}

عن "مركز برمنغهام": من نقد النّص إلى نقد الخطاب

رشيد الخديري 31 أغسطس 2023
تغطيات عن "مركز برمنغهام": من نقد النّص إلى نقد الخطاب
مقترحات فوكو، وغرامشي، وكومبانيون أثرت في رؤية المركز

في موسوعة ما بعد الحداثة التي صدرت سنة 2001 عن دار "روتليج"، كتبت كاثرين دريسكول بحثًا مهمًا حول تأثير مركز برمنغهام للدراسات المعاصرة في بريطانيا في التأسيس للدراسات الثقافية، ووضعه للبنات الأساسية في فهم العلاقة الجدلية بين الثقافة والمجتمع، إلى جانب رفده لمناهج من مختلف العلوم الإنسانية مهما تباعدت واختلفت أيديولوجيًا وبحثيًا. ومن هنا، تبدو قيمة المراكز الثقافية ودورها في فسح المجال للتعبير حتى عند هؤلاء الذين يتصفون كل مرة بأنهم إنتاج الهامش. ولقد تنبه الباحث المصري سامي خشبة إلى أهمية هذه المراكز في دراسة الشخصية العربية، فهي "مثلها مثل دراسة أية شخصية قومية أخرى لا بد أن تنشغل باستكشاف الجوانب والأبعاد والأسس الثقافية لتكوين وتطور، إن لم يكن تغير توجهات ومكونات تلك الشخصية القومية‏.‏ إلي جانب ما تهتم به مثل تلك الدراسة من جوانب السيكولوجية الاجتماعية‏...‏ وللأبعاد والأسس العقائدية، وللعوامل العرقية والجغرافية والتاريخية واللغوية، وغيرها من مكونات الشخصية القومية والتركيبات الاجتماعية‏/‏ السياسية التي تنشئها عبر تاريخ تطورها‏...‏".
لقد تحول الاهتمام مع ظهور مركز برمنغهام من نقد النَّص إلى نقد الخطاب، على أساسٍ من المبادئ والمسوغات النقدية، وقد أشرنا سابقًا إلى شيئين أساسيين ميزا الدراسات الثقافية، وهما: معاداة النظرية، ثم تداخل النظريات، "بل إن هوغارت، أول رئيس لمركز برمنغهام، أشار بوضوح إلى مصادرهم النظرية، محددًا إياها بثلاثة مصادر، هي تاريخية وفلسفية أولًا، وإلى حد ما ـ حسب تعبيره ـ، ثم سوسيولوجية، وإلى حد ما أيضًا، وأخيرًا أدبية نقدية، وهذا هو الأهم كما قال هوغارت"، إلا أن أهم دال اشتغلت عليه مدرسة برمنغهام هو الثقافة الشعبية غير الخاضعة لسلطة المؤسسات الرسمية، وقد رأينا ـ سابقًا ـ أن مفهوم الثقافة في كلِّياته منذ تنظيرات غرامشي وفوكو وغيرتز، وغيرهم، ما يزال ملغزًا وعائمًا، ولم يستقر بعد على تعريف محدد وقابل للثبات، وينطبق الأمر كذلك، على مفهوم الأدب والأدبية، فمنذ محاكاة أرسطو وفن اللغة لبول فاليري وتنظيرات الشكلانيين الروس، ما زال المفهوم مفتوحًا وزئبقيًا ومتحولًا. والواقع أننا أمام تعاريف احتمالية، وليس إجرائية، مما يُصَعِّبُ من مهام الدارس والباحث في الثقافة والأدب والنقد. هي، إذًا، "لعبة ساذجة" كما يقول الغذامي، لو سَلَّمْنَا معرفتنا الحقة بمفهوم الثقافة، فالأمر في غاية التعقيد مما نتصور، وهذا التَّعدد في مفهوم الثقافة من شأنه أن يحدثَ تَعَدُّدًا على مستوى المناهج والنظريات النقدية، ومركز برمنغهام حين بدأ ينشر عديد الأوراق البحثية في موضوع الثقافة الشعبية، فإن ذلك كان رد فعل تجاه المؤسسة وما تنتجه من خطابات الهيمنة والسطو والاستعلاء، ويبدو جليًا أن هذا المركز، قد تأثر بمقترحات منظِّرين مهمين في حقل الدراسات الثقافية، وهما: كليفورد غيرتس صاحب كتاب "تأويل الثقافات"، وريموند ويليامز مؤلف كتاب "الثقافة والمجتمع"، إضافةً إلى مقترحات ميشيل فوكو، وأنطونيو غرامشي، وأنطوان كومبانيون، وآخرين.

