}

هواجس حول قلق اللغة

فدوى العبود فدوى العبود 30 نوفمبر 2023
آراء هواجس حول قلق اللغة
من فيلم "الطائر الملون" عن رواية جيرزي كوزينسكي (IFC@)

 

إنّ مقالًا عن اللغة يفترض ضمنـًا تطوافنا خارج المساحات الآمنة، فمُذ تناول آدم الفاكهة المحرّمة وبشكل أدق منذ اختار إبليس أن يستقرّ في فم الحيـّة وسؤال اللغة يبتغي لأم الشرخ الذي أحدثه العصيان.

وفي وقتنا الراهن، ينفتح السؤال على فرضيـّات رولان بارت الذي تساءل مرة: إذا كان للغةِ صوت وهسهسة، محاولًا البحث عن هذا الصوت فيما حولنا، على اعتبار أن الكلمة دال تسكنه الأخيرة.

وإذا كانت برأي كثيرين وسيلة تواصل وثراء، فلا بدّ أن آخرين ينساقون للفهم الدولوزي (نسبة لجيل دولوز) في تركيزه على الجانب العنفي لها باعتبارها إما حاملة للحقيقة أو للباطل؛ وهنا ينبثق سؤال يتعلق بقدرتها على التغيير والدور الذي تقوم به وعن الحدود بين اللغة والواقع الذي تعبر عنه.

كتب لودفيغ فتغنشتاين: ليس من الضروري أن نخترع "لغة مثالية" من أجل رسم الواقع... لغتنا العادية هي صورة منطقية، ويكفي فقط أن نعرف الطريقة التي تدل بها كل كلمة... لكن هل تكفي المعرفة بالدوال والأصوات لكي تنفتح لغتنا على كل إمكانياتها؟

يمكن التمييز في هذا الخصوص، بين لغة تعمل من داخل السياق الثقافي، وهي التي يحدسها القارئ بسهولة ويسر، ويمكن وصفها بالنص الذي يخلو من القلق؛ نص مطمئن يريد تثبيت شيء ما على الدوام أو الدفاع عنه، نص يعيش وينمو داخل النظام المعرفي السلطوي. ولعل أزمة الأنا الكاتبة التي تنتجه، تتمثل في هذه السكينة التي تعكس هذه الرؤية للكتابة بكونها تميل لبلورة الأشياء. مع أن الكتابة كالزمن عليها ألاّ تبلور شيئًا؛ بل إنها وإن تمتعت بالرغبة في اختراق المحظور ستفعل ما خشي منه هاندكه ذات يوم، أن "تهتم بنفسها وتنسى الحدث الذي انطلقت منه".

وعوض اختراق الواقع المروي وطبقاته، تبقى كأسماك جاك لوسركل الميتة، مكتفيةً ونهائية، ناجزةً ويقينية، تطفو على السطح الهادئ للوجود أو لما تصفه. وهنا يحق للقارئ التساؤل: أيهما أجدى أن تكون اللغة كالأوتاد التي تثبّت أركان الخيمة أم كالريح التي تعبث بأطرافها!

وهذا سؤال لا يجيب عنه عالم اللغويات أو الألسنيات؛ بل الكاتب والروائي والقاص العربي الملقى خارج حقل الجاذبية، كرائد فضاء أفلت من مكوكه في المدار، والذي لا يرى في الأدب أكثر من مجرد حكاية. إنه مهجوس في نصه الإبداعي بالأحداث والتقنيات والحبكة وخيط السرد فكأنه لم يسمع اصطكاك أسنان فولتير حين كتب: "أفرك لغتي حتى أدميها".

أين تزجّ بنا عبارة الناقد باسم أحمد القاسم - الذي يرى أن الكاتب العربي يعيش الوهم بالحداثة- "فنحن بحسب تعبيره يجب أن نتخيّل اللغة"، وهذا ما لم يتحقق في النص السردي العربي على عمومه. فقد يسهم المبدع - بوعي أو بدونه- بتكريس السائد عبر لغة يقينية أو وعظية والأخطر الاستعمالية التي تسهم في توطيد ما يفترض بها مقاومته إنها لغة تنتمي لما يسميه إيهاب حسن الجنجورية أو الخطابية "وهي تتألف من كلمات مضللة تعيد بناء الواقع بطريقة غريبة مثيرة للضحك في بعض الأحيان".

ولكن وسط هذا ثمة ما يدعو للتفاؤل: فكل نص تنتجه الثقافة السائدة يتضمن في قلبه نصّا آخر ينسفه وهنا تعمل اللغة من خارج السياج. وبالذهاب نحو تلك الانزياحات لتفكيك العلاقة بين الكون السرديّ والواقعي سنعيش بكثافة قلق اللغة!

فماذا لو لم تكن لغة كافكا كما وصفها رونالد جراي بالبلور. هل كنا لننخرط في عالمه وكأنه عالمنا.

ألا تتلاعب القصص عند لويس بورخيس عبر اللغة وحدها بافتراضاتنا وفي هذه الكتابة التي تتحدى كما وصفها ديفيد هولاندر: افتراضاتنا حول ماهية الأدب وما يمكن أن يكون عليه.

