}

الأدب والنقد: في العلاقة الجدلية بينهما

رشيد الخديري 29 سبتمبر 2023
آراء الأدب والنقد: في العلاقة الجدلية بينهما
(Getty)
بالوسع القول إن الأدب يتطوّر بتطوُّر النقد، ذلك بـ "أن الأدب يتعذَّر أن يستشرف آفاقا جديدة من دون حركة نقدية تواكبه وتستقصي دلالاته وأبعاده وتثمن اقتراحاته الجمالية"(1)، ونقصد بالنقد ها هنا تلك الممارسة المنهجية والإجرائية التي تروم قراءةَ النص الأدبي قراءة ناجزةً ودقيقةً، انطلاقًا من خلفيات نظرية ومعرفية يستند إليها ويسترشد بها كل دارسٍ للأدب. بيد أن هذه النقلات النوعية في البحث النقدي قد أسهمتْ في بناء المعرفة وتطورها، بما هو قمين ببلورة خطاب نقدي بالمعنى الدقيق والنّاجز، فمنذ النظرة الكلاسية للأدب إلى بروز الاتجاه البنيوي في ستينيات القرن الماضي وصولًا إلى التيارات النقدية الجديدة التي تخلَّقت في حواضن ما بعد البنيوية كالدراسات الثقافية والنقد الثقافي والتاريخانية الجديدة والجنسانية وأدب التَّابع وغيرها، لا تنفك هذه الجهود النقدية ـ على اختلاف مرجعياتها وتصوراتها ـ تُقدم نفسها بطريقة مختلفة ومغايرة، حيث إن كل اتجاه نقدي جديدٍ "يجد مستنده الأساس في كونه يريد فرض مسلماته وفرضياته على السائد، باحثًا له عن موقع يميزه ويهبه الحصافة ويبوئه المكانة التي ينشدها. وهو لكي يعثر له على موطئ قدم يُثبت، من خلالها، مشروعيته، يبحث له عن تاريخ قريب أو بعيد يدرج نفسه في نطاقه، ويسعى إلى تأكيد أنه جاء تطويرًا له، وإسهامًا في تشكيله بكيفية مغايرة"(2).
وهذه الانشغالات النقدية التي تُميِّز كل اتجاهٍ نقدي تبلور قناعات مختلفة ومتباينة، لكنّها تجنح دائمًا نحو القطيعة مع الاتجاهات الأخرى. بمعنى أننا لا نتعامل مع كل جديدٍ نقدي بمبدأ السيرورة، وإنما نسعى لإحداث قطيعةٍ مع كلّ النظريات النقدية السابقة، والإسراع نحو تلقُّف الاتجاهات النقدية التي تظهر في الغرب نقلًا وتلقيًا وترجمة. "ويبدو أننا في علاقاتنا مع ما يتجدد في الغرب من نظريات لا نأخذ في عين الاعتبار هذا الوضع، فنسارع إلى تبني جديد النظريات، ونقطع مع كل ما كنا نمارسه سابقًا، مما استفدناه من نظريات غربية أيضًا، وينجم عن هذا أن وعينا الأدبي وممارستنا إياه قائم على الانقطاع لا الاستمرار"(3).
إن الممارسة النقدية العربية بما تنطوي عليه من اقتراحات يشوبها نوع من التفاوت، إذ تظلُّ مفصولةً عن سياقاتها وأسئلتها وإشكالياتها، وأيضًا عن ما يُسمِّيه بيير بورديو بـ"الشروط المُتيحة"، ويقصد بالشروط ها هنا تلك الشروط التي تتيح إنتاج نظرية ما في إدراكٍ تامٍ للخلفيات والرؤى والمفاهيم والخصوصيات، فإن كل نظريةٍ مُعَرَّضَةٍ للتشويه والابتسار، ما لم تكن مُستندة إلى جهاز مفاهيمي على قدرٍ كبيرٍ من الدقة والتفاعل والاستيعاب. وقد أشار الناقد محمد برادة إلى أن "مسألة (التفاوت) المستمر بين فترة إنتاج الخطابات النقدية الأوروبية ـ الغربية، وبين فترة وشروط تلقيها داخل الحقل الثقافي العربي، هي عنصر إشكالي كثيرًا ما يطمس الفهم ويُحرِّفَ التفسير، ذلك أن المناهج والمفاهيم والخطابات النقدية الأوروبية تظلُّ ملتصقة بمناخ ينتج المعرفة في مختلف العلوم وبخاصة العلوم الإنسانية التي تمد النقد الأدبي بمقولات ومفهومات إجرائية... بينما نفتقد نحن هذا الإسهام في إنتاج المعرفة العلمية، وغالبًا ما نتعيش على الاقتراض والاقتباس والترجمة، في غياب استحضار دقيق لسياق إنتاج تلك المعرفة وتجلياتها التطبيقية..."(4).
لقد ظلَّ هذا التفاوت الحاصل في استقبال النظريات النقدية المستعارة من الغرب مثار نقاشٍ على مدار سنواتٍ طويلةٍ، من دون أن نَتَمَكَّنَ من وضع مسارنا النقدي في الاتجاه الصحيح، أو نلامس توجُّهاته الحاسمة في تقاطعاتها مع رهانات الأمة وطموحاتها.
إن مثل هذه الالتباسات في تلقِّي النظريات النقدية ومحاولات تكييفها مع التّحولات التي بات يشهدها النقد العربي، خليق بأن يُجيب عن أسئلتنا الجوهرية ويُسهم في تعميق النقاش حول مجموعة من الآراء والقضايا وإرساء مقاربات تستجيب لتطلعاتنا ورهاناتنا. وفي هذا الصدد، لا بد أن نُثَمِّنَ إسهامات نقادنا في تبئير النقاش حول شواغل النقد العربي، ووضع مساره تحت الأضواء الكاشفة بما يعكس أصالتهم وجدتهم رغم افتقاد هذه المجهودات "للالتحام والإجرائية المضيئة للنصوص العربية بطريقة ملائمة"(5)، كما تنبَّه إلى ذلك الناقد محمد برادة. مثل هذه الاستقصاءات أضحت اليوم ضرورة ملحة للتحرر من ترسُّبات التّقديس، ووهم السّبق، والتّقليد الأعمى.