المركز تأثر بمقترحات منظِّرين مهمين في حقل الدراسات الثقافية، وهما: كليفورد غيرتز صاحب "تأويل الثقافات"، وريموند ويليامز مؤلف "الثقافة والمجتمع"





التزم المركز منذ تأسيسه في ستينيات القرن الماضي على يد ريتشارد هوغارت، ومن بعده ستيوارت هول، وريتشارد جونسون، ومايكل غرين، إجراء بحوث في مجال الثقافة الشعبية وتقاطعاتها مع مناهج النقد الأدبي، وعلم الأنثروبولوجيا، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والموسيقى، وغيرها، وكانت الغاية إعادة الاعتبار إلى الموروث الشعبي البريطاني أولًا، ثم الكوني المشترك مع باقي الشعوب. صحيح أن المركز في بداياته الأولى كان يشتغل بهيئة تدريس محسوبة على رؤوس الأصابع، إلا أن التعاون الوثيق بين الهيئة والطلاب أدى إلى تحقيق نتائج مبهرة، منها:
ــ إن الثقافة الشعبية لا تستحق الدراسة الأكاديمية فقط، ولكنها في حاجة إلى الدراسة من جوانب متعددة، منها السياسي والأنثربولوجي.
ــ أهمية الفنون الفرعية، مثل الموسيقى، واللهجات، والأسلوب في تكوين ثقافة الشباب البريطاني.
ــ التأثير الأيديولوجي الذي تمارسه الفتيات اللاتي يظهرن على أغلفة المجلات على الأطفال واليافعين.
ــ الهلع الأخلاقي الموجود في المجتمع البريطاني بسبب مجتمعات السود التي تطورت في بريطانيا منذ سنة 1970.
وبالتالي، فالمركز كرَّس جهوده البحثية لدراسة التحولات التي عرفها المجتمع البريطاني خارج ما هو مؤسساتي أكاديمي، واتخذ من أوراقه البحثية منهجًا علميًا في إخراج الثقافة من مفهومها الضيق إلى الشمولية في التعاطي مع الظواهر المجتمعية، علمًا أن الثقافة ـ كما أشرنا سابقًا ـ هي حضارة الشعوب، وسلوك عيشها، فالمجتمع البريطاني ظل لقرون مُقَسَّمًا بين ثقافة النبلاء وثقافة العامة، حتى أن شكسبير في مسرحياته رأى أن ثقافة النبلاء ثقافة الرقي والتحضر، قياسًا مع ثقافة العامة التي تمثل قمة الانحطاط والهمجية، بل تم تقسيم المسرح الذي كانت تُعرض فيه مسرحيات: "عطيل"، و"هاملت" إلى جزء خاص بالنبلاء، وآخر خاص بالعامة، هذا التمييز، أو نظريات التقسيم الثنائي للثقافة، هو الذي تصدى له مركز برمنغهام للدراسات المعاصرة منذ تأسيسه، أسوة بالنظريات اللسانية والأنثربولوجية التي عملت على إلغاء الحدود الفاصلة بين الثقافة العالمة والشعبية، "وهكذا حصلت قناعة عند الجميع بأنه لا يمكن فهم الثقافة الشعبية في معزل عن المؤسسات الاجتماعية التي أنتجتها، أو أعيد إنتاجها من خلالها، فحتى ذلك النص الأدبي المقنن الذي كان في ما مضى يُنظر إليه كنص مؤسساتي له علاقة بالأيديولوجيا السائدة التي تشكل بدورها فكرًا للنخب السائدة، إذ لا يمكن دراسة الثقافة دون دراسة القنوات والطرق التي تمر عبرها من شخص لآخر، ومن فئة اجتماعية أخرى".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.