وهل كان بإمكان كارلوس ليسكانو أن يشّرح القلق المطلق داخل غياب الحركة واستحالة الكتابة، لو لم يخرج على نظامها في لغة بيضاء تدمر المعنى الذي نفهمه للوجود.

وعبر العنف الكامن في النبرة الرتيبة للتنويم المغناطيسي استطاع جورج أورويل في رواية 1984 أن يظهر كابوسية عالم الأخ الأكبر. وأدرك خطورة الضمور اللغوي ولذلك عمل من تحت جدارها ذاته، ومن خلال الصورة المفارقة والكلمات الرتيبة التي وصفها البعض بالإسهاب والتكرار الممل أظهر أورويل ضحالة العالم اللغوي الذي يتكون منه عالم ونستون. فالأخ الأكبر يحذف المترادفات ضمانًا لمصادرة الوعي؛ لأن الكلمات المحدودة تختصر قدرة الناس على التفكير.

بالنسبة لميشيلا مارزانو فالطريقة الوحيدة للتصدي للثقافة "هي تفكيك هذا النص بإنتاج نص آخر منه" وهي تطرح مسألة اللغة بقوة وعمق، لاجتراح لغة جديدة تنبع من حرية المبدع الذي "لن يكون كالمزارع الذي يحرث حقلا لغويـــــًا متتبعّا خطوط محراث النظرية، فالطريق الذي سيتبعه في تقدمه خارج الأرض المحروثة".

الكلمات هي صياغة وصناعة المستقبل بخلخلة هذا الحاضر وتفكيكه. وحين تنظر الكتابة الروائية والقصصية إلى نفسها بكونها أكثر من مجرد حكاية؛ عندها بإمكاننا الحديث عن لغة خارج الأسوار. فوعي الأشكال الفنية وابتكار طرق تعبير جديدة لا يقل عنه أهمية الانتباه للطوب الذي يبنى منه البيت.

والسؤال هل الأدب مجرد حكاية لتثبيت قيمة أم لإرجاعها إلى وضعها الأول، أليست القيمة الأولى هي الإنسان لا الأحكام!

وهذا ليس حكمًا أخلاقيًّا بقدر ما هو جمالي وعند أورويل "إذا كانت كل السجلات تحكي القصة نفسها، فإن الأكذوبة تدخل التاريخ وتصبح حقيقة، عبر اللغة".

في حكاية العصفور المبرقش لجيرزي كوزينسكي يصطاد "أطفال بولنديون العصافير، ويلونون ريشها، ثم يطلقون سراحها. حين تعود العصافير إلى حريتها تلحق بسربها، فلا تتعرف إليها العصافير الأخرى، فتهاجمها وتقتلها". وهذا ما يستدعي ضمنًا حكاية عصافير كثيرة قتلها اختراق النظام الثقافي (مأساة الحلاج، سلخ فروة رأس عماد الدين نسيمي، محنة ابن رشد).

وإذا كانت اللغة ابنة الثقافة تنشأ في بيتها وتتغذى من زادها، وتعمل أمـــــــــةً لها في عصور الانحطاط، فكيف تخترق الأخيرة أو تقلب الطاولة عليها، إنه سؤال تطرحه الكتابة على ذاتها وهنا يتعلق الأمر بسؤال هل العلاقة بين الكاتب وبينها علاقة عشق زوجي أم قلق وحوار مستمر!

فحين تفقد اللغة هذا القلق وهذا الحوار يسود الكلام وهذا شبيه بالثرثرة عند هايدغر أي السقوط في تهويمات وفخاخ إنشائية ورطانة جوفاء.

وهذا يجعل السؤال الذي طرحه البعض مشروعًا فيما إذا كانت الثقافة تتحدث من خلالنا أم نتبع الطرق التي تفتحها لنا لاختراق السائد ومساءلته. كتب باشلار مرة "لا يجب أن نتكلم لغة جديدة بعبارات قديمة.

فالكتابة بوصفها بحثًا عن الحرية وانعتاقـًا من القيود وشكًا في اليقينيات تدخل في حوار مع اللغة لتعيد تعريفها في كل سردية جديدة وحتى "لا نخفض دور المبدع إلى منزلة الحكواتي، فنساوي الأدب بالأكاذيب".

والقارئ المطّلع على الكتابة الروائية والقصصية العربية الآن، يشعر أكثر من أي وقت مضى أن الرواية بحاجة لتخوض هذا الحوار. وبنظرة خاطفة على النصوص السردية نرى، أن اللغة ورغم أنها رحلت بعيدًا عن بيت الطاعة لكنها واظبت على العودة إليه.

*كاتبة سورية.

إحالات:

- جمال، حمود، فلسفة اللغة عند لودفيغ فتغنشتاين.
- حسن، إيهاب، تحولات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة، دار شهريار، العراق، 2018.
- جاك، لوسركل، عنف اللغة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005.
- ألبرتو، مانغويل، مدينة الكلمات، دار الساقي، بيروت، 2016، ص17.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.