحقة مناطقها المعتمة وإضاءاتها وشبقها وجوعها ومخاوفها..".
ألن يُصاب القارئ بالصدمة وهو يقرأ هذه المقدمة من المترجمة؟ ولطالما أنها تعترف بكل هذه الجماليات في يوميات نن، لماذا اختارت مائتي صفحة من ثمانية مجلدات؟ ولماذا حذفت البقية؟ ولماذا على القارئ الذي لا يجيد الإنكليزية أن يتذوق هذه الوجبة الفاسدة، بينما سيستمتع متقن اللغة الإنكليزية بالمجلدات الثمانية؟
المصيبة تأتي عندما نقرأ مبرر الدليمي في عدم ترجمة باقي اليوميات، فهي تقول: "ولأننا في مجتمعاتنا نتعامل مع العمل الإبداعي ونسقطه قسرًا على ذواتنا أو هكذا يفعل القرّاء ويُصدرون الأحكام حين يتماهى القارئ مع النص ويُسقط تماهيه على المترجمة أو الكاتبة، وجدتُ حرجًا كبيرًا في التفاعل مع يوميات أناييس بجوانبها المختلفة وعفويّة سردها المتدفّق..". فإذا كانت المترجمة تفزع من إطلاق أحكام عليها، من قبل القارئ العربي، بأنّها تناصر إباحية أناييس، فلماذا فكرت في ترجمة هذا الكتاب؟ خاصة أن أناييس معروفة بكتاباتها الإيروتيكيّة قبل ترجمة الدليمي لها. أم أن المترجمة تريد أن تثبت بأنها تناصر الترجمة الطاهرة الخالية من الخطيئة والإباحيّة؟
ما يثير الاستغراب أن دار النشر، التي نشرت عندها الدليمي ترجمتها لهذا الكتاب، سبق لها أن نشرت ترجمة لأعمال هنري ميللر، الذي يفوق أناييس في "الأدب الإيروتيكي"، بل يُعتبر أحد معلميها.
قصدنا من هذا المثال أن المترجم نفسه يصبح مدافعًا عن تلك التابوهات، في الوقت الذي نتوسّم فيه، من خلال إتقانه للغات دول متحضرة، أن يُساهم في تهشيم تلك التابوهات، لا أن يتبرع في الوقوف إلى جانبها، وهذا الأمر لا يتعلق بمثال الدليمي فحسب، فهي بقيت واضحة في موقفها "الطاهر"، بل ربما ستأتي ترجمات جديدة لما تُرجم سابقًا توضّح للقارئ العربي بأنه قرأ روايات وكتبًا من تأليف المترجمين المحافظين، وليس من ترجمتهم فحسب.

*شاعر سوري مقيم في ألمانيا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.