ومن المسلّم به في مجال النقد والنظريات الأدبية أن نتصوَّر إمكانية الوصول إلى فعلٍ نقدي منتج وفعَّال، ما لم يكن مُتَّصِلًا بشروط إنتاجه وسياقات بنائه، وقادرًا على إعادة التفكير في الأدب وتعميق النقاش حوله وتجديد آليات البحث والتَّقصي والمساءلة، حيث إنه "لا يُمكن للأداة النقدية أن تستجيب للطموحات ما لم تكن في دورها خاضعة لبوصلة واضحة، ولصرامة نظرية تضع الاستراتيجيات وتحدد الثوابت والمنطلقات"(6). وهذه المسلَّمة تفرض البحث الدائم، المتحفِّز، الوثَّاب في عوالم التنظير النقدي واستشراف آفاق أوسع وأرحب، حتى يكون التفكير في الأدب من جهة، وفي المرجعيات النظرية لكل خطابٍ نقدي من جهة أخرى، تفكيرًا عميقًا، ملتحمًا مع تحولات الممارسة النقدية العربية بحثًا وتنظيرًا وأجرأةً، وما يعنيه هذا الالتحام من قدرة على الإنصات الجيد لنبض النصوص في علاقتها الجدلية مع خصوصية كل منهج نقدي "بعيدًا عن الإسقاطات المفاهيمية الجاهزة، والتي من شأنها خنق النص ومحاصرته بترسانته النظرية"(7).
والواقع أن البحث في الالتباس الكامن بين النص والميتا ـ لغة يشوبه كثير من الجدل، حيث إن التطور الذي يَسِمُ الخطاب النقدي جعل النَّصيات تنفتح على عددٍ لانهائي من القراءات. وفي هذا النِّطاق، يمكننا القول إن كلَّ منهجٍ نقدي يَدَّعِي امتلاكه لمنظورٍ قرائي تحليليٍ ناجزٍ وقادرٍ على التعاطي مع الظواهر الأدبية، في حين أن "ما يفرض نفسه بإلحاحٍ هو تأسيس خطابٍ نقدي يحاول الجمع بين كل النتائج التي توصلت إليها هذه المناهج، لأنّه يمكن للناقد الذي يوظف منهج السرديات أن يصل إلى أجوبة، كما يمكن للناقد الذي يشتغل بالسيميائيات أن يضيف أجوبة أخرى... والذي يبقى هو محاولة الدعوة إلى نقد يتبنَّى النتائج الكبرى..."(8). وبقدر ما يتَّصف الأثر الأدبي بالانبجاس والتخييل والانفعال، والجنوح نحو اللغزية والإيحاء والتشظي، بقدر ما يَتَخَلَّقُ النقد ضمن حواضن التأمل والاحتدام والتَّزود بالمُتَطَلَّبَات المنهجية والتنظيرية، ثم الحياد والموضوعية والأجرأة التطبيقية، وهذا ما يؤدي ـ في طبيعة الحال ـ إلى بروز بنيتين نصِّيتين متباينتين، لا بد لهما من توفر شروط التضايف والامتصاص والترتيق.




وعملية الترتيق هذه لا بد لها أيضًا من وجود قدرٍ كبيرٍ من التماهي والتآلف بينهما، "وهي نقلة لا بد من أن تتسم بحدٍ أعلى من الانسجام والتوافق، يفرض ضرورة التحام الأصل والفرع، وحلول الواحد منهما في الثاني حلولًا خاليًا من أي تنافر، أو نبوٍّ"(9). وإن جاز اعتبار هذه العملية نقطة ارتكازٍ لفهم الظواهر الأدبية وتفسيرها في اشتباكها مع الممارسات النقدية، فإننا ملزمون بتطوير ممارساتنا ورؤانا ومنطلقات تنسيبنا، وذلك سيعزِّزُّ وضعهما الاعتباريّ ويُشَجِّعُ على اجتراح مزيد من المقترحات الجديدة.

"الشروط المُتيحة" عند المفكر الفرنسي بيير بورديو هي تلك الشروط التي تسمح بإنتاج نظرية ما (Getty)


إن هذا الالتزام المبدئي القائم بين الأدب والنقد على مدى قرون طويلة، وحدود التَّوالج والتَّضايف بينهما، خليق بأن يجترح مزيدًا من الأسئلة، لأن الأساس في البحث النقدي ـ أي بحث ـ، ليس الجواب في حد ذاته، وإنما في إثارة أسئلة أخرى واستيلاد تصوُّرات نقدية جديدة تأكيدًا على سيرورة المعرفة، بما نَتَمَلَّكَهُ أو لا نَتَمَلَّكَهُ من يقينيات حول قدرة هذا المنهج من دون غيره على إثارة أسئلة أخرى، مما هو حقيق بمحاورة النص الأدبي، والكشف عن سماته الفنية والبنائية، بعيدًا عن التَّلقي السلبي للنصوص. لذلك ينبغي أن "تكون القراءة نشطة ومنتجة حين يكون في مقدور القارئ أن يفهم النص ويفسره فيناقشه أو يحاوره: يقبل ما يقوله النص، أو يرفضه. يعرف كيف يصغي إليه فيسأله، ويقرأ أسئلته فيرى إلى احتمال الأجوبة"(10).

هوامش:
1- الخضراوي إدريس: الأدب موضوعًا للدراسات الثقافية، جذور للنشر، ط 1، 2007، ص: 156.
2- يقطين سعيد: ضمن مقدمة كتاب "الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار"، إدريس الخضراوي، رؤية للنشر والتوزيع، ط 1، 2012، ص:8 ـ 9.
3- يقطين سعيد: الفكر الأدبي العربي، البنيات والأنساق، منشورات دار الأمان ـ  منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، ط 1، 2014، ص: 22- 23.
4- برادة محمد: محمد مندور وتنظير النقد العربي، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط 3، 2005، ص: 8 ـ 9، (هذا الكتاب هو في الأصل أطروحة جامعية ناقشها برادة بجامعة السوربون سنة 1973).
5المصدر السابق، ص: 9.
6- الشندودي عبد الحكيم: نقد النقد، حدود المعرفة النقدية، أفريقيا الشرق، ط1، 2016 ص: 5.
7- عمراوي عبد الخالق: الذاكرة ملاذ السرد ـ قراءة في ثلاثية أحلام مستغانمي ـ طوب بريس، الرباط، ط 1، 2017، ص: 7.
8- القمري بشير: ندوة الآداب: الرواية العربية: إشكالات التخلق ورهانات التحول، أعدَّ الندوة: عبد الحق لبيض، مجلة الآداب، العدد 7 ـ 8، يوليو ـ أغسطس، 1997، ص: 69.
9- بن نوار بهاء: الكتابة وهاجس التجاوز، دار فضاءات، عمان، ط 1، 2012، ص: 8.
10- يمنى العيد: الراوي: الموقع والشكل- بحث في السرد الروائي ـ مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط 1، 1986، ص: 13.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.